أحلام جربان التي حولت جدران باريس إلى مرسم لها

هواجس موزعة بين اليمن والصومال وأثيوبيا وفرنسا

جانب من جدارية "حرية" للفنانة أحلام جربان، باريس

أحلام جربان التي حولت جدران باريس إلى مرسم لها

لم تستطع الفنانة اليمنية أحلام جربان تشكيل هويتها خارج حدود الجغرافيا التي عاش فيها أجدادها وآباؤها، فهي تواصل التفاعل مع قضايا مجتمعات تلك الجغرافيا انطلاقا من صنعاء وصولا إلى باريس، حيث صارت تعبر عن هواجسها الفنية بحرية تتجاوز الشروط المحددة مسبقا.

ولدت أحلام في صنعاء لأب أثيوبي وأم صومالية، جاء جدها لأمها إلى الصومال للعمل كعسكري وهناك تزوج من صومالية. ولم تكن تعرف أن جذورا ما ستأخذ عائلتها إلى اليمن: "أمي وجدتي وكل أهلي جاؤوا إلى اليمن بعد الحرب الأهلية في الصومال التي اندلعت في بداية تسعينات القرن الماضي. حينها شكلت اليمن ثقافة مختلفة بالنسبة إليهم، لأن الصومال كانت وقتها منفتحة ثقافيا وتلقب بـ’إيطاليا افريقيا’ حيث كان فيها دور للسينما والمسرح. حتى اللغة في مقديشو العاصمة كانت خليطا بين الصومالية والإيطالية". تضيف أحلام: "كانت اللغة لصومالية في المناطق القريبة من جيبوتي مندمجة بالعربية، حيث هناك الكثير من القبائل والأصول العربية".

وَريَة

درست أحلام في المدارس اليمنية، وكانت مميزة بلونها الأسمر "لم أكن أعتبره تمييزا، بل نبذا. لأنني كنت أتلقى معاملات مختلفة عن بقية زميلاتي. أتذكر حين كنت في الثانوية أن المدرسة طلبت من بعض الطالبات، وكن بيض البشرة، أن يغطين وجوههن بقولها إنهن فتنة. فجئت في اليوم التالي وأنا ملثمة، فقط لأشعر أنني حلوة". لم تلاحظ المدرسة جمال الفتاة التي أمامها بلونها الأسمر، لأن البياض هو مقياس الجمال لديها. تظن أحلام أن هذا السلوك كان مصدره الموقف العنصري الموجود في أماكن كثيرة وواجهته في الشارع وفي المدرسة وفي مختلف العلاقات الاجتماعية "ما أن يكتشفوا أن لك أصولا غير يمنية حتى يبدأوا بالتنمر ضدك".

هذا السلوك كان مصدره الموقف العنصري الموجود في أماكن كثيرة وواجهته في الشارع وفي المدرسة وفي مختلف العلاقات الاجتماعية

تسمي أحلام نفسها في الوسائط الاجتماعية وَريَة (warya)، وهي أسلوب نداء يستخدمه الصوماليون والأثيوبيون ويعني (إيه)، أو (يا أنت)، بطرافة مقبولة بين الأصدقاء. لكنها في اليمن قد تحمل أحيانا معنى عنصريا في اطلاقها على السود المهاجرين. سألت أحلام "كم مرة سمعت كلمة وَريَة؟". تضحك وهي تتحدث معي في مقهى بالدائرة العاشرة في باريس، وكأنها تجاوزت معنى التنمر الذي تحمله هذه الكلمة إلى الأبد، وصار للكلمة معنى آخر عندها. تقول: "سمعتها كثيرا. كانت بمثابة أسلوب حياة".

"أحلام جربان أمام "جدارية غزة

تعود في ذاكرتها إلى مرحلة طفولتها الأولى وتقول: "أتذكر وأنا في المدرسة الابتدائية، جاءت جدتي لأخذي، وكانت دائما تلبس الثياب الصومالية، وهي مثل الحجاب، ولكن بألوان زاهية، فتعرضت للتنمر من زميلاتي. فطلبت من جدتي أن تلبس مثل اليمنيات إذا أرادت أن تأتي لأخذي، لكنها رفضت". تضيف: "لم أتقبل الأمر في البداية، وحاولت لمدة ست سنوات استخدام كريم لتبييض البشرة بشكل يومي". تصمت أحلام قليلا وكأنها تتذكر تلك الأيام. أسألها إذا كانت هذه الكريمات أثرت على جلدها، فترد "كنت محظوظة بأنني لم أستخدم كريما قويا كيميائيا، لكن، مثلا، بنات خالتي أثر كثيرا عليهن، وقشر جلودهن".

مواجهة المجتمع

 بدأت أحلام الرسم في المدرسة وواصلت شغفها بالفن مع دراستها الجامعية وحصولها على ماجستير في الجيولوجيا. أحبت إلى جانب الرسم، الشعر والموسيقى. تعرفت في البداية الى مرسم فنان في حيها اسمه علي المعبري، ثم اكتشفت، كما تقول، أن لديها عائلة فنية، فمعظم أعمامها كانوا يمارسون الرسم، ومنهم الفنان جمال الحداء الذي هاجر إلى أثيوبيا، ولم تكن على تواصل مع أهل أبيها. سألتها إذا كانت تظن أن ممارستها للرسم جاءت وراثية، فردت: "نعم، أكيد وراثة. أشعر أن المسألة تتعلق بالجينات".

عمل فني من النحاس للفنانة أحلام جربان

في الحادية عشرة من عمرها، رأت أحلام جربان أهمية المواجهة مع المجتمع، لكنها تفسر ما كانت تعمله بالقول "كنت أحاول أن يتقبلني المجتمع لأنني ولدت فيه، ولم أشعر أيامها أنني يمنية. طبعا سألت نفسي: أنا من أين؟ ولم أكن أعرف". تضيف: "في عام 2009 كنت بدأت بالرسم الغرافيكي في الشوارع، كأول فتاة في اليمن تعمل ذلك. كنا عشرة فنانين نخرج في الليل لنرسم بعض الكلمات والحروف التي تعبر عن مواقفنا وآرائنا عما يحدث في غزة وفلسطين، ثم ما حدث في السنوات التالية في اليمن وسوريا وفي البلدان العربية عامة. رسمت قبلها مواضيع حقوقية تتعلق بالمرأة والنسوية والممارسات العنصرية".

كنت أحاول أن يتقبلني المجتمع لأنني ولدت فيه، ولم أشعر أيامها أنني يمنية. طبعا سألت نفسي: أنا من أين؟ ولم أكن أعرف

لم يكن سهلا أن يتقبل المجتمع هذه الرسوم على جدران الشوارع، إلا أن وجودها ضمن أعمال المجموعة الفنية خفف عنها وطأة ردود الفعل التي كان من الممكن أن تتلقاها. تقول أحلام عند سؤالها عن مصير المجموعة: "آخر مرة رسمنا فيها معا كان في عام 2013، بعدها تفرقنا، صار كل واحد في بلد".

تظن أحلام أن فن الغرافيك يستطيع أن يوصل ما يريده الفنان بشكل مباشر إلى الناس، وأنها اختارت هذا المسار بعد أن رأت أن النشاطات الفنية تقتصر على المعارض التي لا يزورها إلا الفنانون أنفسهم.

الفنانة أحلام جربان

في ألبوم صور أعمال أحلام السابقة، نجد رسومات تعبر بطريقة مباشرة عن العنصرية التي يواجهها السود في اليمن، وأخرى للوحات تعبيرية عن عذابات هذه الفئة التي تطمح في توسيع اهتمامها بها من خلال سلسلة من الأعمال المستقبلية. في رأيها، أن السود في اليمن ينقسمون فئتين: السود اليمنيون الذين يسمون "الأخدام"، وهم الأدنى في المجتمع، والسود المهاجرون إلى اليمن الذين يسميهم  الناس "المولدين" أو "الوَريَة". تقول إن كلمة "الأخدام" في أساسها عنصرية، فيما كلمة "ورية" لا تعني ذلك في الأساس.

عيون وحروف

بدأت أحلام جربان، وهي وحيدة عائلتها، التفكير بالهجرة منذ التحولات السياسية في اليمن عام 2011، إذ صار عليها النزوح إلى أماكن كثيرة. بعدها غادرت إلى الأردن مع عائلتها، وهناك حصلت على تأشيرة فرنسية لتسافر إلى باريس، فيما بقيت عائلتها التي لم تستطع زيارتها حتى الآن.

جانب من جدارية "حرام" للفنانة أحلام جربان، شارع في باريس

في باريس درست أحلام في مدرسة الفنون الجميلة، فتعلمت فنون الغرافيك والطباعة والنحت والتصوير الفوتوغرافي والفن الرقمي. وشاركت في عدد من المعارض، وأنجزت عام 2021 مع بلدية الدائرة العشرين في باريس جدارية طولها مائة متر، وتحوي حروفا عربية على شكل كلمة "حرام"، وهي كلمة مرتبطة بالمرأة التي تعتبر "حرمة". وترى أحلام أن النظرة المحدودة الى المرأة لا تقتصر على المجتمعات العربية والإسلامية، "بل إن حتى المجتمع العربي والإسلامي في فرنسا لديه النظرة القاصرة نفسها تجاه المرأة". وتبعا للهواجس نفسها، تنجز جدارية أخرى في مقاطعة النورماندي، ترسم فيها كلمة "حرية" متداخلة مع عيون، العيون التي تشغل بال الفنانة باعتبارها وسيلة تواصل، فنجدها في أكثر من لوحة وجدارية ومنحوتة. ربما يعود ذلك إلى أن أحلام نشأت في مجتمع كان يغيب فيه وجه المرأة، ولا يبقى منه سوى العينين.

هناك مراكز فنية رفضت مشاركتي بحروفيات عربية قائلة إن ذلك يتعارض مع العلمانية، وهذا أمر غريب، إذ لا يتعارض استخدام الحروف العربية مع العلمانية أو مع الفن

تنجز أحلام بعض جدارياتها بحروف عربية، وهو ما ينتبه إليه بعض الفرنسيين الذين يربطون اللغة العربية بالإسلام، لا سيما في ظل الأحداث المتوترة التي تتخذ شكلا دينيا. فبالرغم من انتشار الرسم بالحروف العربية في باريس، إلا أن أحلام تقول إن "هناك مراكز فنية رفضت مشاركتي بحروفيات عربية قائلة إن ذلك يتعارض مع العلمانية، وهذا أمر غريب، إذ لا يتعارض استخدام الحروف العربية مع العلمانية أو مع الفن، حتى وإن كانت تتناول قضية دينية".

شكل فني على هيئة عين من الحديد، للفنانة أحلام جربان

 تتخطى أحلام، كما تقول، الشروط التي تتلقاها، وتحاول إنجاز جدارياتها التي ترى أهمية تنفيذها كفنانة، وإن كانت "لا شرعية"، حسب تعبيرها، مثل تلك التي تناصر فيها الفلسطينيين. توضح أحلام أن "هناك عقوبات على بعض رسومات الشارع في فرنسا، تتعلق بالجدران التي لا يحق للفنان أن يرسم عليها، أكثر مما تتعلق بما يرسم". لذا، تتخوف أحلام من أن تدهمها الشرطة وهي ترسم على جدار غير مسموح باستخدامه. قلت لها إن الفنان المجهول بانكسي صار يرسم في مختلف جدران العالم، مناصرا القضايا الإنسانية وبطريقة خارجة عن القوانين. تضحك وترد "نعم، لكنه أبيض وأنا لست بيضاء".

مع هذا، فإن من يرى أحلام جربان لا يظن أن لون بشرتها قد يكون عامل إعاقة لها، فجمالها الممزوج من هويات شتى يتجاوز حدود كل الألوان والمفاهيم الجمالية.

font change

مقالات ذات صلة