كتابة المقالة أسهل بكثير وأقل التزاما من كتابة البحث العلمي، فنحن لا نطالب كاتب المقالة بشيء أكثر من أن تكون فكرته واضحة، وألا يتناقض. مع أن التناقض لا يعني شيئا سوى أن الفكرة لم تكتمل بعد في لحظتها التاريخية. تناقضك يدل على أنك تعيش لحظة قصور في الوعي.
لا أحد يطالب كاتب المقالة بالإشارة إلى مراجعه على سبيل المثل، بينما نجد أن كتابة البحث تتطلب أمورا كثيرة تتجاوز سرد المراجع. ومع هذا، لا يمكن لأحد أن ينفي الشبه الكبير بين كتابة المقالة وكتابة البحث. فالمقالة، أو هكذا يفترض فيها، بحث صغير في موضوع معرفي ما، حتى وإن أخذت صورة التعليق القصير.
أول ما يجب أن يراعيه من يتصدى لكتابة بحث علمي، هو أن يكون هدفه الوصول إلى الحقيقة. إذا غابت هذه الغاية، فمصير البحث والباحث هو الاندماج في عملية تزييف الوعي، وبالتالي لن يضيف الباحث إلى نفسه ما يسره أن يبقى. وهكذا لم يكن الفلاسفة عبر القرون السابقة، ينشغلون بشيء سوى الحقيقة، بوضوحها وتميزها، وجفافها أيضا.
فإذا التزم هذا المبدأ فعليه أولا أن يسكت لبعض الوقت. لا يصح من الباحث أن يدلي بآراء قبل أن يقول البحث كلمته. هذه قضية تبدو غريبة بالنسبة إلى من لا يستشعرون إمكان أن يكون البحث كائنا حيا. والبحث هو الذي يقرر وليس الباحث. والبحث هو الذي سيحيلك إلى مراجع ضرورية له وسيخبرك عن تفاوتها في الأهمية، وهو الذي سينتقي من تلك المراجع ما يشاء وسيترك ما يشاء. وفوق كل هذا، البحث هو الذي سيحدّد متى ينتهي، وهذه زبدة ما نريد قوله في هذه المساحة، ولن يفيد أبدا أن يحاول الباحث استعجاله أو الخلوص إلى نتائج لم يحن وقتها بعد، أو لا تبدو منطلقة من مقدماتها بشكل منطقي.