ربما يكون الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد فوّت الأجل النهائي الذي أعلنه بنفسه لإنهاء الصراع الدائر في أوكرانيا في غضون 24 ساعة من توليه منصبه، ولكنه لم يفقد شيئا من تصميمه على إنهاء الأعمال العدائية، حتى لو استغرق الأمر وقتا أطول مما كان يتوقعه هو نفسه في بداية الأمر.
لقد استُبدل بتعهد ترمب في حملته بإنهاء الحرب في أوكرانيا خلال 24 ساعة نهج أكثر واقعية، وتتطلع إدارته الآن إلى تنفيذ وقف إطلاق النار في الأشهر المقبلة والذي سيكون نقطة البداية لمفاوضات أوسع نطاقا تهدف إلى حل الصراع بين كل من موسكو وكييف.
لن يكون طريق السلام سهلا أو سريعا، وستكون الخطوة الأولى المهمة في إطار هذه العملية إجراء مباحثات مباشرة بين ترمب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في ظل إدراك كلا الزعيمين للمخاطر الجسيمة التي تنطوي عليها هذه العملية. وسيعطي ترمب– الذي يفتخر بمهاراته في عقد الصفقات– الأولوية للتوصل إلى اتفاق يعكس نجاح إدارته، وللوفاء بوعده بتقليص المساعدات الأميركية المقدمة إلى كييف والتي تجاوزت حتى الآن 60 مليار دولار تُقتطع من أموال دافعي الضرائب الأميركيين. ومن جانبه، سيسعى بوتين إلى تأمين صفقة تبرر قراره الذي اتخذه في فبراير/شباط 2022 بشن ما أسماه "عملية عسكرية خاصة" ضد أوكرانيا، والتي كانت في الواقع غزوا شاملا.
ومن الناحية العسكرية البحتة، فإن مقامرة بوتين باءت بالفشل الذريع. فبعد فشله في تحقيق هدفه الأولي المتمثل في السيطرة على كييف، تمكن الجيش الروسي بصعوبة بالغة من توسيع نطاق الأراضي الأوكرانية التي يحتلها، إلى ما هو أبعد من المناطق المتنازع عليها في شرق أوكرانيا والتي احتلتها روسيا لأول مرة في ربيع عام 2014.
وفي غضون ذلك، تكبد الجيش الروسي خسائر فادحة، إذ تُشير أحدث التقارير الاستخباراتية الغربية إلى أن روسيا فقدت نحو 840 ألف قتيل وجريح خلال ثلاث سنوات من القتال العنيف. وفي الوقت ذاته، تضرر الاقتصاد الروسي بشدة بسبب العقوبات الغربية التي فُرضت كرد فعل على غزو أوكرانيا، كما أدى العدوان الروسي إلى توسيع عضوية حلف شمال الأطلسي، وذلك بانضمام كل من فنلندا والسويد- اللتين كانتا محايدتين في السابق- إلى صفوفه.
وفي ظل هذه الظروف، سيكون بوتين في أمسّ الحاجة إلى التوصل لاتفاق يبرر- ولو جزئيا- التكلفة الباهظة التي تكبدتها روسيا في الأرواح والموارد بسبب تورطها في الصراع في أوكرانيا.
أبدى بوتين استعداده للتواصل مع ترمب، ووصفه بأنه "رجل ذكي وبرغماتي" يركز على مصالح الولايات المتحدة
وبالتالي، فإن نتائج أي محادثات سلام مستقبلية سوف تعتمد إلى حد كبير على نتائج اللقاء الأولي المتوقع انعقاده بين ترمب وبوتين، إذ تشير مصادر في البيت الأبيض إلى أن أول اتصال بين الزعيمين سيجري في فبراير المقبل.
وكتمهيد لفتح حوار مع الزعيم الروسي، أعرب ترمب بالفعل عن موقفه في منشور حديث على موقعه "تروث سوشيال" (Truth Social)، حث فيه بوتين على إنهاء القتال في أوكرانيا، وإلا فإنه سيواجه إجراءات عقابية أكثر صرامة.
وكتب ترمب: "سأقدم لروسيا، التي يعاني اقتصادها من الانهيار، وللرئيس بوتين، خدمة كبيرة للغاية. يجب عليكم التوصل إلى تسوية الآن، ويجب عليكم وقف هذه الحرب السخيفة! الأمور ستزداد سوءا وحسب. إذا لم نتوصل إلى اتفاق قريبا، فلن يكون لدي خيار آخر سوى فرض ضرائب مرتفعة ورسوم جمركية وعقوبات على أي شيء تبيعه روسيا للولايات المتحدة وللكثير من الدول الأخرى المشاركة".
وسبق ذلك تصريح لترمب في مؤتمر صحافي عُقد في واشنطن، قال فيه إنه سيتحدث مع بوتين "قريبا جدا" وإنه "من المرجح كما يبدو" أنه سيفرض المزيد من العقوبات إذا لم يحضر الزعيم الروسي إلى طاولة المفاوضات.
وحتى الآن، كان رد الكرملين متحفظا، إذ قال المتحدث باسم بوتين، ديمتري بيسكوف، إن الكرملين لا يزال "مستعدا لحوار متكافئ وقائم على الاحترام المتبادل".
ومن جانبه، أبدى بوتين استعداده للتواصل مع ترمب خلال مقابلة تلفزيونية روسية اُجريت معه، ووصفه بأنه "رجل ذكي وبرغماتي" يركز على مصالح الولايات المتحدة. وأضاف بوتين قائلا: "من الأفضل أن نلتقي ونجري محادثة هادئة حول جميع القضايا ذات الاهتمام المشترك لكل من الولايات المتحدة وروسيا بناء على معطيات الواقع اليوم".
ورغم أن بوتين أكد مرارا أنه مستعد للتفاوض لإنهاء الحرب، فإنه يصر على أن أوكرانيا ستضطر إلى قبول حقيقة المكاسب الإقليمية الروسية، التي تبلغ حاليا نحو 20 في المئة من أراضيها. كما يرفض بوتين انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي على نحو قاطع.
يخشى الكثير من الزعماء الأوروبيين أن أي اتفاق يُمكّن بوتين من إعلان النصر سيشجعه ببساطة على الاعتقاد بأن استخدام القوة العسكرية لتحقيق الأهداف الاستراتيجية لموسكو مبرر تماما
ومن الممكن أن تكون إحدى نقاط الخلاف المحتملة في عملية التفاوض هي رفض بوتين مقابلة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي يدعي بوتين أنه حاكم "غير شرعي". وقال: إذا أراد (زيلينسكي) المشاركة في المفاوضات، فسأخصص أشخاصا للمشاركة"، ووصف الزعيم الأوكراني بأنه "غير شرعي" لأن ولايته الرئاسية انتهت أثناء فرض الأحكام العرفية.
ورد زيلينسكي على ذلك بالقول إن بوتين "خائف" من إجراء محادثات السلام، ويستخدم "حيلا مثيرة للسخرية" لتجنب التفاوض بهدف إنهاء الصراع. ويصر زيلينسكي على أن هناك فرصة للتوصل إلى "سلام حقيقي"، وألقى باللوم على بوتين في إحباط الجهد الرامي إلى وقف القتال.
وكتب زيلينسكي على منصة "إكس": "أكد بوتين اليوم مرة أخرى أنه يخشى المفاوضات، ويخشى القادة الأقوياء، ويفعل كل ما في وسعه لإطالة أمد الحرب".
وبينما يبدو من الجلي أن إدارة ترمب لديها الكثير من العمل الذي يتعين عليها القيام به في إطلاق محادثات السلام في وقت لاحق من هذا العام، فقد أثيرت أيضا مخاوف مفادها أن الرئيس الأميركي قد يجبر أوكرانيا على قبول شروط غير مقبولة من أجل إبرام صفقة، وهو الأمر الذي قد يعرض أمن أوروبا للخطر في المستقبل.
ويخشى الكثير من الزعماء الأوروبيين أن أي اتفاق يُمكّن بوتين من إعلان النصر سيشجعه ببساطة على الاعتقاد بأن استخدام القوة العسكرية لتحقيق الأهداف الاستراتيجية لموسكو مبرر تماما، وهي النظرة التي قد تؤدي في نهاية المطاف إلى مواجهة مباشرة بين روسيا وأوروبا.