"الأكفان" لديفيد كروننبرغ يغوص على مفهوم الموت في العالم الرقمي

حين تهدد الصور الأصل بالفناء

"الأكفان" لديفيد كروننبرغ يغوص على مفهوم الموت في العالم الرقمي

في عالم لا يدفن فيه الموتى بل يعاد تأطيرهم داخل أنظمة تقنية، وتتحول الأجساد إلى إشارات، والوجوه إلى بيانات، وتعلق الآلام على شاشات مضيئة لا تنطفئ، يصبح الحزن حالة تراقب لا تجربة تعاش. بهذا التعبير المختصر يمكن تلخيص جوهر "الأكفان"، الفيلم الأحدث للكندي ديفيد كروننبرغ، الذي يحمل تجربة سينمائية امتدت عقودا في مجاهل الجسد والحضور المشوه. لكن في "الأكفان" ثمة بعض الاختلاف، فالحزن فيه يتخذ شكلا جديدا: مراقبة بلا نهاية، لصورة جثة لا تتحلل في الوعي، بل تعيد إنتاج ذاتها كل يوم.

الإنسان وصورته

تدور أحداث الفيلم بعد أربع سنوات من وفاة زوجة كارش (فنسنت كاسيل)، بيكا (ديان كروغر)، إثر إصابتها بسرطان العظام، حيث لم يتجاوز كارش خسارتها كما يتجلى لنا بوضوح في المشهد الافتتاحي الذي يظهره باكيا أثناء زيارة روتينية لطبيب الأسنان، لكن "الأكفان" ليس عملا عن التكنولوجيا أو الحداد بحد ذاته، بل عن لحظة مفصلية بين الإنسان وصورته، وتحديدا بين الجسد المادي وذاكرته، وبين موته وتمثيله، معالجا هذه المفارقة عبر حكاية رجل يبتكر وسيلة لرؤية أجساد الموتى تحت الأرض، لكنه حين يقوم بذلك، لا يجد الموتى، بل يجد نفسه وحيدا وخائفا ومرتبكا أمام هذا الحضور المبهم.

فالاختراع المركزي في الفيلم هو “الكفن الذكي”، نسيج إلكتروني يغطي الجثث المدفونة تحت الأرض ويتيح عبر عدد لا محدود من الكاميرات وأجهزة الاستشعار، بثا حيا مستمرا لها. هذه الفكرة التي تبدو للوهلة الأولى أشبه بتقنية جنائزية غريبة، تصبح تدريجيا لب المشروع السينمائي ذاته. فكروننبرغ ومنذ تحفته "فيديودروم" (1983)، يتعامل مع الشاشة بوصفها جلدا ثانيا ومرآة زائفة للداخل، تلتهم الواقع وتعيده إلينا مشوها.

ليس عملا عن التكنولوجيا أو الحداد بحد ذاته، بل عن لحظة مفصلية بين الإنسان وصورته، وتحديدا بين الجسد المادي وذاكرته

واللافت أن الجسد الذي طالما كان في سينما كروننبرغ ساحة للصراع بين الشهوة والمادة، والطبيعة والاختراق التكنولوجي، لم يعد في "الأكفان" موضع تفكيك، بل موضع مراقبة. فالجسد هنا ساكن هامد لا يتغير إلا بفعل التآكل. ليس هناك تشوه فجائي، بل انهيار بطيء، مراقب، يسجل ويعرض. لا نسمع صراخا ولا نرى آلاما، فقط صمت ميت يعاد تدويره على هيئة بث مستمر. وكأن الفيلم يسائلنا: هل ما يبكينا هو غياب الجسد أم انكشافه الدائم؟ وهل في مراقبة الحبيب الميت عزاء، أم تعذيب مستتر؟

ملصق الفيلم

التمثيل والأصل

لكن كارش لا يعاني فقط من مشاهدة جسد زوجته يتحلل، بل من عجزه عن الانفصال عن صورتها. بين الجثة الأصلية والبث اليومي، تنشأ فجوة لا تردم: الجسد الذي في القبر لا يهم بقدر ما تهم صورته، ولاحقا تبدأ تلك الصورة في إنتاج صورها الخاصة بفعل الخلل، أو بفعل المؤامرة، أو بفعل رغبة كارش نفسه في أن يرى ما يريد لا ما هو موجود.

وهنا ينفصل الخطاب عن الواقع ويغدو التمثيل أكثر تأثيرا من الأصل. فالجثة بعد أن أصبحت صورة، تتحول إلى موقع للرغبة وللهوس، وربما حتى للغواية. وفي مشهد مرعب بطريقته الباردة، ينام كارش إلى جوار صورة معادة لزوجته، لا ندري إن كانت جسدا حقيقيا أو استرجاعا رقميا. الظلال تغطي الجسد، والإضاءة الخافتة تخفي أكثر مما تظهر، وكأن السينما نفسها تتحول إلى كفن مضاد، لا يكشف بل يموه.

وبهذا يعيد كروننبرغ تعريف الفقد كفقد للغياب نفسه، فما يخشاه كارش (فنسنت كاسيل) ليس موت زوجته، بل اختفاؤها. ولذا فإنه يحييها لا في الذاكرة بل في النظام، في كاميرا تراها، وشاشة تعيدها، ومنصة يمكن الآخرين تصفحها.

وهذا ما يقودنا إلى السؤال: هل يمكن الصورة أن تغني عن الملمس؟ في عالم كروننبرغ، لن نجد الجواب لأنه يضعنا بإتقان في صراع بين شوق له وفقدان لأصله، بين الرغبة في الحضور والخوف من أن يكون الحضور نفسه وهما.

اللافت أيضا هو أسلوب التمثيل في فيلم "الأكفان"، فالشخصيات تتحدث كأنها تقرأ من نص مكتوب سلفا. الأصوات هادئة وباردة ومقيدة، لا دموع ولا انفعالات، وكل جملة مهما كانت شديدة الخصوصية تلقى بلا مشاعر، كأنها محاكاة صوتية لشخص كان حيا ذات مرة.

في عالم يخزن فيه الحزن كملف صوتي، وتعاد فيه الذكرى عبر خوارزميات، يعود التمثيل والأداء الحضوري كقناع

هذا الأسلوب الشبيه بعوالم السينمائي الفرنسي روبير بريسون، يعيدنا كذلك إلى مفارقة أساسية داخل هذا العمل، ففي عالم يخزن فيه الحزن كملف صوتي، وتعاد فيه الذكرى عبر خوارزميات، يعود التمثيل والأداء الحضوري كقناع. كل شخصية في الفيلم تؤدي دورا مفترضا: الزوج الحزين، والحبيبة الجديدة، والمساعدة الذكية، وحتى الجثة ذاتها. لكن لا أحد "يكون" ما يؤديه، وكأن السينما هنا تستعير من العالم الذي تصوره لعالم ما بعد الحقيقة، وما بعد العاطفة، وما بعد الحضور.

مؤامرة في العصر الرقمي

هنالك خيط سردي في الأكفان يتمحور حول "مؤامرة" تحاك ضد نظام الكفن الذكي، يتخللها تجسس وتخريب، وعدد من الشخصيات الغامضة. لكن الحقيقة لا تكشف أبدا، لأن المؤامرة ليست واقعة بل هي مناخ لشيء يسكن كل تفصيل ولا يمكن الإمساك به.

بين المؤامرة والعلاقة مع أخت الزوجة (التي تتحول حبيبة بديلة)، ينشطر كارش بين صور متراكبة، فهو لا يعرف إن كان يرى الحقيقة أم نسخة زائفة. حتى الأموات، كما في اللقطة المتكررة لأجسادهم تحت الأرض، لا نعلم إن كانت كاميراتهم ترسل ما يحدث فعلا أم صورة سبق تخزينها.

فنسنت كاسيل وديان كروغر

هذا التشكيك المستمر يضع الفيلم في قلب العصر الرقمي، حيث فقدت الصور مرجعها الأصلي. كل شيء قابل للشك، وكل سردية مشبوهة، وكل حب يحتمل التزوير.

أجل هو فيلم بارد ومقلق، لكنه، ككل أعمال كروننبرغ الأخيرة، يصر على سحب السينما من دفء العاطفة نحو قسوة التأمل، وبين ظل جسد لا نراه، وشاشة لا تنطفئ، يكشف لنا "الأكفان" عن نوع جديد من الحداد، حداد لا يمكن أن يختتم، لأننا لا نكف عن رؤيته.

فهل نخلد موتانا حين نراقبهم؟ أم نقتلهم مرة أخرى، حين نحرمهم من الاختفاء؟ هل تخفف الصور وطأة الغياب؟ أم ترسخه؟ وهل السينما في نهاية المطاف، قادرة على تمثيل الحزن أم أنها أصبحت جزءا من شبكة رقمية تستنسخه فقط؟

وبشكل خاص، فإن "الأكفان" هو فيلم عن هشاشة وجودنا في عصر يتكاثر فيه التمثيل إلى درجة تهدد بفناء الأصل، فالحداد هنا لا ينتهي لأن الميت لا يدفن، بل يستعرض ويفهرس ويؤرشف ويحب مرة أخرى، لا كما كان، بل كما يراد له أن يكون.

font change

مقالات ذات صلة