رواية" ناي" للعراقي فخري أمين: حين تتحول الموسيقى إلى نسق سردي

لحظة تقاطع بين التاريخ والحكاية

فخري أمين ورواية "ناي"

رواية" ناي" للعراقي فخري أمين: حين تتحول الموسيقى إلى نسق سردي

لا تتناول رواية "ناي" للعراقي فخري أمين، الوقائع التاريخية من موقع الشاهد المحايد، بل هي بنية سردية، تنبني على إعادة توزيع الوعي التاريخي داخل خطاب متعدد الطبقات. قصد المؤلف أن يتماهى مشروعه السردي مع تخوم التخييل والتاريخ، بالشكل الذي لم يستدع الماضي بوصفه زمنا مغلقا، بل باعتباره فضاء مفتوحا تتقاطع فيه الأصوات والرؤى. الروائي أمين، على ما يبدو، مأخوذ بهاجس الإنصات لما يسكت عنه التاريخ الرسمي، محاولا عبر تقنية "التخييل الاستدعائي" أن يمنح المهمل والمنسي حضورا سرديا جديدا. وهذا ما يمكن استنتاجه من خلال روايتيه، "أجنحة الفراشات"(2019، دار سطور) ، و"حارس المنارة"(2023، دار سنا). في روايته الأخيرة "ناي"، الصادرة عن اتحاد الأدباء والكتاب في العراق (2025)، نواجه نصا لا يعيد فقط تمثيل لحظة مأسوية من تاريخ مدينة الموصل، بل يفككها داخل فضاء سردي يشبه حقلا صوتيا متعدد الترددات.

الصوت السردي وتعدد الرؤية

في لحظة تقاطع بين التاريخ والسرد، تقف المذبحة التي وقعت عام 1933 في مدينة سميل، شمال العراق، لا بوصفها مرجعية وثائقية، بل نقطة انكسار تعيد ترتيب الزمن داخل الرواية. فالماضي لا يروى وفق خطية كرونولوجية، بل يعاد بناؤه عبر تداخل سردي يسمح لوقائع مثل قصة هروب مراد، ومأساة ماريا، أن تتوالد عبر ضمير مزدوج، هو ضمير التذكر وإعادة التمثيل معا. لأجل ذلك، يخضع فخري أمين الأصوات السردية لنظام توزيع متعدد. فالسارد يمنح الشخصيات سلطة التعبير عبر الرسائل، التي تشكل ما يسميه جينيت، "نمطا سرديا داخليا" أو intradiegetic narration، حيث تنفصل مستويات الرؤية، وتتعدد بؤر السرد (focalization). هنا ، لا تعود ماريا التي تتحول إلى راهبة، مجرد شخصية، بل تصبح صوتا تأويليا للنص، شأنها شأن حيدر، يتكشف من خلالها سؤال الهوية والاختلاف: "لأول مرة شعرت بثقل الزي الذي أرتديه، بمتطلباته ومدلولاته، ووظيفته، ونمطيته، وفاتورته التي يجب علي دفعها من ذاتي".

تقنية الرسائل التي يعتمدها أمين، تتجاوز كونها وسيلة لتدوين الحنين أو تواصل المتباعدين، لتشكل بنية سردية مستقلة، تعيد خلق الحكاية من داخلها. الرسائل تتيح لما يسميه جينيت "السرد الذاتي الزمني" (autodiegetic narrative) أن يأخذ مجراه، فنتابع من خلالها تطور العلاقة بين حيدر وماريا من جهة، وبالتوازي نعيد تأويل الحدث من وجهة نظر الداخل – الداخل الشعوري والوجودي لكل شخصية. هنا، ينقلب السرد من كونه استعراضا لما كان، إلى فعل من أفعال البوح، حيث تصبح الذات راوية ومؤولة في آن.

تقاطع الذاتي والرمزي

في "ناي"، تتجاوز الشخصيات كونها أدوات لتحريك الحبكة، وتتحول إلى فضاءات سردية داخلية، تنتج المعنى مثلما تنتجه اللغة. إذا أردنا أن نقرأ شخصية حيدر السواس من منظور "الزمن السردي"، كما صاغه جينيت، فإن لحظة دخوله إلى بيت الدعارة –تمثل ما هو أكثر من واقعة في الزمن الأول (الماضي) – فهي تشكل "لحظة سردية تأسيسية" moment fondateur، تبنى عليها بقية تأملاته وخياراته الروحية. هو ابن الوراق والصوفي، تربى في هامش المعرفة، على أطراف الكتاب. ورغم وجوده المادي في العالم، فإن مساره يتموضع داخل ما يمكن تسميته بـ"الزمن النفسي للسرد" (temps subjectif)، حيث يتقاطع الإدراك مع التجربة، والحنين مع الخوف.

تقنية الرسائل التي يعتمدها أمين تتجاوز كونها وسيلة لتدوين الحنين أو تواصل المتباعدين، لتشكل بنية سردية مستقلة، تعيد خلق الحكاية من داخلها

ماريا التي تمسد رأسه، لا تقدم هنا كفتاة، بل صورة سردية مركبة: الأم، المعشوقة، الرمز الديني، الصنو الباطني. هكذا يصبح فعل الابتعاد عن الجسد في تلك اللحظة، ليس نكوصا أخلاقيا، بقدر ما أنه عبور نحو مساحة سردية مضادة للنجس، عبر ما يمكن أن يسمى بـ"استعارة التطهر الرمزي".

ماريا، هي الأخرى، تروى من داخل طبقاتها النفسية والدلالية. فهي تمر من مرحلة "الشيء" (فتاة مخطوفة، مستهدفة جنسيا) إلى "الذات" (المرأة الحرة، الروحية، الكاتبة لذاتها من جديد). وتحولها هذا، لا يحدث فجأة، لكنه يتم عبر انتقال سردي تدريجي، يوازي انتقالها الجغرافي (من تلكيف إلى الكنيسة) والوجودي (من الجسد إلى الروح).

فخري أمين

هذا التحول يقابل ما يسميه جينيت بـ"التضاد الزمنـي" (anachronie)، حيث يصبح ماضيها الشخصي حقلا للاسترجاع الذي يعيد تركيب المعنى داخل الحاضر السردي. أي أن ماريا تحكى كاستعارة للمعاناة الروحية: "هي الناي الذي مر عبر النار، ليخرج صوته صافيا".

الشخصيات الثانوية كخطابات أيديولوجية

تطرح الرواية شخصيات ثانوية مثل الشيخ النهماني المتشدد، بوصفه قوة خطابية تجسد صوت السلطة المؤدلجة. فالنهماني ليس "عدوا شخصيا" لحيدر، بل تمثيل لما يسميه جينيت بـ"الصوت المهيمن" (voix dominante)، ذاك الذي يحاول إخضاع التعدد إلى الواحد، والاختلاف إلى النمط.

في المقابل، يقف "الأسطى صديق" بوصفه خطابا ثانويا: ليس صاحب سلطة مباشرة، بل متواطئ، انتهازي، يعيش في ظل خطاب التطرف، ويقتات على فتاته. صديق لا يتكلم إلا داخل فراغات سلطة النهماني، وهذا ما يجعل وجوده غير مكتمل إلا بوجود الآخر. وهكذا، تتوزع الشخصيات في "ناي" على سلم الخطابات لا الأحداث، وعلى خرائط التأويل لا الوقائع.

رمزية الموسيقى

تبرز الموسيقى في رواية "ناي"، ممثلة في آلة الناي، رمزا مركزيا عن حب نقي، بعيدا عن الدوافع الجسدية. يصبح الناي أيضا رمزا للذاكرة العاطفية. فبعد وفاة مراد، تحتفظ ماريا بالناي كذكرى مادية لحبها المفقود، حيث "ظل صوته قويا بداخلها". هذا الارتباط يعكس وظيفة الموسيقى في الأدب كحامل للذاكرة. تصبح آلة الناي أداة للحفاظ على الهوية العاطفية في مواجهة الفقدان.

الموسيقى في الأدب جسر يربط بين الثقافات والأديان، معبرة عن الإنسانية المشتركة. وفي هذه الرواية تقترن آلة الناي، بالسمو والتطلع إلى ما هو إلهي، بينما تشير نبتة السوس إلى الجذور الشعبية والثقافة المحلية. هذا الاستخدام يتماشى مع تقاليد أدبية أخرى تستخدم الموسيقى لتذويب الحدود الثقافية. على سبيل المثل، في "رباعية الإسكندرية" للورانس داريل، تستخدم الموسيقى وسيلة لربط الشخصيات من خلفيات دينية وثقافية متنوعة. بينما في "ناي" لأمين، تصبح رمزا للحوار بين المسيحية والإسلام، بين حيدر المسلم المتصوف، وماريا الراهبة المسيحية.

تبرز الموسيقى في رواية "ناي"، ممثلة في آلة الناي، رمزا مركزيا عن حب نقي، بعيدا عن الدوافع الجسدية

في التقاليد الصوفية الإسلامية، يعتبر الناي رمزا للروح البشرية المتعطشة للوصول إلى الله، كما يظهر في قصيدة "مثنوي" لجلال الدين الرومي. وفي "ناي"، يتجلى هذا البعد التصوفي في شخصية حيدر، الذي يرى المعرفة والموسيقى وسيلة لـ"اكتساب مزيد من الحرية، مزيد من الرحيل، نشوة التحليق". الناي هنا يصبح رمزا للتحرر من قيود المادية والتطرف الديني ممثلا  بالشيخ النهماني، موجها الشخصيات نحو تجربة روحية أعمق. هذا الاستخدام يتردد في أعمال أدبية أخرى، مثل رواية "سيدهارتا" لهيرمان هسه. وبينما يعمل الشيخ النهماني على فرض خطاب أحادي يقوم على الإقصاء والتكفير، يواجهه الناي بوصفه صوتا سرديا تعدديا، ويمكن اعتبار الناي هنا بمثابة راو بديل (narrateur secondaire)، يتكلم حين يصمت الجميع، ويحتفظ بموقع أخلاقي لا يتمثل فقط في سرد الحكاية، بل في حفظ ما لا يقال، ما يتم قمعه أو نفيه.

الاتحاد العام للأدباء و الكتـــَّــاب في العراق - المركز العام
غلاف "ناي"

الناي، إذن، يتجاوز التعبير عن مشاعر، إلى فضاء رمزي مضاد للمؤسسة الدينية المتشددة، لا تفكك فيه الأديان بل يعاد ترميمها على أساس إنساني جامع وشاعري في آن.

إحياء الأمل وإعادة بناء الذات

عندما تتحول ماريا إلى راهبة وتتعلم الموسيقى في القاهرة وباريس، يصبح الناي جزءا من رحلتها نحو إعادة بناء الذات، مما يعكس قدرة الموسيقى على إحياء الأمل. فالناي لا يعزف فقط، بل يمارس بوصفه طقسا داخليا لاستحضار الغائب، وإعادة تشييد المعنى من الرماد. هذا الدور يتشابه مع استخدام الموسيقى في أعمال مثل الأخوات برونتي، حيث تستخدم الألحان وسيلة لتحدي القيود الاجتماعية على النساء. إن صوت الناي الذي "أسر ماريا في شبابها" هو الصوت ذاته الذي "يعيد إليها الابن المفقود"، مما يعني أن الناي ينتج زمنا عاطفيا دائريا، يعود فيه الماضي كأثر حي، لا ذاكرة فحسب.

علاقة ماريا بحيدر – بوصفها علاقة أمومة رمزية – تعيد تشكيل بنية العلاقات في الرواية بعيدا من الأنماط التقليدية للروابط الذكورية أو الرومانسية. هذا التحول يمثل انتقالا من الوظيفة السردية التقليدية (الحبيب/الحبيبة) إلى الوظيفة التحويلية (fonction transformante)، حيث يعاد تعريف الشخصيات من خلال تجارب مشتركة في الألم والمصالحة.

"الناي" هنا هو "الميتاسرد" الذي يعيد بناء النص من الداخل، ويمنحه نغمته الخاصة وسط صخب الأيديولوجيا والصراع، ليغدو صوت الرواية الحقيقي

ماريا :"أشعر بأن الرب عوضني به عن فقد جنيني" – هذه ليست جملة عاطفية فحسب، بل هي بيان سردي يؤكد أن الهوية تبنى من خلال فقدان الآخر، لا امتلاكه. وهكذا، يصبح الناي شاهدا على هذه التحولات الدقيقة: من الحبيب إلى الابن، ومن العاشقة إلى الراعية.

يتحول "الناي" في الرواية من آلة موسيقية إلى"علامة خطابية" تحمل شيفرة رمزية. فمن خلال المزج بين كلمتي"ناي" و"سوس" – في توليفة "نايسوس" – تنشأ دلالة جديدة تحيل إلى"الروح الكونية"، وهي مقاربة تؤسس لنوع من "الرمزية الكبرى" في المتن الروائي، تتقاطع فيه الموسيقى بالتصوف، والحب بالفقد، والدين بالحس الإنساني. هذا المفهوم السيميائي لا يقتصر على المعنى، بل يمتد إلى البنية: فالإيقاع في السرد يعكس تنويعا موسيقيا، وتكرار الثيمات وتداخل الأصوات يعيد تشكيل النص كأنه مقطوعة مركبة، تتنقل بين طبقات صوتية متغايرة.

الجدلية القائمة بين "الناي" و"عرق السوس" ليست مجرد ثنائية جماليات (الموسيقى/المذاق)، بقدر ما أنها ثنائية طبقية وثقافية – تعيد ترتيب الفضاء الرمزي داخل الرواية. الناي أداة روحانية عابرة للزمن، بينما السوس مشروب شعبي يومي، متجذر في الذاكرة الجمعية. ويعكس جمع هذين العنصرين في مصطلح "نايسوس" آلية الدمج الأسلوبي (mélange stylistique)  التي تتعلق بتعدد الألسن داخل الرواية.

فخري أمين

في هذا المعنى، فإن "نايسوس" هو أيضا تجسيد سردي لتصالح الذات مع طبقاتها المتعددة: الروحي، الجسدي، الشعبي، والمتسامي. وهذا ما يمنح النص بنية تعددية الطبقات الصوتية (polyphonic structure) تتجاور فيها الأصوات دون أن يلغي بعضها بعضا، بل تتعالى في هارمونية سردية دقيقة.

في ضوء المنهج الجينيتي، يتجاوز الناي في رواية فخري أمين فاعليته كعنصر سردي ليصبح مفتاحا تأويليا عاما للنص كله. يتنقل عبر الشخصيات، الأزمنة، الخطابات، ليعيد تشكيل العالم ضمن رؤية إنسانية شاملة، حيث يمكن المقدس أن يتكلم بآلة، والماضي أن يعاش من جديد بصوت، والحب أن يوجد بلا جسد.

إن "الناي" هنا هو "الميتاسرد" الذي يعيد بناء النص من الداخل، ويمنحه نغمته الخاصة وسط صخب الأيديولوجيا والصراع، ليغدو صوت الرواية الحقيقي، ذاك الذي يهمس من خلف الكلمات.

font change