ترمب وماسك... الأيديولوجيا التي جمعت الرئيس والثري وفرقتهما

خلاف في لحظة حاسمة تفصل بين النجاح والفشل

ترمب وماسك... الأيديولوجيا التي جمعت الرئيس والثري وفرقتهما

كان مشهدا دراميا آخرَ من تلك المشاهد الكثيرة التي لم تنقطع منذ عودة دونالد ترمب للبيت الأبيض في يناير/كانون الثاني هذا العام: كلمات حادة لا مكان للدبلوماسية فيها، اتهامات مباشرة بسوء الطرف الآخر، وادعاءات متضاربة تحتاج الكثير من التدقيق. لكن المشهد هذه المرة كان مختلفا في النوع والمقدار، مضاعفا في كليهما، ومفاجئا في حدوثه وتصاعده، عندما انفجر نزاع علني نادر بين الرئيس ورجل الأعمال، إيلون ماسك الذي بدأ هذا النزاع وما يزال يواصل تصعيده، مع محاولات ترمب عدم المضي بعيدا في هذا التصعيد. بخلاف السائد، أسباب النزاع، في معظمها، تتعلق بالأيديولوجيا والسياسة، أكثر منها بتناقض الأمزجة والاندفاع الحسي لشخصيتين عُرفتا بعنادهما وعلنيتهما وانفعالاتهما وعدم ترددهما في خوض المعارك الكلامية بأقسى ما تسمح به الترسانة الخطابية المتيسرة لهما.

بدأ النزاع عندما انتقد ماسك مشروع قانون التخفيضات الضريبية الأهم في رئاسة ترمب الحالية، أي "مشروع القانون الجميل الكبير"، بالقول نهاية الشهر الفائت، وهو ما يزال موظفا حكوميا، في لقاء تلفزيوني له مع محطة "سي بي إس": "كنتُ محبطا من رؤية مشروع القانون ذي الإنفاق الهائل الذي يزيد العجز الحكومي ولا يقلله ويقوّض العمل الذي كان يقوم به قسم الكفاءة الحكومية"، الذي كان يرأسه. وختم ماسك تعليقه التلفزيوني بجملة ساخرة بأنه لا "يمكن الجمع بين (كبير) و(جميل) في مشروع قانون". في هذه الإشارة، ثمة غمز نحو تخلي ترمب عن قيمة عميقة بين الجمهوريين، يتبناها هو أيضا: لا بد أن تكون الحكومة صغيرة وتتجنب الإنفاق الكبير.

عندما سئل ترمب عن تصريح ماسك في اليوم التالي، التاسع والعشرين من مايو/أيار، تجنب الإجابة متحاشيا ذكر اسم ماسك، مكتفيا بالإطراء على مشروع القانون، ومؤكدا أنه "ليس سعيدا ببعض الجوانب في مشروع القانون"، لكنه "متحمس جدا لجوانب أخرى فيها مثل التخفيضات الضريبية". لكن ماسك واصل على مدى أيام هجومه، الذي ازداد شراسة، على مشروع القانون على نحو يبدو أنه بدأ يُغضب ترمب القليلَ الصبر عادة إزاء النقد. فبعد ثلاثة أيام من مغادرته منصبه الحكومي كرئيس لقسم الكفاءة الحكومية، كتب ماسك تغريدة على منصة "إكس" مُصعدا هجومه ضد القانون المقترح "آسف، لا أستطيع أن أحتمل هذا أكثر"، واصفا مشروع القانون بأنه "شناعة مثيرة للقرف. عار على الذين صوتوا دعما لمشروع القانون هذا: ما قمتم به خاطئ. تعرفون هذا!"

جاء تعليق ترمب الذي ذكر فيه ماسك سلبا للمرة الأولى بعد يومين، في أثناء استضافته للمستشار الألماني فريدريش ميرس عندما قال ترمب إنه كانت تربطه بماسك علاقة عظيمة، لكن "لا أعتقد أن الأمر سيستمر هكذا"، مضيفا أن ماسك كان يعرف تفاصيل مشروع القانون بدقة وأنه، أي الرئيس، محبط جدا منه. ادعاء ترمب هذا نفاه ماسك بسرعة عبر تغريدة له: "غير صحيح. لم يُعرض علي مشروع القانون أبدا". تصاعد بعدها الصدام الكلامي بين الرجلين إذ اتهم ماسك ترمب بالنكوص عن وعوده وأفكاره السابقة متسائلا في نهاية تغريدة له: "هل أستُبدل (ترمب) بشخص شبيه به؟". من جانبه، اتهم ترمب ماسك بأنه "فقد عقله"!

تبلغ التخفيضات الضريبية في النسخة الحالية للمشروع التي ينظر فيها مجلس الشيوخ، نحو 3.7 تريليون دولار، وتكمن المشكلة في أن توفير هذا المبلغ الهائل سيؤدي إلى عجز كبير في الميزانية الاتحادية

في خضم تراشق حليفي الأمس، الرئيس ورجل الأعمال، ضاع الخلاف الحقيقي بين الاثنين في تفاصيل الدراما المثيرة والمفتوحة على المزيد من الاتهامات المتبادلة. جذر الاختلاف الذي سَعّرَ غضب ترمب هو أن ماسك كان يستهدف أهم ما في رئاستي ترمب السابقة والحالية ويقوّض التركة التي يريدها الأخير أن تصبح تعريفية به كرئيس، على مدى عقود مقبلة، بعد أن يغادر منصبه. باختصار، يمكن لهجوم ماسك المُركز، واحتمالات نجاحه فيه، أن ينهي الإنجاز الرئيس، الكبير والعابر للزمن، الذي يسعى له ترمب، في لحظة حاسمة، اختارها ماسك بذكاء، تفصل بين النجاح والفشل.

يقوم مشروع القانون هذا على تحويل القانون المؤقت (قانون الأعمال والتخفيض الضريبي المعروف اختصارا بـ"TCJA")- الذي مرره الكونغرس في رئاسة ترمب الأولى ويعتبر إنجازه الأكبر في تلك الرئاسة- إلى قانون دائم. تضمن قانون 2017 هذا تخفيضات ضريبية كبيرة لشرائح سكانية واسعة، من ذوي الدخول العالية (الذين حصلوا على تخفيض ضريبي بنسبة 37 في المئة) إلى ذوي الدخول الأدنى (نسبة تخفيضهم الضريبي 10 في المئة). وتنتهي كثير من البنود المهمة في هذا القانون، خصوصا التخفيضات الضريبية، بنهاية هذا العام. وعبر مشروع القانون الحالي، يسعى ترمب لجعل هذه البنود دائمة، ما يعني تغييرات كبيرة في النظام الضريبي الأميركي يدفع بموجبها أميركيون كثيرون، من مختلف الطبقات، ضرائب أقل. وصوت مجلس النواب ذو الأغلبية الجمهورية القليلة على مشروع القانون بالموافقة عليه، بفارق صوت واحد فقط، وينتظر الآن تصويت مجلس الشيوخ عليه، كي يصبح قانونا نافذا.

رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترمب وابنته إيفانكا يحضران بطولة القتال النهائي (UFC) 316 في مركز برودينشال في نيوارك، نيو جيرسي، الولايات المتحدة، 7 يونيو 2025

يحقق مشروع القانون أحد أهم أهداف الجمهوريين بفرض ضرائب أقل على الأميركيين، أي وضع المزيد من الأموال في جيوبهم. فحسب مكتب الميزانية التابع للكونغرس تبلغ التخفيضات الضريبية في النسخة الحالية للمشروع التي ينظر فيها مجلس الشيوخ، نحو 3.7 تريليون دولار، لكن تكمن المشكلة في أن توفير هذا المبلغ الهائل سيؤدي إلى عجز كبير في الميزانية الاتحادية، وهو العجز الذي ستتم تغطيته من خليط من الاقتراض، ما يزيد من الدين العام البالغ حاليا نحو 36.2 تريليون دولار، وتخفيض الإنفاق على برامج مهمة. يثير هذا الخليط (الاقتراض وتقليل الإنفاق) قلق عدد من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين ويؤدي إلى معارضتهم نسخة القانون التي وردتهم من مجلس النواب. ولا يمتلك الجمهوريون أغلبية مريحة في مجلس الشيوخ، إذ إن عددهم فيه هو 53، ويحتاجون لتصويت 50 عضوا، لكن في ظل المعارضة الحالية بينهم سيكون من المستحيل  تمرير القانون بنسخته الحالية.

تتجه الأمور داخل مجلس الشيوخ إلى إدخال تعديلات على نسخة مجلس النواب لهذا القانون، والذهاب إلى ما يُعرف بآلية "التسوية"

وتنقسم معارضة النواب الجمهوريين القلقين هؤلاء بين دعاة الانضباط المالي التقليديين الذين يعارضون زيادة الدين العام ويطالبون بتخفيض مستدام في الإنفاق الحكومي لمعالجة العجز الدائم الذي تتطلب تغطيته المزيد من الاقتراض (يتبنى ماسك هذا التوجه وهذا هو السبب الرئيس لمعارضته مشروع القانون)، وآخرين يخشون تقليل الإنفاق على برامج مهمة لجمهورهم. ويقترح القانون مثلا تخفيضات بمقدار 351 مليار دولار لبرنامج مساعدة الطلبة، وبمقدار 50 مليارا في برنامج تقاعد الموظفين الاتحاديين، فضلا عن 600 مليار دولار من برنامج الرعاية الصحية الذي سيحرم نحو 11 مليون أميركي من التغطية الطبية التي يحصلون عليها الآن، على مدى العشر سنوات المقبلة. ثم هناك إلغاء الحوافز لتبني "التكنولوجيا الخضراء"، ما سيتسبب في إلغاء الدعم الذي تقدمه الحكومة، منذ عهد الإدارة السابقة، لشراء السيارات الكهربائية (يتحمس ماسك كثيرا للتكنولوجيا الخضراء خصوصا أن شركته "تسلا" تصنع الكثير من هذه السيارات). على نحو معقول ومتوقع، يخشى كثير من المشرعين الجمهوريين أن يفقدهم هذا القانون المقترح تأييدا شعبيا مهماً في دوائرهم الانتخابية سيظهر أثره في الانتخابات النصفية للكونغرس في نوفمبر/تشرين الثاني 2026.

.أ.ف.ب
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث مع الرئيس التنفيذي لشركة تيسلا إيلون ماسك، في البيت الأبيض 11 مارس 2025

وتتجه الأمور داخل مجلس الشيوخ إلى إدخال تعديلات على نسخة مجلس النواب لهذا القانون، والذهاب إلى ما يُعرف بآلية "التسوية" (Reconciliation Bill)، أي صياغة قانون، على نحو سريع نسبيا، توفق بين نسختي مجلس النواب ومجلس الشيوخ تسمح بتمرير نسخة موحدة وتجاوز المعارضة لها. يجري الآن الكثير من التفاوض للوصول إلى مثل هذه النسخة. ومن هنا تأتي أهمية اعتراض ماسك وتأثيره المحتمل لإفشال القانون الذي يطمح ترمب لجعله منجزه الأهم في البيت الأبيض.

تقوي اعتراضات ماسك على مشروع القانون، خصوصاً دعوته "لقتله" في المهد كما جاء في إحدى تغريداته، جبهةَ المعترضين وتزيد الضغط الشعبي في الدوائر الجمهورية الساخطة من بعض بنوده. لا يتمتع ماسك، كشخصية عامة، بالكثير من الود الشعبي الأميركي، خصوصا بعد تجربته الإشكالية في قيادة "قسم الكفاءة الحكومية" الذي تسبب بفصل الكثير من الموظفين الفيدراليين وإثارة الفوضى في مؤسسات وعقود حكومية كثيرة.

ففي آخر استطلاع للرأي بخصوصه ظهر أن نحو 65 في المئة من الأميركيين لا يشعرون بالرضا نحوه. قد يستطيع ترمب الاستفادة من الرفض الشعبي لماسك للتقليل من قيمة اعتراضاته على القانون المقترح، لكن قوة ماسك تكمن في موضع آخر جربه ترمب واستفاد منه كثيرا كي يصبح رئيسَ أميركا للمرة الثانية: قابلياته اللافتة في التمويل والترويج.

عبر هذه القابليات ساعد ماسك ترمب على الفوز بالبيت الأبيض (تبرع بنحو 290 مليون دولار لحملته الانتخابية واستخدم منصة "إكس" التي يمتلكها للترويج له). تجري الآن حملات دعائية مع وضد مشروع القانون على المستوى المحلي في الولايات الأكثر تأثراً به إيجاباً أو سلباً، ويتوقع لها أن تزداد في الفترة المقبلة قبل حسم "التسوية".

هناك يمكن أن يظهر تأثير ماسك في مناهضة القانون المقترح، خصوصاً وأن بعض الديمقراطيين يفكرون في الاستفادة من تصدع العلاقة بين الرجلين لكسب ماسك إلى جانبهم في هذه المعركة التشريعية.

هذا ما ينبغي ان يقلق ترمب: الصديق السابق الثري الذي ساعده على الفوز بالرئاسة يمكن له الآن أن يُفشل معنى هذه الرئاسة.

font change