وفقا لدروس ستة عقود من التجربة الوطنية الفلسطينية المكلفة والمديدة والمريرة والغنية بنجاحاتها وإخفاقاتها، وبخاصة في ظل جمود كياناتها، وانسداد الأفق أمام خياراتها السياسية والكفاحية، وضمنها خيار حل الدولة المستقلة في الضفة والقطاع، وخيار الكفاح المسلح الذي طبعها بطابعه، باتت ثمة ضرورة ملحة للتعامل بطريقة نقدية جريئة ومسؤولة، مع تلك التجربة، وتلك الخيارات، بحيث يشمل ذلك الخطابات والبنى والعلاقات وأشكال العمل، بما في ذلك التجرؤ على طي الصفحة الماضية، التي استهلكت واستنفذت. فالشعب الفلسطيني الذي دفع باهظا، من معاناته وتضحياته، ثمن تلك التجربة، وثمن المكابرات، والمغامرات، وإنكار الواقع، وتغليب الشعارات، يستحق ذلك من قياداته وفصائله ومثقفيه، أو ما تبقى منهم.
وقبل الخوض في الحديث عن أي استراتيجية يفترض لفت الانتباه إلى أن المسألة لا تتعلق بالنص، أو بخطوط نظرية فقط، مهما كان صوابها أو صلاحيتها، وإنما تتعلق بالحامل السياسي والحاضنة الشعبية، وبملاءمة أية طرح مع الشروط الذاتية والموضوعية.
تبعا لذلك، فإن صوغ أي استراتيجية أو رؤية، سواء كانت سياسية أو كفاحية، يفترض أن تأتي كثمرة نقاشات معمقة، في إطارات سياسية جمعية، تمثيلية، وازنة، وشرعية، وأن تنطلق من الخبرات التاريخية لكل شعب، ومن مصلحته، بعيدا عن الانحيازات، أو العصبيات، الأيديولوجية، أو الفصائلية، أو المناطقية. أيضا، فإن أي استراتيجية يفترض أن تتمثل في خطوطها العامة واقع الشعب المعني، وإمكانياته، المنظورة والمستقبلية، وأن تراعي طموحاته وأهدافه المشروعة على المستويين القريب والبعيد، دون أن يضر أو يحجب أحدهما الآخر، وأن تحدد أشكال النضال الممكنة والمتاحة، والبنية الكيانية التي يمكن لها أن تحمل مسؤولية الخيارات السياسية والكفاحية، بما يؤسس لاستعادة وحدة الشعب والأرض والقضية والرواية التاريخية، مع ضمان ترابط وتكامل الخيارات السياسية بالكفاحية، وبالعكس.
في هذا السياق، يمكن اقتراح الخطوط العامة التالية، ليس بوصفها منهج عمل كاملا، وإنما باعتبارها فاتحة للنقاش، لتعميقها وتأصيلها وتعديلها والبناء عليها.
على صعيد الشعب الفلسطيني
أولا، بينت التجربة أن الفلسطينيين في كفاحهم وتضحياتهم ومعاناتهم وبطولاتهم، مقيدون بمحددات تكمن بكونهم أسرى الواقع العربي والإقليمي والدولي، المؤثر سلبا عليهم، مع إمكانياتهم المحدودة، وخضوعهم لسيادة أنظمة مختلفة، ومع تجزئتهم وتشتتهم.
يفيد ذلك بأنه لا يمكن الحديث عن حركة وطنية فلسطينية "مستقلة" في ظل انكفاء عربي، ومع تصدع العلاقات العربية-العربية، كما لا يمكن توقع إنجازات وطنية، مهما كانت التضحيات والبطولات، في وضع دولي لا يسمح للشعب الفلسطيني باستثمارها.