نحو استراتيجية فلسطينية سياسية جديدة

بينت التجربة أنه من غير المسموح دوليا للفلسطينيين استثمار تضحياتهم ومعاناتهم

Open Source
Open Source
قرية عيلبون 1951

نحو استراتيجية فلسطينية سياسية جديدة

وفقا لدروس ستة عقود من التجربة الوطنية الفلسطينية المكلفة والمديدة والمريرة والغنية بنجاحاتها وإخفاقاتها، وبخاصة في ظل جمود كياناتها، وانسداد الأفق أمام خياراتها السياسية والكفاحية، وضمنها خيار حل الدولة المستقلة في الضفة والقطاع، وخيار الكفاح المسلح الذي طبعها بطابعه، باتت ثمة ضرورة ملحة للتعامل بطريقة نقدية جريئة ومسؤولة، مع تلك التجربة، وتلك الخيارات، بحيث يشمل ذلك الخطابات والبنى والعلاقات وأشكال العمل، بما في ذلك التجرؤ على طي الصفحة الماضية، التي استهلكت واستنفذت. فالشعب الفلسطيني الذي دفع باهظا، من معاناته وتضحياته، ثمن تلك التجربة، وثمن المكابرات، والمغامرات، وإنكار الواقع، وتغليب الشعارات، يستحق ذلك من قياداته وفصائله ومثقفيه، أو ما تبقى منهم.

وقبل الخوض في الحديث عن أي استراتيجية يفترض لفت الانتباه إلى أن المسألة لا تتعلق بالنص، أو بخطوط نظرية فقط، مهما كان صوابها أو صلاحيتها، وإنما تتعلق بالحامل السياسي والحاضنة الشعبية، وبملاءمة أية طرح مع الشروط الذاتية والموضوعية.

تبعا لذلك، فإن صوغ أي استراتيجية أو رؤية، سواء كانت سياسية أو كفاحية، يفترض أن تأتي كثمرة نقاشات معمقة، في إطارات سياسية جمعية، تمثيلية، وازنة، وشرعية، وأن تنطلق من الخبرات التاريخية لكل شعب، ومن مصلحته، بعيدا عن الانحيازات، أو العصبيات، الأيديولوجية، أو الفصائلية، أو المناطقية. أيضا، فإن أي استراتيجية يفترض أن تتمثل في خطوطها العامة واقع الشعب المعني، وإمكانياته، المنظورة والمستقبلية، وأن تراعي طموحاته وأهدافه المشروعة على المستويين القريب والبعيد، دون أن يضر أو يحجب أحدهما الآخر، وأن تحدد أشكال النضال الممكنة والمتاحة، والبنية الكيانية التي يمكن لها أن تحمل مسؤولية الخيارات السياسية والكفاحية، بما يؤسس لاستعادة وحدة الشعب والأرض والقضية والرواية التاريخية، مع ضمان ترابط وتكامل الخيارات السياسية بالكفاحية، وبالعكس.

في هذا السياق، يمكن اقتراح الخطوط العامة التالية، ليس بوصفها منهج عمل كاملا، وإنما باعتبارها فاتحة للنقاش، لتعميقها وتأصيلها وتعديلها والبناء عليها.

على صعيد الشعب الفلسطيني

أولا، بينت التجربة أن الفلسطينيين في كفاحهم وتضحياتهم ومعاناتهم وبطولاتهم، مقيدون بمحددات تكمن بكونهم أسرى الواقع العربي والإقليمي والدولي، المؤثر سلبا عليهم، مع إمكانياتهم المحدودة، وخضوعهم لسيادة أنظمة مختلفة، ومع تجزئتهم وتشتتهم.

يفيد ذلك بأنه لا يمكن الحديث عن حركة وطنية فلسطينية "مستقلة" في ظل انكفاء عربي، ومع تصدع العلاقات العربية-العربية، كما لا يمكن توقع إنجازات وطنية، مهما كانت التضحيات والبطولات، في وضع دولي لا يسمح للشعب الفلسطيني باستثمارها.

الفلسطينيون معنيون بخوض كفاحهم من أجل حقوقهم المشروعة، باعتمادهم على إمكانياتهم كشعب، وهذا أفضل لهم. وباختيار الشكل الكفاحي الأنسب والمستدام والأجدى، والذي يمكنهم تحمل أكلافه

على ذلك فمن الإجحاف، والتهور، توهم، أو تخيل، قيام الحركة الوطنية الفلسطينية، بإمكانياتها وظروفها الراهنة، بهزيمة أو مواجهة إسرائيل القوية، والمتفوقة على محيطها، لا سيما في المدى المنظور.

القصد أن أي استراتيجية وطنية فلسطينية جديدة يفترض أن تدرك حدود إمكانياتها، وقدرات شعبها، والعمل على أساس ذلك، علما أن هذا الاستنتاج لا يعني الخضوع لإسرائيل، وإنما هو يفيد في صوغ أشكال كفاحية ملائمة تضمن مراعاة تطور أي شكل كفاحي، أو صراعي، في مواجهة إسرائيل، مع المعطيات العربية والدولية، وبما يكفل بقاء الشعب الفلسطيني في أرضه وتعزيز قدراته، وكياناته، ومراكمة قدراته على تجسيد حقوقه.

بيد أن كل ما تقدم لا يعني إغفال وجود بعد عربي في الصراع ضد إسرائيل، بهذا الشكل أو ذاك، بهذا المستوى أو ذاك، ولا إغفال البعد الدولي، إذ إن الواقعين العربي والدولي مفتوحان على التغيير، إن لم يكن راهنا ففي المنظور المستقبلي.

ومشكلة إسرائيل عربيا أنها غير قادرة، ولا راغبة، بحكم طبيعتها كدولة استعمارية وعنصرية وعدوانية وغريبة، على التكيف مع محيطها العربي، بخاصة على صعيد المجتمعات، إضافة إلى أن البيئة الشعبية العربية غير قابلة بدورها للتكيف مع إسرائيل، بالنظر لطبيعتها وسياساتها. وعلى الصعيد الدولي فقد شهدنا انكشاف إسرائيل، كدولة إبادة جماعية، إضافة لكونها دولة استعمارية وعنصرية ودينية، لذا فهذه العوامل ستبقى كامنة لصالح الفلسطينيين مستقبلا، وذلك مرهون بطريقة إدارتهم لكفاحهم ضد إسرائيل.

ما يفترض ملاحظته للمستقبل، أنه رغم ظهور نوع من الضمور في قدرة الفلسطينيين في صراعهم ضد إسرائيل تلك، بكل الوسائل، فإن إسرائيل تتموضع في المنطقة بطريقة عدائية، واستفزازية، وهو وضع مفتوح على أبعاد صراعية جديدة، وبوسائل متعددة، أي ليس شرطا أن تكون بالوسائل العسكرية، على عكس الفكرة عن أفول الصراع العربي-الإسرائيلي.

ثانيا، يستنتج مما تقدم أن الفلسطينيين، كشعب، معنيون بخوض كفاحهم من أجل حقوقهم المشروعة، الجمعية والفردية، السياسية والمدنية، باعتمادهم على إمكانياتهم كشعب، أساسا، وهذا أفضل لهم، وباختيار الشكل الكفاحي الأنسب والمستدام والأجدى، والذي يمكنهم تحمل أكلافه، من دون أن يزعزع مكانتهم في أرضهم، أو يضعضع من وحدتهم كشعب.

غيتي
رئيس "منظمة التحرير الفلسطينية" ياسر عرفات عشية مغادرته بيروت في 30 أغسطس 1982

ويأتي ضمن ذلك التكيف مع الواقع، ومع العالم، لتقليل المخاطر، وصوغ إجماعات وطنية تتأسس، قبل أي شيء آخر، على تعزيز صمود الفلسطينيين في أرضهم، وتطوير مؤسساتهم الوطنية، بمختلف أشكالها، والاقتصاد في طاقاتهم، وعدم تبديدها في أشكال كفاحية أو أطروحات سياسية، لا يمكن استثمارها، في إنجازات وطنية متمثلة في الواقع، بانتظار توفر معطيات أفضل تفيد في تحقيقهم توازنا، ولو نسبيا، بينها وبين تضحياتهم وبطولاتهم ومعاناتهم.

وقد علمتنا التجربة، أن أي خيار سياسي أو كفاحي، مهما كان شأنه، لن ينجح، وسيتعرض للتبديد، وربما يتمخض عن كارثة، إذا لم يتوفر على تلك الأرضية، وهو أكثر شيء حصل في التجربة الوطنية الفلسطينية المجهضة في العقود الستة الماضية، التي لا ينبغي تكرارها وإنما القطع معها.

والمعنى أن أي استراتيجية فلسطينية جديدة يفترض أن تأخذ في اعتبارها أن العملية الوطنية، في الظروف الخاصة لشعب فلسطين، وبالنظر لطبيعة عدوه، تفترض العمل في اتجاهين، مترابطين ومتكاملين، الأول، مقاومة إسرائيل وسياساتها الاحتلالية والعنصرية والاستيطانية والعدوانية. والثاني، بناء المجتمع الفلسطيني في الداخل والخارج، وتنمية موارده، وتعزيز كياناته، وترسيخ صموده في أرضه، على أن لا تضر العملية الأولى بالثانية، وأن لا تؤدي العملية الثانية إلى خلق واقع من الاحتلال المريح والمربح لإسرائيل، وعلما أن تغليب الوجه الأول وتجاهل الثاني لا يضيف ولا يراكم، بل يبدد تضحيات ومعاناة وبطولات الفلسطينيين.

في الاستراتيجية الكفاحية

ثالثا، يلفت الانتباه في مسيرة الصراع العربي-الإسرائيلي أن الأنظمة العربية المعنية كانت قد ركزت فقط على الخيار العسكري في مصارعة إسرائيل، بغض النظر عن صدقية ذلك عمليا. وقد تبين هذا الأمر، في أحوال كثيرة، عن مجرد غطاء لاستحواذ القوة لأجل الهيمنة والسلطة، كل على شعبه في إقليمه، أكثر مما هو لمصارعة إسرائيل، وهذا ينطبق إلى حد ما على الفصائل والميليشيات التي تحولت بدورها إلى سلطة.

في أي استراتيجية وطنية جديدة يفترض إعطاء أهمية للعمل على المجتمع الإسرائيلي، وتصحيح خطأ تاريخي غاب عن إدراكات قادة الحركة الوطنية الفلسطينية، أو قصرت في العمل عليه

أيضا، فإن تلك الأنظمة (والمقاومات طبعا) لم تصارع أو تنافس إسرائيل في المجالات التي تقويها وتتميز بها، بشكل إدارتها لمواردها البشرية، وتنظيمها مجتمعها، وطبيعة نظامها السياسي، وبتركيزها على التطور الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي، إذ حصرت الأنظمة نفسها في الخيار العسكري فقط، بمصارعة إسرائيل، وهو المكلف بشريا واقتصاديا، عدا عن أنه الخيار الذي تتغول فيه إسرائيل، كما شهدنا، بشكل مريع؛ مع تمتعها بضمانة الدول الكبرى لأمنها واستقرارها وتفوقها. في المحصلة فإن الأنظمة والمقاومات استنزفت شعبها، وأفقرته في مختلف المجالات، بدل أن تستنزف، أو تضعف عدوها، بل إن إسرائيل وفقا لهذا الخيار باتت أكثر جبروتا في المشرق العربي، وباتت ذراعها الطويلة تطال إيران واليمن، فضلا عن بلدان المشرق العربي.

هكذا، ففي أي استراتيجية جديدة يفترض الانتباه إلى "فخ" الهوس بالخيار العسكري، إذ من الأجدى، والأنسب، والأقل كلفة، منافسة إسرائيل في مختلف المجالات، ما أمكن، في بناء دولة المواطنين، والالتحاق بركب التطور الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي، أي المطلوب ليس التحلل من الهدف، وإنما تغيير الطريق، أو اختيار الطريق الأنسب، للوصول إلى الهدف.

في هذا المجال، معلوم أن الفلسطينيين يمتلكون رأسمالا بشريا كبيرا ومتميزا، وهو مصدر قوة وتأثير لهم، سواء في فلسطين، بين النهر والبحر، أو في بلدان اللجوء والشتات، مع نسبة مثقفين، وأكاديميين، ومهندسين وأطباء، تفوق مثيلاتها في المجتمعات العربية، بل وتقارب مثيلاتها في الدول المتقدمة، وهي طاقة يفترض الاستثمار بها.

رابعا، في أي استراتيجية وطنية جديدة يفترض إعطاء أهمية للعمل على المجتمع الإسرائيلي، وتصحيح خطأ تاريخي غاب عن إدراكات قادة الحركة الوطنية الفلسطينية، أو قصرت في العمل عليه. وقد بينت حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل في غزة ضرورة وإمكانية الاستثمار في تناقضات المجتمع الإسرائيلي، وتناقضات تياراته السياسية، إذ شهدنا صعود أصوات يهودية، داخل إسرائيل وخارجها، ضد حرب الإبادة تلك، والأهم أنه ظهر في إسرائيل من يرى أن اليمين القومي والديني المتطرف (المتمثل بحكومة بنيامين نتنياهو) لا يستهدف الفلسطينيين فقط، بالاحتلال والاستيطان والعنصرية، وإنما يستهدف، أيضا، تغليب الطابع الديني في إسرائيل على طابعها كدولة ليبرالية وديمقراطية (نسبة لمواطنيها اليهود).

رويترز
متظاهرون يشاركون في احتجاج ضد الحكومة الإسرائيلية ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ودعما للإفراج عن جميع الرهائن المحتجزين في غزة، القدس، 5 مايو

ميزة تلك الفكرة أنها، أولا، تفتح المجال أمام حركتنا الوطنية للاستثمار في تناقضات إسرائيل الداخلية. ثانيا، الإسهام في تفويت أو تفكيك الفكرة الصهيونية التي تتأسس على معادلة الحرب الوجودية، عرب ضد يهود، والتي شكلت محور الهوية والإجماع الإسرائيليين، ومحور قوة التيار القومي والديني. ثالثا، أنها هي اللغة التي يفهمها العالم اليوم، وتجعل للفلسطيني كما لليهودي، أينما كان، مصلحة مباشرة في الكفاح ضد إسرائيل الاستعمارية والعنصرية والمتوحشة بالوسائل المتاحة. رابعا، فإن تلك الفكرة تعني تقويض المشروع الصهيوني الذي يقوم على دولة يهودية، عنصرية واستيطانية واستعمارية، أو تفضي إلى ذلك، الأمر الذي يتطلب توفر، ومراكمة، معطيات عربية ودولية وإسرائيلية في هذا الاتجاه لصالح الشعب الفلسطيني.

الحركة الوطنية الفلسطينية، نتيجة ضعفها، استدرجت مبكرا إلى مربع تجزئة قضيتها، وبالتالي تجزئة رؤيتها لإسرائيل، بحيث باتت تراها كدولة احتلال واستيطان في الضفة وغزة فقط، وكدولة عنصرية إزاء الفلسطينيين جميعا

أهمية هذا الموضوع تتأتى راهنا من تصاعد حدة التناقضات الداخلية في إسرائيل، على خلفية محاولة نتنياهو إطاحة السلطة القضائية، وتغليب طابع إسرائيل كدولة يهودية ودينية على كونها دولة ديمقراطية علمانية وليبرالية. كما تتأتى من بروز تيار في المجتمع الإسرائيلي يربط بين تطرف إسرائيل، في عهد حكومة نتنياهو، التي تضم اليمين القومي والديني، ضد الفلسطينيين، بتطرفها ضد اليهود الإسرائيليين، أيضا، من التيارات الديمقراطية والعلمانية والليبرالية، بمعنى أن ثمة أرضية موضوعية لنشوء نوع من التقاطعات السياسية يمكن الاستثمار فيها، في الصراع ضد إسرائيل الاستعمارية والعنصرية والاستيطانية، مع العمل لتوسيعها وتعميقها في نضال مشترك، يخدم الحقوق الوطنية والتاريخية للشعب الفلسطيني.

خامسا، من أهم الدروس التي ينبغي للفلسطينيين وعيها، في إدراكاتهم وممارساتهم السياسية وفي استراتيجيتهم المستقبلية، في صراعهم ضد إسرائيل، أنهم إزاء دولة استعمارية واستيطانية ذات وضع دولي في الشرق الأوسط، وليست مجرد دولة فيه، إذ إنها قامت في شروط عربية ودولية معينة، أمنت لها الاستمرار والحماية والتطور، بما يختلف عن الصراع مع أية دولة استعمارية-استيطانية (الجزائر أو جنوب أفريقيا) مثلا. وهذا يفيد بأن المقاومة، بكل أشكالها الممكنة، تتطلب الانتباه إلى هذه الناحية، إذ بينت التجربة أنه من غير المسموح دوليا للفلسطينيين استثمار تضحياتهم ومعاناتهم وبطولاتهم، كما يفيد ذلك بأن أفول المشروع الصهيوني في فلسطين يتطلب ولادة شروط جديدة، عربية ودولية مواتية للفلسطينيين.

في هذا الإطار، ورغم الانسداد الراهن على هذا الصعيد، فإن الحراكات الشعبية، في عواصم ومدن الدول الغربية، وضمنها الولايات المتحدة، وفي جامعاتها وأوساط أكاديمييها ومثقفيها وفنانيها، وحتى في أوساط اليهود فيها، تشي بأن ثمة ضمورا في التعاطف مع إسرائيل، لصالح التضامن مع الفلسطينيين، أي ثمة سند دولي لاستراتيجية فلسطينية، سياسية وكفاحية، تنبني على رؤية وطنية ديمقراطية وليبرالية، تخاطب العالم باللغة التي يفهمها، لغة الحرية والحقيقة والعدالة والسلام.

سادسا، ما تقدم لا يعني نسيان الفلسطينيين قضيتهم، أو حقوقهم، وإنما تغيير طرق كفاحهم، وضبط استراتيجيتهم السياسية والكفاحية بما يتناسب مع إمكانياتهم وظروفهم والمعطيات المحيطة بهم.

على ذلك، فإذا كنا إزاء نهاية الخيار العسكري في الصراع ضد إسرائيل، بشكليه الدولتي والفصائلي، بطريقة مأساوية، وكارثية، فإن ذلك لا يفيد بتوهم إمكان استعادة الحقوق الفلسطينية، في دولة واحدة ديمقراطية من النهر إلى البحر، أو في دولة في الضفة والقطاع، أو دولة ثنائية "القومية" ("القومية" ليست بالمعنى الحرفي، وإنما لتشخيص حالة جماعتين مختلفتين)، بالطرق السلمية أو بالمظاهرات والمفاوضات والمناشدات، لأن إسرائيل صممت على شكل دولة عسكرية، وكدولة استيطانية عنصرية، إجلائية وإحلالية، لا يمكن أن تتنازل طواعية للشعب الفلسطيني. والمعنى أنه إذا كان صحيحا أن المفاوضات والمظاهرات والبيانات لا تحرر شبرا من فلسطين، في هذه الظروف، فهذا ينطبق على الكفاح المسلح والحروب الصاروخية والعمليات التفجيرية أيضا.

يستنتج مما سبق أن الفلسطينيين معنيون بإيجاد خيارات سياسية وكفاحية مغايرة، أكثر ملاءمة لأوضاعهم، وظروفهم، وللعالم، باحتساب الكلفة والمردود، والسعي لكسب الصراع بالنقاط، وبالتدريج، وعلى أساس الحفاظ على مسار بناء مجتمعهم في أرضهم، بانتظار تغير الظروف الدولية والعربية، التي قد تشكل ضغطا على إسرائيل يؤدي إلى إفقادها وظيفتها، وتاليا إفقادها طبيعتها كدولة استعمارية، واستيطانية وعنصرية ودينية.

في الاستراتيجية السياسية

سابعا، يترتب على الملاحظة السابقة ملاحظة أساسية أخرى مفادها أن الحركة الوطنية الفلسطينية، نتيجة ضعفها، استدرجت مبكرا إلى مربع تجزئة قضيتها، وبالتالي تجزئة رؤيتها لإسرائيل، بحيث باتت تراها كدولة احتلال واستيطان في الضفة وغزة فقط (وكدولة عنصرية إزاء الفلسطينيين جميعا)، كأن ذلك بدأ مع احتلال 1967، وليس مع إقامتها منذ 1948 على هذا الشكل، كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية إزاء الشعب الفلسطيني، في أي مكان، قبل احتلال 1867 وبعده.

من السذاجة التعويل على مصارعة قيادة "المنظمة" على شرعية التمثيل، على أهميته، إذ إن الميدان هو في الصراع على شرعية الدور، والمكانة النضالية

في المقابل، فإن إسرائيل ظلت تتعامل مع الفلسطينيين كشعب عدو وفقا لاستراتيجية واحدة، قبل قيامها وبعده، بانتهاجها سياسات استعمارية واقتلاعية وإحلالية وعنصرية وقمعية، عبر سياسات ونظم قانونية مختلفة، لتجزئتهم وتفكيك قضيتهم وتذويب حقوقهم، وظلت تتعامل مع فلسطين كوحدة متكاملة، أو كوطن قومي لليهود، حتى بعد اتفاق أوسلو، في حين انطلى ذلك على الحركة الوطنية الفلسطينية، التي باتت تتصرف- وفقا لما تقدم- تبعا لأوهامها، ووفقا لأولويات كل جزء من شعبها، ولا سيما في ما يخص إمكان قيام دولة لها في الضفة وغزة، بواسطة المفاوضات، وفي ظروف غير مواتية دوليا وإقليميا؛ كما بالنسبة لتعاطيها مع فلسطينيي 48 بدلالة مواطنيتهم في إسرائيل وليس بدلالة كونهم جزءا من شعب فلسطين، وضمن ذلك عدم إيجاد الصيغ السياسية والكفاحية الملائمة لإدماجهم في المعادلات والإطارات الوطنية الفلسطينية.

وبهذا الخصوص فإن الأجدى والأنسب للفلسطينيين، بدل ذلك، أن تتمسك حركتهم السياسية برؤية وطنية تطابق بين الشعب والأرض والقضية. لذا وعوض النكوص عن هدف التحرير، كان الأجدى البناء على ذلك الهدف، بإضفاء معان ومضامين جديدة عليه، بحيث لا يقتصر على تحرير الأرض، بطرح معادلات سياسية تشمل تحرير الفلسطينيين من علاقات الاستعمار والعنصرية والهيمنة الإسرائيلية، وتحرير اليهود ذاتهم من الصهيونية العنصرية والاستعمارية والعدوانية وإضفاء قيم الحقيقة والعدالة والحرية والمساواة والمواطنة على مفهوم التحرير، بحيث يشمل كل الناس بين النهر والبحر، فلسطينيين وإسرائيليين، بما يتماشى مع حقوق المواطنة في الدول الغربية ذاتها، على أسس الديمقراطية الليبرالية.

AFP
بائع يعرض صوراً مؤطرة لياسر عرفات في سوق غزة، 19 سبتمبر 1993، عقب اتفاق منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل

هذا يقضي بدمج مفهوم التحرير بالحرية، والحقوق السياسية الوطنية بالحقوق المدنية، والحقوق الجمعية بالحقوق الفردية، ما يفضي لترسيخ حقوق المواطنة في كل فلسطين إسرائيل، بما لا يخل بوحدة أرض فلسطين، أو بوحدة شعب فلسطين، وبما لا يخل بمواصلة الكفاح لتقويض الصهيونية الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية، كفكرة وكمؤسسات. لذا فإن أي استراتيجية فلسطينية يفترض بها، بدل الانحصار في خيار واحد، أن تفتح مسارا مستقبليا يؤدي، وفق تطورات سياسية واجتماعية، إلى حل الدولة الواحدة الديمقراطية، أي دولة المواطنين، حتى لو مرت بتعرجات، من ضمنها قيام دولة في الضفة والقطاع أو دولة ذات طابع ثنائي "القومية"، أي للجماعتين، أي للفلسطينيين، واليهود الإسرائيليين، على أسس ديمقراطية.

الكيانية الوطنية

ثامنا، تحتاج أي استراتيجية سياسية أو كفاحية إلى كيانية تشكل حاملا لها، وتوسطا بينها وبين مجتمعها. ولعل ما يفترض الانتباه إليه أن "منظمة التحرير"، وليدة النظام السياسي العربي في الستينات (1964)، حيث نشأت قبل انطلاق الفصائل، وضمنها حركة "فتح"، بمعنى أنها تستمد شرعيتها، كممثل شرعي للشعب الفلسطيني، من النظامين الدولي والعربي، أكثر مما تستمدها من شعبها، المجزأ، والذي يفتقد لإقليم مستقل، ويخضع لسلطات ومداخلات مؤثرة متعددة، وهي أصلا تشتغل على أساس التكيف مع ذلك، أكثر من استجابتها لمطالب شعبها وأولوياته.

الفكرة أن "منظمة التحرير"، وهي إنجاز تاريخي مهم لشعب فلسطين، بغض النظر عن الموقف من قيادتها، أو واقعها، تخضع لشروط وقابلية النظامين العربي والدولي، بحيث لا يمكن منازعتها الشرعية في مؤتمر هنا أو هناك، من هذه الجهة أو تلك، وإن أزمة العمل الوطني الفلسطيني، لا تحل بمجرد تغيير القيادة، أو فرض المشاركة معها، إذ إن العمل الوطني الفلسطيني، كما قدمنا، هو في أزمة شاملة وعميقة، في البني والأفكار وأشكال العمل والخيارات.

على ذلك من السذاجة بمكان التعويل على مصارعة قيادة "المنظمة" على شرعية التمثيل، على أهميته، إذ إن الميدان هو في الصراع على شرعية الدور، والمكانة النضالية، وهو بالضبط ما فعله ياسر عرفات، بعد "معركة الكرامة" (1968)، في الظرف المواتي عربيا ودوليا. على ذلك فإن النزاع على "المنظمة"، على الشرعية أو التمثيل، هو نزاع عبثي، وغير مجد، لأن النزاع أو التنافس يفترض أن يكون على الدور والمكانة إزاء الشعب، وفي مواجهة إسرائيل، مع توافر ظرف عربي ودولي يتوافق مع ذلك.

القصد، أن أي كيان وطني جامع للفلسطينيين، أكان اسمه "منظمة التحرير"، أو أي شيء آخر، يفترض أن يتأسس على وحدانية شعب فلسطين، ووحدانية قضيته، ووحدانية أرضه، كمنطلق في الرؤيتين، أو الاستراتيجيتين، السياسية والكفاحية، أي بتكييفهما معا، بحيث يمكن تصحيح أحد أخطاء التاريخ، وذلك باستعادة فلسطينيي 48 إلى قلب المعادلات السياسية الفلسطينية، وإبقاء قضية اللاجئين في قلب الصراع الجاري من أجل الحقيقة والعدالة، مع تكييف أشكال الكفاح، بحيث تتناسب مع إمكانيات وظروف كل الفلسطينيين من النهر إلى البحر.

اقتراح استراتيجية سياسية وكفاحية فلسطينية جديدة، ليس وليد إخفاق تجربة ماضية، بكياناتها وخطاباتها وأشكال كفاحها، فقط، وإنما هو عملية ضرورية تفرضها دروس تلك التجربة، بنجاحاتها وإخفاقاتها

ما يفترض ملاحظته، أن الكيانية السياسية ليست بديلا عن نهوض المجتمع المدني، الذي يشمل النساء والرجال، إذ هي تغتني وتتقوى به، باعتبار النهوض بالمجتمع الفلسطيني، كأفراد أحرار ومتساوين، نساء ورجالا، هو ما يجعل الفلسطينيين شعبا حقا، وهو الذي يسمح بولادة ونمو المجتمع المدني، كأحد أشكال مقاومة سياسات التغييب والتهميش الإسرائيلية.

عموما من الصعب تصور خيارات فلسطينية ناجزة، أو الإجابة عن كل الأسئلة، بعد كل ما مر من تطورات، ومتغيرات، عند الفلسطينيين وعند الإسرائيليين، وفي المنطقة العربية، لكن لا يجوز بكل الأحوال الإبقاء على واقع الانحصار بخيار واحد، سياسي أو كفاحي، لعقود، ولا الامتناع عن تصور إمكان نشوء تحولات تفضي إلى تآكل فكرة إسرائيل، كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية، رغم كل جبروت إسرائيل ومن يدعمها، إذ لا شيء إلى الأبد.

الآن، بعد تجربة ستة عقود، مكلفة ومريرة ومديدة وغنية، ومع استعصاء خيار الحل السياسي وأفول خيار الحل العسكري، في المدى المنظور، مطلوب إحداث قطيعة مع التجربة الفصائلية، أو التحرر منها، بخطاباتها وأشكال عملها وخياراتها السياسية والكفاحية، إذ من دون ذلك سيبقى الشعب الفلسطيني يراوح في ذات المربع، في حين يفترض الخروج منه، بصوغ حركة وطنية جديدة، تبني على دروس الماضي، بإخفاقاته ونجاحاته، بعثراته وأمجاده.

أ.ب
فلسطينيون يكافحون للحصول على طعام من مطبخ خيري بخان يونس، قطاع غزة، يوم الاثنين، 5 مايو

والخلاصة أن اقتراح استراتيجية سياسية وكفاحية فلسطينية جديدة- يفترض الاشتغال الجماعي عليها- ليس وليد إخفاق تجربة ماضية، بكياناتها وخطاباتها وأشكال كفاحها، فقط، وإنما هو عملية ضرورية تفرضها دروس تلك التجربة، بنجاحاتها وإخفاقاتها، كما تفرضها المتغيرات والتطورات في مجتمع الفلسطينيين، في الداخل والخارج، كما على الصعيدين الدولي والعربي، بما في ذلك التحولات في طريقة إدارة الصراعات في العالم.

وبديهي أن هكذا استراتيجية تستمد قوتها ومشروعيتها أساسا من وجود الشعب الفلسطيني في أرضه، بين النهر والبحر، ومن إمكان إيجاد تقاطعات مع يهود-إسرائيليين مناهضين للصهيونية الاستعمارية والعنصرية والدينية والعدوانية، كما من محيط عربي يعضد قضية الفلسطينيين، ويرى في إسرائيل ظاهرة معادية له، إضافة إلى تبلور رأي عام عالمي، بخاصة في الدول الغربية، يتعاطف مع الفلسطينيين، ويرى إسرائيل على حقيقتها، بخاصة بعد حرب الإبادة الجماعية ضد فلسطينيي غزة، كدولة استعمارية وعنصرية وكدولة إبادة جماعية متوحشة، وهو رأي عام يناصر الكفاح من أجل القيم الإنسانية، ويتعاطى مع قضية فلسطين باعتبارها قضية حرية وعدالة وكرامة في العالم.

مجددا، فإن كل ما جرى يعني طي صفحة في تاريخ الشعب الفلسطيني، ولكن قصة كفاح هذا الشعب، بشتى السبل، ستتواصل لأنها تستمد شرعيتها وقوتها من العوامل التي ذكرناها.

* من خاتمة كتاب: "من نفق عيلبون إلى طوفان الأقصى... نقاش في السيرة التراجيدية للحركة الوطنية الفلسطينية". يصدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، عمان.

font change