عبد الله الطايع في أروقة ماضيه المؤلمhttps://www.majalla.com/node/322706/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%B9%D8%A8%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%B7%D8%A7%D9%8A%D8%B9-%D9%81%D9%8A-%D8%A3%D8%B1%D9%88%D9%82%D8%A9-%D9%85%D8%A7%D8%B6%D9%8A%D9%87-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A4%D9%84%D9%85
يدعونا الكاتب المغربي الفرنكفوني عبد الله الطايع إلى اكتشاف عالم طفولته ونشأته الأولى، من خلال بطلي روايته الجديدة، "برج الدموع"، التي صدرت حديثا في باريس عن دار "جوليار"، وتنتظرنا فيها قصة طفولة رهيبة، وصداقة مؤثّرة، وإرث يصعب تصريفه.
بطل الرواية الأول، يوسف، أستاذ مغربي أربعيني يقيم في فرنسا منذ 25 عاما. حين تتوفّى أمه، عام 2019، يعود إلى وطنه لبيع منزل العائلة الذي ورثه، فتشتعل داخله ذكريات يمتزج فيها الألم ولحظات سعادة عابرة. ذكريات إطارها الجغرافي مدينة سلا المغربية التي وُلد ونشأ فيها، ولا تلبث أن تتحول إلى مسرح تنكشف على خشبته التمزقات والمحن التي طبعت سنوات طفولته ومراهقته.
أشباح الماضي
وفعلا، أثناء تجواله في شوارع هذه المدينة وزواريبها، تحضر على يوسف أشباح الماضي، وفي مقدمهم نجيب، صديق صباه الحميم، وبطل الرواية الآخر الذي يتداخل قدره المأسوي مع قدر يوسف بطريقة تكشف مدى تواطئهما، ولكن أيضا اختلافهما. فبينما يختار يوسف الرحيل إلى فرنسا لدراسة الأدب الذي ولع به منذ صغره، يرتبط نجيب بعلاقة مع كولونيل وتاجر مخدرات، وينغمس كليا في عالمه، قبل أن يعود إلى سلا لدى وفاة صديقه لمعاقبة عائلته التي نبذته.
ثمة شخصية رئيسة ثالثة في الرواية هي مدينة سلا نفسها، حاضنة ذكريات يوسف ونجيب، السعيدة والمؤلمة. مدينة نكتشفها عن كثب من خلال وصف حميم يجعل أجواء الحياة فيها ملموسة، بشوارعها الضيقة والصاخبة، وأحيائها الفقيرة، وحماماتها التي تحدث في غبش بخارها أشياء كريهة، وأسوارها القديمة التي تمنح الرواية اسمها، "برج الدموع": "سلا الملعونة. سلا النتنة. سلا السجن. سلا الجحيم. سلا الحريق الدائم. سلا القاتلة. سلا معدومة القلب. سلا مدينتي التي أحبها على رغم كل شيء"، يقول يوسف في أرجائها. ولا عجب في قوله هذا، فتحت أسوارها قدّم لنجيب وعدا بصداقة ووفاء حتى الموت. وعد لن يحُل صدقه دون انهياره على مذبح اختلافهما.
مدينة نكتشفها عن كثب من خلال وصف حميم يجعل أجواء الحياة فيها ملموسة، بشوارعها الضيقة والصاخبة، وأحيائها الفقيرة، وحماماتها التي تحدث في غبش بخارها أشياء كريهة
علاقة يوسف ونجيب نشأت في سن المراهقة على أرضية مأساة واحدة. فلأنهما كبرا محاطَين بأخوات كثيرات، اتّسمت شخصيتاهما باكرا برقّة بالغة. سمة خطيرة داخل مجتمع متسامح مع التحرّش الجنسي بالأطفال. والنتيجة؟ سيختبر كلّ منهما في طفولته الاغتصاب اليومي، أحيانا من عدة رجال في آنٍ واحد. اعتداءات رهيبة تتكرر بعلم أفراد عائلتيهما، الذين لا يكتفون بعدم فعل أي شيء لحمايتهما، بل يذهبون إلى حد اعتبارهما مسؤولين عما يحدث لهما. من هنا رغبة نجيب في الانتقام منهم، وتلبيته هذه الرغبة حين يصبح ثريا وصاحب سلطة. ومن هنا أيضا تأرجح يوسف حتى النهاية بين انتقام وغفران، نظرا إلى الحب الذي يكنّه لأخواته، وبالتالي تلك المعضلة التي يتعذّر حلها وتتمثّل في سؤال يعبر كل فصول الرواية مثل خيط أحمر: هل يمكننا أن نغفر لمن مزّق براءة طفولتنا أو شارك في ذلك بلا مبالاته واحتقاره لنا، أم أن الانتقام منه هو الوسيلة الوحيدة لمتابعة الحياة وإعادة تشييد الذات؟
حبر الحياة
مَن قرأ روايات الطايع السابقة يعرف أنها تنتمي جميعا إلى نوع "الخرافة السيرذاتية" (autofiction). ولأن "برج الدموع" لا تشذّ عن هذه القاعدة، لم يخطئ أحد النقاد الفرنسيين بقوله إن الطايع يكتب بحبر حياته، والشخصيات الرئيسة لرواياته تتشابه في ما بينها، لأنها تشبهه.
هل يمكننا أن نغفر لمن مزّق براءة طفولتنا أو شارك في ذلك بلا مبالاته واحتقاره لنا، أم أن الانتقام منه هو الوسيلة الوحيدة لمتابعة الحياة
إلى ذلك، يمكننا أيضا إضافة مقاربته الموضوعات نفسها في جميع أعماله، مثل سيرورة تشكّل الهوية الفردية، دور الإرث العائلي في تعزيز شخصية الفرد أو سحقها، التعريف الجامد لدور كلّ من الرجل والمرأة داخل المجتمعات الشرقية، الصراع بين تقليد وحداثة، التهميش والعنف الناتجين من هذا الصراع، فضلا عن الثمن الباهظ الذي يدفعه كل مَن يختلف عن الآخرين سواء على المستوى الاجتماعي أو السياسي أو الجنسي. لكن تواتر هذه الموضوعات في مشروع الكاتب الروائي لا يعني إطلاقا التكرار والدوران على الذات والاجترار. ففي كل مرة، ينجح في ابتكار حبكة سردية جديدة تسمح له بتحديث زوايا المعالجة ونبرة خطابها.
وفي هذا السياق، تشكّل "برج الدموع"، أكثر من أي رواية سابقة للطايع، مرافعة عنيفة ضد النفاق الاجتماعي حيث الغالبية تعتبر المثلية عيبا، لكنهم يبدون متسامحين مع التحرّش الجنسي بالأطفال، ولأنه بمجرد امتلاك الشخص المثلي سلطة وإغداقه المال عليهم، لا يعود منحرفا في نظرهم، بل يتقبّلونه، كما يحصل مع نجيب لدى عودته إلى حي السلام في سلا. ولا يستثني الطايع في مرافعته العائلات التي لا تحمي أطفالها من التحرّش والاغتصاب لأن اختلاف شخصياتهم تثير لديها مشاعر العار والقرف والاحتقار، فتتركهم عرضة لهذه الاعتداءات التي غالبا ما تحصل بعلمها، وأحيانا على مرأى ومسمع من أفرادها. وما يمنح هذه المرافعة كل سطوتها وصدقيتها هي تجربة صاحبها بالذات، الذي يتكلم في هذه الرواية، كما في جميع رواياته السابقة، عن أشياء اختبرها بنفسه في طفولته.
تدور معظم أحداث "برج الدموع" خلال عهد سابق، وتسلط الضوء على عمليات التهريب التي كان يديرها ضباط جيش، من طريق قصة نجيب والكولونيل. وكما في كل واحدة من رواياته، لا يفوّت أيضا فرصة انتقاد استخدام الدين كأداة سلطوية ظالمة.
غرفة أصداء
باختصار، تشكّل "برج الدموع" لوحة تعبيرية دقيقة يتجلى فيها المجتمع المغربي المعاصر بمختلف مشاربه. وقد رسمها الطايع انطلاقا من معيش بطليه في وطنهما، ومن علاقاتهما سواء بأخواتهما أو بالمنزل الذي ترعرعا فيه. علاقات متشابهة إلى حد ما، لكنها لا تفضي إلى الخيارات نفسها، كما سبق وأشرنا. فبخلاف نجيب، لن يستسلم يوسف لنزعة الانتقام من أخواته، على رغم إهمالهن المعاناة التي اختبرها في صغره، بل يختار أن يستبقي داخله ذكرياته الطيّبة معهن، مثمّنا مثال الحرية الذي جسّدنه تحت ناظريه، قبل زواجهن، وسعيهن إلى صون ذاكرة الأم وكل ما تركته من أشياء خلفها.
تشكّل "برج الدموع" لوحة تعبيرية دقيقة يتجلى فيها المجتمع المغربي المعاصر بمختلف مشاربه
أما بالنسبة إلى موضوع منزل الوالدين، المركزي أيضا في الرواية، فيتناوله الطايع من منطلق قيمته العاطفية الكبيرة كغرفة أصداء لقصة العائلة وذكرياتها، وبالتالي لعمق الروابط التي ننسجها مع ذوينا، مهما كانت علاقاتنا بهم إشكالية أو مخيّبة للأمل. من هنا الصعوبة التي يواجهها يوسف في بيع منزل أمه، بعد وفاتها، وإقدام نجيب على إعادة شراء منزل والديه المباع، والإقامة فيه، بعد ترميمه، على رغم ذكرياته المؤلمة فيه.
ولا يكتمل عرضنا للرواية من دون الإشارة إلى ذلك السؤال الآخر الذي يسيّره نثرها الأخّاذ على طول نصّها: ماذا نفعل بكل العنف الذي عانينا منه في سنّ مبكرة؟ وإلى تقاطُر جميع أحداث قصتها نحو جواب واحد، الحب، كما أصاب أحد النقاد في ملاحظته ذلك. الحب لكن "ليس كدعوة لتقبُّل كل شيء، بما في ذلك الشرور التي نتعرّض لها، بل كوسيلة وحيدة لتصريف الألم والذكريات المريرة، والمضي قدما". الحب الذي يفسّر وحده العلاقة الحارّة التي يحافظ يوسف عليها مع أخواته، والعلاقات الجيدة التي ينجح نجيب في إعادة نسجها مع أبناء حيّه، حين يعود الى العيش بينهم، على رغم سلوكهم الرهيب تجاهه في صغره.
لكن هذا لا يعني أن الرواية مجرّد دعوة للتصالح مع الآخرين لبلوغ سلام داخلي، فهي أيضا، وقبل أي شيء، صرخة طويلة يطلقها صاحبها، من خلال بطليه، للتعبير عن كل ما يعتمل داخله منذ سنوات طويلة. صرخة تدين بوقعها القوي إلى صدق مُطلِقها، وأيضا إلى اللغة التي تحملها وتوصلها إلى مسمعنا. لغة، تارة شعرية غنائية وطورا استبطانية تعزيمية، تارة رقيقة وطورا فجّة، وفقا للضرورة.