عبد الرحمن الأبنودي في ذكرى رحيله العاشرة... شاعر الفقراء والفلاحين

شاهد على تحولات مصر وصوت أفراحها وأحزانها

عبد الرحمن الأبنودي

عبد الرحمن الأبنودي في ذكرى رحيله العاشرة... شاعر الفقراء والفلاحين

ما بين لقبي "رُمان" و"سمكة" عاش شاعر العامية المصري عبد الرحمن الأبنودي (1938-2015) وتوفى في مثل هذا اليوم قبل عشر سنوات عن عمر يناهز 77 عاما.

قبل وفاته بثلاثة أشهر تقريبا كان يبتسم وهو يقول: "هلكني التدخين بشراهة، أنا الآن دون رئة، أتنفس كالسمك من الخياشيم، لكني لن أضيّع الأبنودي، المرض له علاجه، وأنا في حالي أقرأ وأكتب وأضحك وألعب".

لص الرمان

قفز الطفل عبد الرحمن الأبنودي إلى حديقة منزل علي غزالي الملاصق لجدار منزل العائلة الخلفي، طمعا في رمانة أو رمانتين، لكن بعدما جنى كومة من الرمان وخبأها في جلبابه، باغته ابن الجار، ولم يستطع الهرب فصاح مناديا أمه التي ظنت في البداية أنه سقط في البئر.

ظنت فاطمة قنديل أن ابنها عبد الرحمن سقط إلى الحديقة بالخطأ بينما كان على سور المنزل، لكن "منسي" والرمان فضحاه. أعاد ما سرقه وعاد إلى البيت بخجل، لكن غزالي أحضر الرمان إلى بيت الأبنودي وقبل انصرافه سأل فاطمة: "ما اسم ابنك؟"، فردت: "رمان"، على ما روى الأبنودي في إحدى حلقات البرنامج التلفزيوني "أيامي الحلوة"، وذلك بعد أن رواها ضمن سلسلة نشرت في جرية الأهرام"، ثم جمعت في كتاب من ثلاثة أجزاء، و"من يومها أصبح تدليلي رمان".

نشأ عبد الرحمن في رعاية أب وأم متناقضين، الأول صارم يتجنب الضحك أمام أولاده، ويرفض لعبهم كرة القدم بالشارع، حتى ظنوا أنه يرفض وجودهم في الحياة، وإذا اجتاز أحدهم العام الدراسي، يقول: "كنت تريد السقوط؟"، ورغم ذلك الجفاء، كان يقهقه مع رفاقه ويلقي النكات.

عمل الأب خطيبا في مسجد سجن محافظة قنا العمومي إيمانا منه بأن السجناء هم الأجدى بالهداية والنصح، كما كتب الشعر وصدرت له دواوين منها "منحة المنان في مدح سيد الأكوان"، وألفية في الشعر، كان يؤلف على غرار الشعر القديم.

أدين بالفضل لأمي وجدتي، ورثت عنهما الحساسية المفرطة وحفظ الأغاني والطقوس الدينية الفرعونية والإسلامية، وشكلتا رؤيتي الشعرية، وكذلك ابن عمي وصديقي الشاعر أمل دنقل

أما الأم، فاطمة قنديل، فعاشت على الخيال والحكايات والغناء الفولكوري والفكاهة، وهو ما ورثه الابن عبد الرحمن، الذي روى أن أول "حدوتة" سمعها منها هي "قصة بيض الحبل"، اعترف في حوار مع صحيفة "الوفد" عام 1991: "أدين بالفضل لأمي وجدتي، ورثت عنهما الحساسية المفرطة وحفظ الأغاني والطقوس الدينية الفرعونية والإسلامية، وشكلتا رؤيتي الشعرية، وكذلك ابن عمي وصديقي الشاعر أمل دنقل".

قصة اللقب

هناك روايتان عن كنية العائلة الأبنودي، الأولى جاءت في كتاب "الخال" للكاتب محمد توفيق، يروي على لسان الشاعر الراحل أنه ورث اللقب عن والده كونه أول متعلم في القرية رغما عن جده، أما في حواره مع "الوفد"، فحكى الشاعر الراحل، أن اللقب يرجع إلى اسم قريته أبنود بمحافظة قنا.

غلاف كتاب "الخال"

كان على والد الأبنودي أن يؤمن قوت يومه بالعمل في طاحونة رجل قبطي، وأحيانا يهرب إلى الكُتّاب لحفظ القرآن ودراسة الحديث وهو ما كان يثير غضب والده، فيجره من قدميه في شوارع القرية ليعيده إلى الطاحونة.

التقى أمل دنقل وعبد الرحمن الأبنودي في مدرسة قنا الثانوية بصعيد مصر، وأصبحا صديقين لا يفترقان، روى الأبنودي: "كنا نشترك في مسرحيات المدرسة معا، وفي عام 1956 تدربنا على حمل السلاح بعدما أعلنت المدرسة أنها ستدربنا بالتعاون مع الجيش للمشاركة ضد العدوان الثلاثي في بورسعيد، لكن بعد انتهاء التدريب أبلغونا بالعمل في الدفاع المدني".

حزن أمل وعبد الرحمن، وكتب كل منهما قصيدته بالفصحى يعبر فيها عن انفعاله، وفي إحدى حفلات عيد الأم ألقى أمل قصيدة بالفصحى، في حين ألقى عبد الرحمن قصيدة هزلية.

وفي إحدى سنوات الدراسة الثانوية، التقى عبد الرحمن مدرس اللغة الفرنسية توفيق حنا، في جامع سيد عبد الرحيم القناوي في محافظة قنا، وحفزه هذا الأخير على كتابة الشعر بلغة أهل قريته، قال الأبنودي: "ومن يومها قررت ذلك، توقفت عن الكتابة بالفصحى وكتبت أول قصيدة عامية من أجلهم بعنوان، النعش طار".

سافر الأبنودي إلى القاهرة رفقة صديقه أمل دنقل، لكنهما سرعان ما واجها الخيبة والفشل في الدراسة الجامعية، فعادا إلى قنا، وهو ما أخّر حصول الأبنودي على الإجازة في الآداب جامعة القاهرة، قال: "حصلت على الشهادة الجامعية وعمري 57 عاما لانشغالي بالنشاط الفكري والثقافي".

عبد الرحمن الأبنودي

بعد العودة، عمل الأبنودي ودنقل كاتبين في المحكمة الجزئية بقنا، لكن الأول قدم استقالته في مارس/ آذار 1962، ولحقه الثاني، ليعودا مرة أخرى إلى القاهرة، وليتفرغا للشعر منذ ذلك الحين.

سيرة ثلاث قصائد

بعد أربع سنوات عام 1966، مُزقت أوراق قصيدة "جوابات حراجي القط" أثناء تفتيش منزله للقبض عليه، فقرر الأبنودي نسيانها.

 بعد ثلاث سنوات زار رفقة صديقيه سيد خميس وسيد حجاب، وزارة السد العالي، التي كانت تأسست عام 1961، للاستفسار عن زيارة المشروع القومي الذي يشيده العمال، لكن طلبهم رُفض.

سافر عبد الرحمن على نفقته الخاصة وفور وصوله سأل عن مكان إقامة عمال قريته أبنود، سرد: "عندما وصلت، رأيت أصحاب الطفولة يعملون في بناء السد بعدما كانوا يرعون معي الماعز، وظللت معهم 17 يوما ناكل المِش وأحيانا اللحمة مرتين في الأسبوع، ونغتسل بمياه النهر، لحظتها عاود ذاكرتي حراجي".

استمرت صداقة الأبنودي وحليم حتى نكسة 1967، حين طلب عبد الحليم من الأبنودي أغنية، فرد: "لو عملنا أغنية مفهاش إننا دخلنا الحرب وانهزمنا هيضربونا بالأحذية"

كان حراجي عنيفا وضخم الجسم وساذجا، فاختاره الأبنودي ليصور تأثير الماكينات الحديثة بالسد على سذاجته بخطابات بينه وبين زوجته فاطنة، صدرت بعنوان "جوابات حراجي القط".

روى الأبنودي عن آخر مرة التقى فيها حراجي، إذ كان يقود سيارته في قرية شندورة بمحافظة السويس، وخُيل إليه أنه شاهده وتأكد من هويته بعدما عاد خطوتين، فناداه: "اركب ياحراجي العربية هوصلك"، وتحرك إلى اتجاه آخر غير منزله، فصاح حراجي: "موديني فين يا بيه"، رد الأبنودي: "اسكت، وانزل، أنت جاسوس بتشتغل مع إسرائيل". بكى حراجي، لكنه انفجر ضحكا بعدما ابتسم الأبنودي وعانقه.

مختارات من أعمال الأبنودي

أما محمد مصطفى أو كما أسماه شعرا "أحمد سماعين" فاختار الأبنودي تخليد سيرته في ديوان "أحمد سماعين.. سيرة إنسان"، لأنه كان وحيدا، مثلما وصفه "قبل ما أقص عليكم قصة هذا الأحمد سماعين.. أحب أنبهكو لبعض التفاصيل.. فده راجل مش مشهور... أحمد سماعين فلاح مصري أبا عن جد، بسيط وأمير".

عاش الأبنودي معه فترة في محافظة السويس وحاول إقناعه بالتخلي عن العمل في مناجم الفوسفات لكنه رفض، قال الشاعر الراحل: "بعد سنوات قليلة مات أثناء محاولات إنقاذ رفاقه في منجم الفوسفات".

أما العمة يامنة، التي رثاها في قصيدة شهيرة باسمها، فكانت تكره أي مساعدة من أحد، فكان يمنحها ما تحتاج إليه في كل زيارة لمسقط رأسه أبنود على سبيل هدية، وفي إحدى زيارته لاحظ أن ابن عمه يماطل في زيارتها إلى أن أبلغه "يامنة ماتت".

عاد الأبنودي إلى بيته حزينا، فوجد نفسه يكتب "أهو عشنا وطُلنا منك بصمة وشمة... دلوك بس ما فكرت فـ يامنة وقلت ياعمة... حبيبي انت يا عبد الرحمن..".

بين حليم ومحمد رشدي وغضب الست

"مفيش حاجة في جيبك أنشرها؟"، رد الأبنودي على صلاح جاهين: "كاتب عن دودة القطن، بتقول، ما تقولش حاجات مقسومة، ما تقولش الأيام سود، قوم من أحلاها نومة، وانجد قطنك من الدود".

عبد الرحمن الأبنودي

نشر جاهين الكلمات في صحيفة "الأهرام"، وفجأة سمعها الأبنودي مغناة في الإذاعة بصوت فاطمة علي، وبعد أيام أخبره جاهين، أن حسن الشجاعي اختارها بنفسه لتُغنى ويريد مقابلتك.

التقى الأبنودي الشجاعي، واتفقا أن يكتب الأول أغاني للإذاعة، وعاد إلى العوامة التي كان يعيش فيها بمنطقة الكيت كات وكتب 3  أغاني: "اتمد ياعمري تمد"، "بالسلامة يا حبيبي بالسلامة"، "تحت الشجر يا وهيبة".

وافق الشجاعي على اثنتين وعلّق على "تحت الشجر ياوهيبة" أنها "كتابة يمني" (يقصد بأنها شبيهة باللهجة اليمنية)، وسأله: "مين هيغنيها دي؟"، أجابه: "محمد رشدي اللي غنى قولوا لمأذون البلد. لحظتها دخل الملحن بليغ حمدي فأخبره الشجاعي: ده شاعر كويس وهيكون له مستقبل جيد"، قال الأبنودي: "وهكذا خرجنا صديقين".

التقى الأبنودي محمد رشدي الذي كان في حالة نفسية سيئة بعد حادثة سير، شجعه عبد الرحمن: "ده زمنك مش زمن عبد الحليم حافظ". وانصرفا دون اتفاق على شيء، وظلت أغنية "تحت الشجر يا وهيبة مخزنة" إلى أن قرأها الملحن عبد العظيم عبد الحق وتشجع لتلحينها وغناها محمد رشدي، وأصبح رشدي وعبد الرحمن ثنائيا فنيا شهيرا وزاع صيتهما بعد أغنية "عدوية".

أعطى الأبنودي حليم قصيدة كتبها قبل فاجعة النكسة "عدى النهار.. والمغربية جاية، تتخفى ورا ضهر الشجر.."، ففرح وطلب من بليغ تلحينها، "كان تأثيرها مثل السحر، غيرت الناس، ورفعت معنويات عبد الناصر لدرجة أنه كان يطلب من صوت العرب إذاعتها".

وفي أحد الأيام، كان الثلاثة، بليغ والأبنودي ورشدي، يسجلون أغنيتي "بلديات" و"وسع للنور" في استديو "صوت القاهرة" حين ظهر شخصان، سأل أحدهما: "انت الأبنودي"، أجاب بنعم، فاقتاداه للخارج، فصاح مناديا بليغ: "أنا معتقل، ادفع لي إيجار الشقة".

مرت السيارة من أمام مبنى وزارة الداخلية، فظن الأبنودي أنه سيقتاد إلى مكان آخر "هم لهم أماكن كتير، مش هيغلبوا"، لكنها توقفت أمام عمارة في الزمالك، وصعدوا إلى شقة، ليجد أمامه عبد الحليم حافظ يطلب منه قصيدة عن ثورة يوليو ليلحنها كمال الطويل، فرفض: "أنا مش كاتب سياسي، مش هكتب في يوم أغنية سياسية، ممكن آخد قصيدة من قصائد صلاح جاهين وأعملها مونتاج"، لكن جاهين عاد من الخارج، وقدم مع حليم أغنية "يا أهلا بالمعارك".

"حكايات سمراء- بنت من قرية النافورة" و"أيامي الحلوة"

غنى عبد الحليم أغنية "الفنارة" كلمات الأبنودي عام 1966، وفي إحدى جلساتهما، اعترف: "أنا بغني اللغة بتاعتك عشان عجباني، لكن مش هقول المسامير والمزامير زي صاحبك- يقصد رشدي-  أنا برضه عبد الحليم حافظ"، رد الأبنودي: "هنعمل أغنية التوبة مع بليغ حمدي".

استمرت صداقة الأبنودي وحليم حتى نكسة 1967، حين طلب عبد الحليم من الأبنودي أغنية، فرد: "لو عملنا أغنية مفهاش إننا دخلنا الحرب وانهزمنا هيضربونا بالأحذية"، أجابه حليم ضاحكا: "اكتب، مش انت ثوري، هذا وقتك".

أعطى الأبنودي حليم أغنية كتبها قبل فاجعة النكسة "عدى النهار.. والمغربية جاية، تتخفى ورا ضهر الشجر.."، ففرح وطلب من بليغ تلحينها، قال الأبنودي: "كان تأثيرها مثل السحر، غيرت الناس، ورفعت معنويات عبد الناصر لدرجة أنه كان يطلب من صوت العرب إذاعتها".

في تلك الفترة، دهش بليغ حمدي من رفض الأبنودي غناء أم كلثوم كلمات "بالراحة يا حبيبي"، وسأله: "أرد، أقولها إيه؟"، أجابه: "قولها هاكتب لها حاجة تليق بيها".

غضبت أم كلثوم، كانت ترغب في تحقيق لون غنائي جديد مثلما حصل مع بليغ حمدي الذي حقق نجاحا مع حليم، لكن الموقف تكرر ثانية.

طلب عبد العظيم عبد الحق كلمات عن ثورة اليمن فوافق الأبنودي ونشرت القصيدة في جريدة "الأهرام"، وبعد أيام، هاتفه وجدي الحكيم ليلتقي عبد الحميد الحديدي مدير الإذاعة المصرية، لأن أم كلثوم قررت غناءها.

رفض الأبنودي بحجة أنها كتبت لعبد العظيم عبد الحق، فاتصلا به ليتنازل عنها لأم كلثوم فاشترط أن يلحنها، لكن الست رفضت "بيحطني في مقارنة مع عبد العظيم".

أما المرة الثالثة، فكان عبد الحليم حافظ يغني في مبنى الإذاعة "ابنك يقولك يا بطل هاتلي نهار"، فسمعتها أم كلثوم وطلبت من كمال الطويل الأغنية فأبلغها أن الأبنودي صاحب كلماتها، ردت: "ده بيكرهني، روح قوله انت، واطلبها منه".

عبد الرحمن الأبنودي

طلب الطويل الأغنية، فأجابه عبد الرحمن: "دي المرة التالتة أم كلثوم تعمل فيا الحركة دي، وعموما أنا مليش تدخل، روح قول لعبد الحليم، أنا مرضتش أضحى بعبد العظيم عبد الحق، هضحى بحليم".

رفض حليم التنازل عن الأغنية للست، فقررت ألا تتعاون مع الأبنودي أبدا.

تفرقت السبل، لانشغال الأبنودي بالسفر بين الدول العربية لجمع السيرة الهلالية، وبعد نصر أكتوبر عادا ليعملا على أغنية "صباح الخير ياسينا" في وقت كان المرض قد اشتد على العندليب.

تلاقت دروب عبد الرحمن الأبنودي وأم كلثوم ثلاث مرات، دون أن ينجح التعاون بينهما حتى قررت "الست" التخلي عن التعاون معه

سافر حليم بعد تسجيل الأغنية للعلاج في إنكلترا، ولفظ أنفاسه الأخيرة في لندن يوم 30 مارس/ آذار 1977، فرثاه الأبنودي "فينك يا عبد الحليم... كتبت سطرين... بس كنت حزين... أدي ورقتي لمين... فينك نغني تاني موال النهار...".

الحب الأكبر

بات عبد الرحمن الأبنودي اسما مكرسا في عالم الشعر، وذات يوم دعي إلى المشاركة في أمسية شعرية بمحافظة الإسكندرية، تصادف أن حضرتها نهال كمال، ليكون ذلك أول خيط في قصة الغرام التي جمعتهما.

مذكرات عبد الرحمن الأبنودي

استمعت نهال إلى قصائد الأبنودي وأثيرت حفيظتها لتتعرف الى هذا الشاعر، وداومت على شراء دواوينه إلى أن تخرجت في الجامعة، ثم عملت مذيعة في التلفزيون المصري، وقررت أن تقدم حلقة في برنامجها الأول ضيوفا من الشعراء الشباب والكبار، وكان أحدهم عبد الرحمن الأبنودي، لتتوطد علاقتهما، حيث بدأت تستشيره في أمورها الشخصية وتستعير منه كتبا، لكنه اعتبرها ابنته أو كما وصفها "كانت بالنسبة لي بنتي، لحم أخضر".

في ذلك الوقت مرض الأبنودي فسافر للعلاج في الاتحاد السوفياتي سابقا، وغاب عنها، وفور عودته، لاحظ اهتمامها بصحته وأحواله، فتحرك قلبه، لكنه تجاهل الأمر لأنها تصغره بسنوات وعائلتها ثرية وتعيش في رفاهية، "كل منا ضد الآخر"، كما قال.

ألحت نهال على رؤية أمه فضولا، مما سمعته عنها منه، وهو ما حصل. يومها، عاد من تسجيل تترات أغاني مسلسل "أبو العلا البشري" وفيلم "البريء"، فامتدحت فاطمة نهال وباغتته: "اتجوزها يا ولدي"، فرد: "ما هذا الجنون، أنا مثل أبيها"، فردت ساخرة: "بلا أبوها بلا أخوها، تزوجت أباك وأنا صغيرة وأنجبتكم وملأت بكم الدنيا، والفتاة تحبك، وحياتي هذه أم أولادك".

عبد الرحمن الأبنودي

في اليوم التالي، أخبر الأبنودي نهال بأنه سيعيد والدته إلى قنا، لأنها طلبت منه الزواج منها، صمتت وأغلقت الهاتف، وبعد أيام، عادت علاقتهما،  وجرت الأمور فتعلق كل منهما بالآخر، واتفقا على الزواج.

انتشر في يناير/ كانون الثاني 1986، خبر زواج الأبنودي من نهال كمال، ومعه النميمة: شاعر يمر بأزمة منتصف العمر، كيف يتزوج شاعر مثله بمذيعة تقدم برامج تلفزيونية خفيفة.

شعر الأبنودي باغتراب شديد للمرة  الثانية في حياته، كف جرس الهاتف عن الرنين نصف عام على الأقل، قال: "تورط الكثير في الإساءة إلى سمعتي، أظهروني دنيئا، كأنني طمعت في فتاة جميلة دون مراعاة سني"، تغلبا على التناقضات وجرت الحياة، وكتب لها أغنية شهيرة "قبل النهارده" غنتها وردة الجزائرية ولحنها عمار الشريعي، وأنجبا ابنتين، آية ونور.

ندم مع السادات

المرة الأولى التي شعر فيها الأبنودي بالاغتراب، كانت عند لقائه الرئيس المصري الراحل أنور السادات قبل توقيع معاهدة "كامب ديفيد"، يقول: "هوجمت من كل الدنيا، وقاطعني الأصدقاء دون سؤال واحد، رغم أنني كنت بعدها أول من يحاسب بقانون العيب".

انتشر في يناير/ كانون الثاني 1986، خبر زواج الأبنودي من نهال كمال، ومعه النميمة: شاعر يمر بأزمة منتصف العمر، كيف يتزوج شاعر مثله بمذيعة تقدم برامج تلفزيونية خفيفة

بعد حرب أكتوبر 1973، كان الأبنودي في إنكلترا، رفقة صديقه الأديب الطيب الصالح، وحاولا المجيء إلى مصر لكنهما لم يفلحا.

انتهت الحرب، وبدأت جيهان زوجة السادات تبرز في المشهد، تزور الجرحى والمصابين، وطلبت لقاء الأبنودي ليجهز قصائد عن نصر أكتوبر، لكنه اعتذر، فهاتفه عبد الحليم حافظ: "يرضيك نصنع أغاني عن النكسة ولا نصنع عن النصر؟"، فأجابه الأبنودي: "عد أنت إلى مصر وأنا سألحق بك". لكنه كان اللقاء الأخير، مات حليم.

وفي 5 يونيو/ حزيران 1975، افتتح السادات قناة السويس، رفقة عدد من الأدباء، فلاحظ فلاحين على الشاطئ، قال: "مش دول فلاحين الأبنودي، بتوع وجوه على الشط، أين هو؟". هاتف فوزي عبد الحافظ، مدير مكتب السادات، الأبنودي "الرئيس ينتظرك في استراحة المعمورة"، رد: "لا أعرفها، أرسلوا لي سيارة"، فأجابه عبد الحافظ: "لا، تصرف وتعال، وهاتفني عندما تصل إلى الإسكندرية".

روى الأبنودي أن المقابلة شهدت موقفا خبيثا، إذ وُضعت أمامه منضدة طويلة، لا تمكنه من مصافحة السادات إلا إذا انحنى، كما ظهر مصور فوتوغرافي فجأة، قال: "كانت واحدة من ألاعيب السادات، وعلمت تماما أن العداء قد بدأ".

عبد الرحمن الأبنودي

في اليوم التالي تصدرت صورة الأبنودي منحنيا أمام السادات، الصفحة الأولى في جريدة "الأهرام"، وفقا لكتاب "الملك والكتابة، قصة الصحافة والسلطة في مصر"، للكاتب محمد توفيق.

طلب السادات من الأبنودي تكملة حلقات وجوه على الشط "عاوزك تكمل الانتصار، وأشوف الفلاحين بعد النصر، وتكلم الناس، مش زي صاحبك صلاح جاهين بتاع عبد الناصر"، رد الأبنودي: "صلاح جاهين قيمة كبيرة، ولا يكتب إلا ما تمليه عليه قناعاته"، رد السادات: "مش هو اللي قال منا فينا الموج والمركب والصحبة والزينة، يعني بتاع عبد الناصر".

خرج الأبنودي غاضبا، وطلب من خالد محيي الدين، الانضمام إلى "حزب التجمع" ووصفه بأنه تجمع شرفاء مصر، وهو ما أغضب السادات.

تكفلت الصحافة بنشر أخبار كاذبة عن مقابلات لم تتم بين الأبنودي والسادات.

كتب الأبنودي عدة قصائد أثارت حفيظة نظام السادات، بداية من "سوق العصر"، ثم "الأحزان العادية" و"المد والجزر"، ثم "لا شك أنك مجنون". فاستُدعي إلى نيابة أمن الدولة، وسُئل سؤالا، هل كتبت هذه القصائد؟، أجاب: نعم. وانتهى التحقيق.

غلاف كتاب "عبد الرحمن الأبنودي"

بعدها بأسبوع، استدعي للتحقيق أمام المدعي العام الاشتراكي بناء على "قانون العيب" الذي أصدره السادات، وسُئل: "هل لك قصيدة اسمها المجنون؟"، قبل أن يجيب دان الجلسة والتحقيق، ثم رد: "طبعا، لي قصيدتان، المجنون في الأرض والعيال، والثانية اسمها لا شك أنك "جنون"، فسُئل: "من تقصد بالمجنون؟"، رد:" بكلم نفسي، لا شك أنك مجنون أنك مصدق الحاجات الجميلة، اللي السادات عمل عكسها وراح القدس، والناس مبسوطة، فأنا مجنون إني مش مثل الناس".

اغتيل السادات، وفرح الأبنودي، وكتب قصيدة "المتهم" يمتدح فيها قاتله، لكنه عبر لاحقا عن ندمه على كتابتها

انصرف الأبنودي من الجلسة، دون قرار، إلى أن حل شهر سبتمبر/ أيلول واعتقل عدد من الصحافيين والساسة، ولم يدرج اسمه معهم، يقول: "سألت عن السبب، قالوا لي، كنت ضمنهم، لكن السادات، قال، لا، هذا له تصرف تاني خالص".

اغتيل السادات، وفرح الأبنودي، وكتب قصيدة "المتهم" يمتدح فيها قاتله، لكنه عبر لاحقا عن ندمه على كتابتها.

ثلاثة لقاءات مع مبارك

خلف محمد حسني مبارك السادات، وفي بداية حكمه، طلب مقابلة الأبنودي بعدما سمع أغنية "مصر يا أول نور في الدنيا". دار اللقاء بينهما حول الديمقراطية والإفراج عن المثقفين من السجون.

أما اللقاء الثاني، فكان في بداية تسعينات القرن الماضي، وحاول الأبنودي التهرب من اللقاء لكنه فشل، ودار الحديث أيضا عن أحوال البلاد.

في المرة الثالثة، لم يكن الأبنودي وحده، كان رفقة مجموعة من الكتاب والمثقفين، يقول: "وقتها كنت نشرت قصيدة عبد العاطي (صائد الدبابات في حرب أكتوبر) في جريدة الدستور، ويوم المقابلة، وقف بجواري زكريا عزمي، لكنه تجاهلني ولم يصافحني كعادته، حاولت الرجوع إلى الوراء فضغط على قدمي كي لا أتحرك".

حضر مبارك، وصافح البعض، ثم التفت إلى الأبنودي، وسأله: "كويس؟"، فرد: "تمام يا ريس". واستمر اللقاء دون أي تواصل بينهما.

font change

مقالات ذات صلة