الباحث الأميركي إيريك كالدروود: كلٌ يغني على أندلسه

في كتابه الجديد "على الأرض أو في القصائد: الحيوات الكثيرة للأندلس"

Eduardo Ramon
Eduardo Ramon

الباحث الأميركي إيريك كالدروود: كلٌ يغني على أندلسه

إيريك كالدروود باحث وأكاديمي أميركي يدرس الأدب المقارن في جامعة إلينوي، في أوربانا-شامبين، يركز في أبحاثه على الأدب والسينما في شمال أفريقيا، وعلى الدراسات الأندلسية، ونظرية ما بعد الاستعمار، ودراسات البحر الأبيض المتوسط. حصل على البكالوريوس من جامعة براون في عام 2003 وعلى درجة الدكتوراه من جامعة هارفارد عام 2011.

من أبرز كتبه "الأندلس في اللقاء الاستعماري الإسباني- المغربي" (2018)، "على الأرض أو في القصائد: الحيوات الكثيرة للأندلس" (2023)، يستكشف فيهما الذاكرة الثقافية للأندلس وأثرها العميق في الهويات السياسية في البحر الأبيض المتوسط والعالم العربي.

هنا حوار معه حول كتابه المهم والمثير للجدل "على الأرض أو في القصائد: الحيوات الكثيرة للأندلس"، الصادر عن جامعة هارفارد في الولايات المتحدة الأميركية.

ما الـذي دفعك إلى تأليف كتاب "على الأرض أو في القصائد: الحيوات الكثيرة للأندلس"، وبماذا يختلف هذا الكتاب عن الكتب الأخرى التي تدرس الموضوع؟

الكتاب محاولة لفهم معاني الأندلس واستخداماتها المتنوعة في الثقافة المعاصرة. لا يتساءل الكتاب: ماذا كانت الأندلس؟ بل ما الذي تفعله الأندلس؟ بمعنى آخر، يهدف إلى استكشاف كيفية إبداع الأندلس للمعنى وكيف ألهمت الفن والنشاط في أوروبا وشمال إفريقيا والشرق الأوسط وأماكن أخرى. كما يسعى إلى فهم كيف ساعدت الأندلس الكتاب والفنانين والمجتمعات المختلفة على فهم العالم والتعبير عن الهويات الثقافية. يطمح الكتاب أيضا إلى إيضاح كيف شكلت ذكرى الأندلس الثقافة في مختلف أنحاء العالم اليوم.

إن إحدى السمات المميزة للكتاب هي بنيته. فأنا، على عكس باحثين آخرين درسوا الموضوع لا أراعي التسلسل الزمني، أو سياق الأمة. عوضا عن ذلك أنظم الكتاب من ناحية الموضوع. يحدد كل فصل فيه أحد المعاني أو الاستخدامات المحددة للأندلس في الأزمنة الحديثة. أستقصي في الفصلين الأولين كيف تقاطعت النقاشات حول الأندلس مع نقاشات حول العرق والسلالة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وخاصة في المجادلات التي دارت حول بناء الهويتين العربية والأمازيغية. وفي الفصل الثالث أنتقل من الهويات العرقية إلى الهويات الجندرية كي أظهر كيف حفزت ذكرى الأندلس المحادثات حول " النسوية" بين الكتاب العرب والمسلمين. وفي الفصل الرابع أركز على ساحة أخرى للصراع السياسي وأتناول الاستخدامات المتنوعة للأندلس في الثقافة الفلسطينية الحديثة حيث خدمت الأندلس كاستعارة للتفكير بفلسطين وبالمستقبل الفلسطيني.

أدهشتني هـذه الصلة بين تاريخ الأندلس والأحداث الحالية وسألت نفسي: ما الذي تقوله لنا هذه الطريقة في التحدث عن الأندلس عن موقع المهاجرين المسلمين والعرب اليوم في إسبانيا؟

في الفصل الخامس أتناول موضوع التعايش بين الأديان وكيف أن عددا كبيرا من المغنين عبروا عن هذه الفكرة من خلال الموسيقى والصوت. وفيما أدرس كل حالة في هذا الكتاب، أطرح الأسئلة التالية: كيف ومتى نشأ هذا الفهم الخاص للأندلس؟ وكيف عبر عنه في مجموعة كبيرة من النصوص الثقافية؟ ما الاحتياجات الثقافية والسياسية التي تلبيها هذه التصورات؟ وما الهويات والجماعات التي تشكلت حولها؟ إن نتيجة هذه الاستقصاءات لا تشكل تاريخا للأندلس بقدر ما هي "تاريخ للحاضر" من خلال موشور الأندلس.

هكذا اكتشفت الأندلس

تستكشف في الكتاب حياة العديد من سكان الأندلس، وأهميتها التاريخية والأدبية والثقافية. ماذا تعني الأندلس بالنسبة إليك شخصيا، وكيف تطورت علاقتك بها على مدار بحثك؟

 يشكل هذا الكتاب محاولة لعودتي إلى أحد لقاءاتي الأولى بالأندلس، وكي أدرسها من جديد في ضوء البحث والتفكير اللذين أجريتهما في العقدين الماضيين. حين كنت في التاسعة عشرة من عمري أخذت إجازة بعد تخرجي من الثانوية  - قبل أن أبدأ دراستي الجامعية -  وسافرت إلى إسبانيا كي أدرس الفلامنكو والرقص في أكاديمية في إشبيليا.

AFP
نساء يرتدين اللباس الأندلسي التقليدي في بلازا دي إسبانيا، إشبيلية

كانت تلك تجربة تكوينية بالنسبة إلي لأسباب عدة منها أنها كانت زيارتي الأولى إلى جنوب إسبانيا حيث آثار الأندلس واضحة ومرئية. في تلك الفترة زرت أولا بعض أكثر الصروح شهرة في الأندلس وبينها جامع قرطبة وقصر الحمراء في غرناطة وقصر إشبيلية الذي كان مرة مقرا لإقامة المعتمد بن عباد. وفي تلك الفترة توصلت أيضا إلى وعي جديد حول كيفية بقاء الأندلس حاضرة بقوة بتراثها وذكرياتها في المجتمع الإسباني المعاصر، حيث واصلت إذكاء المناقشات العامة حول الفن والسياسة والانتماء. دعني أذكر هنا مثالين: سافرت إلى إشبيلية، كما ذكرت، لدراسة رقص الفلامنكو والموسيقى. كان أستاذي، وهو رجل إسباني في العقد الرابع، يدلي بتعليقات تربط بين الفلامنكو والتراث العربي والإسلامي في إسبانيا. قال، على سبيل المثال، إن بعض أصوات الفلامنكو جاءت من "المغاربة" (ويقصد بذلك أهل الأندلس). لم تكن لدي في ذلك الوقت أية أدوات تاريخية أو نقدية كي أقيم ما قاله أستاذي لكنني كنت فضوليا لمعرفة المزيد عن مصدر أفكاره، وكيف ومتى صار الموسيقيون والفنانون الإسبان يربطون بعض ممارساتهم الموسيقية بالأندلس، وماذا تعلمنا تلك الظاهرة عن الهوية القومية أو الإقليمية في إسبانيا. هذه هي الأسئلة التي حاولت الإجابة عنها في الفصل الخامس. ولم تكن دروسي في الفلامنكو المكان الوحيد الذي سمعت فيه كلاما عن الأندلس. سمعت عنها أيضا في إشبيلية في تسعينات القرن الماضي، في فترة شهدت ازدهارا كبيرا في الهجرة إلى إسبانيا من شمال إفريقيا. ولاحظت كيف أن الإعلام الإسباني صور أحيانا هذا الازدهار في الهجرة بوصفه "عودة"، عودة عدد كبير من السكان المسلمين، الذي عاشوا مرة في شبه الجزيرة الإيبيرية.

AFP
سياح يستمعون للشرح في شارع قرب جامع قرطبة

أدهشتني هـذه الصلة بين تاريخ الأندلس والأحداث الحالية مرة أخرى. وسألت نفسي: ما الذي تقوله لنا هذه الطريقة في التحدث عن الأندلس عن موقع المهاجرين المسلمين والعرب اليوم في إسبانيا؟ هل يشكل المسلمون، في الماضي والحاضر، جزءا أساسيا من الثقافة الإسبانية أم هم غرباء عنها نوعا ما؟ هذه هي الأسئلة التي ناقشتها في خاتمة الكتاب.

الأندلس تشير إلى مكان وزمان معينين في الوقت نفسه، كما تشير إلى مجموعة من الأفكار والذكريات التي تجاوزت سياقها الأصلي

بعد دراسة الفلامنكو في إسبانيا عدت إلى الولايات المتحدة ولدي رغبة قوية بتعلم العربية ودراسة تاريخ الأندلس. شغلتني ملاحقة هذه الأهداف في الأعوام العديدة التالية ودرست العربية كطالب دكتوراه في جامعة هارفارد، وأخذتني دراساتي العربية في النهاية إلى المغرب وسوريا حيث درست اللغة في سياقها وقمت بالبحث وقابلت كثيرا من المختصين في التاريخ الأندلسي وتعلمت منهم. واكتشفت طوال الطريق أن حقل الدراسات الأندلسية يبدو مختلفا جدا في أجزاء مختلفة من العالم. بدت دراسة الأندلس ـ بما تنطوي عليه من تأكيدات وإغفالات ـ مختلفة في الولايات المتحدة وإسبانيا والمغرب وسوريا، حتى وإن كان الباحثون في هذه البلدان كلها يشتركون في موضوع واحد للدراسة. فقد يركز الباحث السوري، على سبيل المثال، على حكم الدولة الأموية في الأندلس، في حين قد يركز الباحث المغربي على حكم الموحدين (عندما اتحدت الأندلس والمغرب في إقليم واحد)، أو على الشتات الأندلسي في شمال إفريقيا بعد فتح غرناطة في عام 1492. هذه المقاربات كلها صحيحة، لكنها تقول لنا شيئا عن الكيفية التي يشكل بها الموقف الثقافي للباحث فهم الماضي وروايته. هكذا أعبر عن هذه النقطة في مقدمة كتابي: "إن الموقف الثقافي للشخص لا يحدد بالضرورة رؤيته للأندلس، ولكنه يحدد بالتأكيد زاوية المقاربة، ونقاط المرجعية، والشعور بالقرب (أو المسافة)، والعلاقة المتصورة بين الماضي والحاضر". قادني هذا التفكير كله بالموقف بالطبع إلى تأمل موقفي كباحث ولد في الولايات المتحدة لأسرة لا يجمعها أي انتماء قومي أو ديني أو عرقي أو جغرافي مع الأندلس.

AFP
سائح يزور قصر الحمراء في غرناطة

ولكن ما الإمكانيات المتاحة لدراسة الأندلس من هذا المنظور؟ وما القيود التي قد تعترضنا؟ هذان السؤالان اللذان حملتهما معي أثناء عملي على هذا المشروع. ورغم أنني لا أدرج في الكتاب الكثير من التأملات الذاتية إلا أنني بذلت جهودا لإظهار كيف شكلت ذكرى الأندلس السياسة في الولايات المتحدة، وكذلك في أوربانا، المدينة الصغيرة التي أعيش فيها في ولاية إلينوي. 

التاريخ والرمز

استنادا إلى البحث الذي قمت به، كيف تجيب عن سؤال محمود درويش: هل كانت الأندلس على الأرض أو في القصائد؟

جوابي المختصر هو أن الأندلس في كليهما. فالأندلس مكان تاريخي محدد، وهي أيضا مكان في الخيال (أو الخطاب).  قررت أن أستخدم مقتطف درويش كعنوان لكتابي لأنه ساعدني في تحديد إحدى القضايا المحورية فيه: وهي أن الأندلس تشير إلى مكان وزمان معينين في الوقت نفسه، كما تشير إلى مجموعة من الأفكار والذكريات التي تجاوزت سياقها الأصلي وانتشرت في أنحاء العالم، مكونة معاني جديدة طوال الطريق. كما اخترت مقتطف درويش لأنه يعكس أحد السياقات التي أركز عليها في الكتاب وهي فلسطين والطرق التي تداخلت فيها الأندلس مع الثقافة الفلسطينية الحديثة.

حدث في تلك الفترة الطويلة تنوع هائل في كيفية تعريف جماعات دينية مختلفة كالمسلمين واليهود والمسيحيين لأنفسهم وللعلاقات فيما بينهم

إن التعايش السلمي بين المسلمين والمسيحيين واليهود في الأندلس موضوع محوري في كتابك وتورد المصطلح الإسباني Convivencia  وتقول إنه كان ضروريا ولم يكن كافيا في آن، أين يكمن عدم الكفاية هذا؟

إن Convivencia  مصطلح إسباني يعني  التعايش أو "العيش معا"  لكنه اكتسب معنى أكثر تحديدا في الدراسات التي تناولت الأندلس: يشير إلى فكرة أن المسلمين واليهود والمسيحيين عاشوا معا في سلام وانسجام نسبيين في الأندلس. أدعو هذه الفكرة "غير كافية"  لأنني أعتقد أنها لا تقدم إلا فهما جزئيا للعلاقات بين الأديان في الأندلس. يجب أن نضع في أذهاننا أن الأندلس اسم يشير إلى مكان وجد (ولو بحدود جغرافية متنوعة)  منذ 800 عام تقريبا. وحدث في تلك الفترة الطويلة تنوع هائل في كيفية تعريف جماعات دينية مختلفة كالمسلمين واليهود والمسيحيين لأنفسهم وللعلاقات فيما بينهم. إذا كنت تبحث عن أمثلة للتعاون المثمر والتعايش عبر الخطوط الدينية فلن تعاني من أي مشكلة في ذلك. قد تنظر، على سبيل المثال، إلى قضية حسداي بن شبروط، وهو طبيب يهودي قرطبي من القرن العاشر عمل مستشارا ودبلوماسيا في بلاط الخليفة الأموي عبد الرحمن الثالث (عبد الرحمن الناصر)، وبقدر ما تبدو قصة حسداي بن شبروط مقنعة، يمكنك العثور بسهولة على أمثلة ترسم صورة مختلفة للحياة بين الأديان في الأندلس. على سبيل المثال، أدى اندلاع العنف ضد اليهود في غرناطة في عام 1066 إلى مذبحة طالت معظم المجتمع اليهودي في المدينة. أي من هذين المثالين -  حسداي بن شبروط أو مذبحة عام 1066  - يوضح القصة الأكبر للأندلس؟ أقول كليهما. أعتقد أننا بحاجة إلى إيجاد طريقة للحديث عن الأندلس لا تبسط تعقيدها، وتأخذ في الحسبان الإيجابيات والسلبيات والخير والشر.

Eduardo Ramon

أحاجج أيضا أن التعايش غير كاف لأنه غير متزامن.  ويعكس كتابي فهما حديثا للتسامح في فترة أقدم حيث كان الانتماء الديني مجرد طريقة من الطرق التي كان أهل الأندلس يفهمون بها مكانتهم في المجتمع وعلاقتهم بالآخرين. كانت الهويات في الأندلس، مثل الهويات اليوم، معقدة ومتعددة الطبقات. وربما كانت الطبقة الاجتماعية والخلفية التعليمية مؤثرة بالقدر نفسه ــ أو أكثر ــ مثل الدين في بناء العلاقات بين المسلمين واليهود.

أعتقد أن المزاعم حول التعايش في الأندلس تخبرنا عن الحاضر أكثر مما تخبرنا عن الماضي. إن شخصيات أندلسية مثل حسداي بن شبروط تواصل أسر خيالنا لأن حياتها تتغاير مع كثير من الصراعات التي تعرف عالمنا اليوم.  وتكشف حياتها أنه لا يوجد شيء محتم حيال الصراع بين المسلمين واليهود والمسيحيين. يبين لنا هذا أن عوالم أخرى ممكنة.

يقترح محمود درويش أن قوة الأندلس، مثل قوة فلسطين، لا تكمن في الماضي بل في المستقبل، في مستقبل ممكن، وإن لم يتحدد بشكل كامل بعد

أريد أن أوضح أنني آخذ هذه الاحتمالات الخيالية على محمل الجد، وأنني حتى أعثر على بعض العزاء فيها. لكنني أظن أننا يجب أن نكون حذرين في التمييز بين الأندلس والمعاني المتنوعة التي اكتسبتها في الأزمنة الحديثة. ذلك أننا حين نتحدث أحيانا عن الأندلس نحن في الحقيقة نتحدث عن أنفسنا، ونسقط تطلعاتنا وآمالنا على الماضي.

التراث الشعري

أحد المحاور الرئيسية في كتابك هو تراث الأندلس الشعري. كيف عبر الشعر عن جوهر الأندلس بشكل يختلف عن السرد التاريخي أو الأشكال الأدبية الأخرى؟ كيف أعاد الشعراء المعاصرون صياغة أو إعادة تصور إرث الأندلس في أعمالهم؟

 ليس الشعر في كتابي هذا أحد الموضوعات الرئيسية فحسب بل أيضا إطار منهجي. دعني أشرح ما أقصده بذلك. حين كنت أعمل على تأليف الكتاب كان يدور في ذهني نص مقتطف من كتاب "فن الشعر" لأرسطو يقول فيه الفيلسوف اليوناني إن المؤرخ "يروي الأمور كما حصلت فيما يروي الشاعر أمورا يمكن أن تقع". وجدت تمييز أرسطو مفيدا في وصف كتابي: إنه كتاب لا يهتم بتاريخ الأندلس بقدر ما يهتم بشعرها. وإذا كان السؤال الأول يتناول الزمن الماضي (ماذا كانت الأندلس؟"، فإن السؤال الثاني يتأرجح بين الماضي والحاضر والمستقبل، ويسأل: ماذا كان يمكن أن تكون الأندلس، وماذا يمكن أن تكون الآن أو في وقت لاحق؟ إن هذه المقاربة للأندلس، التي يمكن أن ندعوها "شعرية الأندلس"، هي دين آخر أدين به لشعر محمود درويش.

AFP
جامع قرطبة بجانب الجسر الروماني

في مقابلة أجرتها معه صحيفة "لوموند" الفرنسية في 1983 قال درويش، وأنا أترجم كلامه هنا عن الفرنسية: "فلسطين ليست ذكرى بل وجود، ليست ماضيا بل بالأحرى مستقبل. فلسطين هي جماليات الأندلس، هي أندلس الممكن". ملهما من كلمات محمود درويش سألت في كتابي: ما الأمر الذي جعلته الأندلس ممكنا للكتاب والفنانين في أنحاء العالم، وخاصة للكتاب والفنانين المسلمين؟ يبدو أن محمود درويش يقترح أن قوة الأندلس، مثل قوة فلسطين، لا تكمن في الماضي بل في المستقبل، في مستقبل ممكن، وإن لم يتحدد بشكل كامل بعد.

أندلسيات فيروز

غنت المطربة اللبنانية الكبيرة فيروز كثيرا عن الحنين إلى الأندلس الأسطورية المفقودة. كيف يمكن تفسير تعبيرها الفني عن الأندلس؟ وما الذي تكشفه أغانيها عن الصدى العاطفي والثقافي المعاصر للأندلس في العالم العربي؟

حدث لقائي الأول مع الأندلس من خلال الموسيقى. كانت الموسيقى أحد المجالات الرئيسية التي انخرط فيها الفنانون من إسبانيا إلى سوريا ومناطق أخرى في ذكرى الأندلس. لهذا السبب، تلعب الموسيقى دورا مهما في كتابي، حتى إنني قمت بإنشاء "قائمة تشغيل" على "سبوتيفاي"  ترافق الكتاب.

ألبوم فيروز "أندلسيات" الصادر في 1966 هو من أعظم الاحتفاءات الموسيقية بالأندلس في القرن العشرين

إن ألبوم فيروز "أندلسيات" الصادر في 1966 هو من أعظم الاحتفاءات الموسيقية بالأندلس في القرن العشرين. لكنني لا أحلل ألبوم فيروز بالتفصيل في كتابي بل أحلل أداءها في سينما الأندلس في الكويت عام 1966. في تلك الحفلة، المتوفرة على "يوتيوب"، قدمت فيروز إحدى أشهر مقطوعات "أندلسيات"، قصيدة ابن الخطيب "جادك الغيث". حين ناقشت هذا الأداء في الكتاب حاولت أيضا أن ألقي الضوء على أجزائه المكونة: فيروز فنانة لبنانية مسيحية تغني قصيدة لابن الخطيب، الشاعر المسلم من غرناطة في القرن الرابع عشر، في سينما الأندلس، وهي قاعة كويتية للحفلات سميت على اسم مكان يبعد خمسة آلاف كيلومتر، وبعد حقبة تاريخية سبقت إنشاء دولة الكويت الحديثة بعدة قرون. وأنا أفكر بهذه المكونات المختلفة تساءلت: ما الذي يجمع فيما بينها؟ كيف تنسجم في شبكة واضحة من المعاني؟ إن فيروز والشاعر الأندلسي ابن الخطيب والجمهور الكويتي لا يشتركون في بلد أصل، ولا يجمعهم سياق تاريخي، أو يربطهم دين. إن ما يجمع بينهم هو فكرة العروبة، هوية متأصلة في لغة مشتركة، وفي فهم تراث ثقافي وعرقي مشترك، كما أشرح في الكتاب.

AFP
أقواس جامع قرطبة

في الفصل الأول من الكتاب أستقصي هذه النقطة وأظهر كيف أسهمت الأندلس في تعريف الهوية العربية الحديثة منذ  النهضة في القرن التاسع عشر وحتى الوقت الحاضر. وبينما أدرس كيف مكنت الأندلس أشكال الهوية والانتماء التي ربطت العرب في سياقات تاريخية مختلفة بينت أيضا أن هـذه الطريقة في الحديث عن الأندلس تقصي بعض الجماعات غير العربية وخاصة الأمازيغ في شمال إفريقيا. في الفصل الثاني من الكتاب آخـذ هذا الجزء من القصة وألقي الضوء على جهود حديثة بذلها كتاب وشخصيات ومنظمات شمال إفريقية لتأكيد الدور الذي لعبه الأمازيغ في الأندلس والاحتفاء به.

جدل أندلسي

تقول إنه غالبا ما يضفى طابع أسطوري على إرث الأندلس بطرق تتجاهل الحقائق غير المريحة. ما الجوانب الأكثر إثارة للجدل، أو الإشكالية، في كيفية تصوير الأندلس في الخطاب الأكاديمي والخيال الشعبي؟

إن إحدى النقاط الرئيسية التي طرحتها في الكتاب هي أن ذكرى الأندلس برهنت أنها طيعة جدا، وحفزت سلسلة متنوعة من المشاريع السياسية والثقافية في أنحاء العالم. وإذا ما بسطنا الأمر قليلا لا يمكن اختزال الأندلس إلى معنى واحد، أو أيديولوجيا واحدة. إن بعض التأويلات والمشاريع التي بزغت حول الأندلس، كما تقول، مثيرة للجدل وإشكالية. دعني أطرح مثالين: أولا، أظن أنه من المهم أن نتذكر أن إرث الأندلس خدم كتبرير للاستعمار الأوروبي، وخاصة للاستعمار الإسباني للمغرب. عاد عدد كبير من الكتاب والسياسيين الإسبان إلى تراث الأندلس، منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين، لتبرير مشاريع إسبانيا الاستعمارية في المغرب، ولتمييز إسبانيا عن منافستها في المغرب، فرنسا.

AFP
زخرفة السقف في قصر الحمراء في غرناطة

قالوا إن الاستعمار الإسباني في المغرب لم يكن استعمارا بل عودة إلى التراث المشترك للأندلس، الذي يوحد الإسبان والمغاربة تحت راية ثقافية واحدة. شكلت هذه الفكرة ركيزة أساسية للخطاب الاستعماري الإسباني. ويمكنك أن تجد مثالا جيدا على هذه الفكرة في كتاب توماس غارسيا فيغيراس (1892-1981) أحد أبرز أنصار الاستعمار الإسباني في ظل نظام فرانكو. في كتابه "المغرب: إنجازات إسبانيا في شمال إفريقيا، 1939"، قال "إن ملايين المسلمين المنتشرين في أنحاء العالم، الذين يكافحون للتخلص من السيطرة الأوروبية، يتابعون باهتمام شديد العمل الروحي والإنساني الذي تمثله الحماية الإسبانية على المغرب، ويدركون من خلالها ولادة ذلك التعايش الثقافي الرائع بين الشعبين في الأندلس. أما نحن الإسبان فلا نستطيع أن ننسى هذا الدرس، تلك الحقيقة المتمثلة في عالم إسلامي يعود إلى الإمبراطورية الروحية للأندلس من خلال أفعالنا الحالية في المغرب".

الأندلس رمز للتواصل الثقافي البيني وأداة للهيمنة، جسر يربط أناسا متنوعين وحدود تفصلهم في آن واحد معا

يصور غارسيا فيغيراس في هذا المقتطف الحماية الإسبانية على المغرب (1912-1956) على أنها "انبعاث"  الأندلس، ويقول إن التعايش بين الإسبان والمغاربة في الأراضي الاستعمارية الإسبانية شكل استمرارا لإحياء التعايش بين المسيحيين والمسلمين في الأندلس. أقدم هذا المثال المختصر كي أوضح مدى تعقيد وتشوش تراثات الأندلس وكيف خدمت فكرة تعايش شعوب مختلفة في الأندلس كأداة للهيمنة الاستعمارية. لا تقتصر هذه الديناميات على اللقاء الاستعماري بين أوروبا وشمال إفريقيا. أوضح في الفصل الأول من الكتاب كيف أن الاحتفاء بدور العرب والثقافة العربية في الأندلس غالبا ما همش إسهام الأمازيغ في الأندلس.

AFP
راهبات من موكب "المسيح الغجري" بزي "مانتيلا" التقليدي في غرناطة

أتعقب هنا نسب خطاب أدعوه "أندلس العرب"، يشدد على عروبة الأندلس ويربطها بشعب المشرق وثقافاته، ويحتفي بالحكم الأموي فيها. لهذا الخطاب جذور تعود إلى زمن الأندلس لكنه عاود الظهور بقوة في عصر النهضة العربية في أعمال كتاب مثل جرجي زيدان. ومنذ بدايات القرن العشرين حفز الخطاب الاحتفالات بالهوية القومية العربية، واحتفى بالعرب المنحدرين من أديان وقوميات مختلفة بينما في الوقت نفسه تجاهل أو رفض علنا دور الأمازيغ في الأندلس. بعبارة أخرى، استخدم ميراث الأندلس أحيانا للترويج لأفكار عن تفوق العرب على الجماعات غير العربية. وقد اكتسبت هذه المسألة أهمية خاصة في المغرب المعاصر، حيث اختلطت المناقشات حول الأندلس في كثير من الأحيان بالمناقشات حول الهويات العرقية.

أشير إلى هـذه الأمثلة كي أوضح ما أعنيه حين أقول في مقدمة الكتاب أن سياسة تذكر الأندلس وتمثيلها "مشوشة". ويشتمل ميراث الأندلس على مجموعات كثيرة لكن هذه المجموعات لا تعترف دوما بمزاعم بعضها البعض حول الماضي. إن الأندلس يمكن أن تولد صلات بين الجماعات المختلفة لكنها يمكن أن تخدم أيضا كي ترسم الحدود وتدعم الهرميات، أو حتى مشاريع الهيمنة (كما كانت الحالة مع الاستعمار الإسباني في المغرب).

لا أقول إننا نحتاج إلى التخلي عن الأندلس، أو إحلال رؤية إيجابية بشكل كامل للأندلس مكان أخرى سلبية بشكل كامل. ما أقوله هو أننا، معشر الباحثين، يجب أن نتوصل إلى فهم للأندلس عميق بما يكفي كي يعبر عن الأندلس وتوتراتها ويدعم تناقضاتها. إن الأندلس رمز للتواصل الثقافي البيني وأداة للهيمنة، جسر يربط أناسا متنوعين وحدود تفصلهم في آن واحد معا. لا نستطيع في الحقيقة أن نقبل بأحد هذه الأمور دون الآخر. إن دراسة الأندلس درس في تعلم كيف نقبل التناقضات ونتكيف معها، هذا إذا لم تكن شيئا آخر.

font change