لطالما جرى تصوير "الحق" و"القوة" كمفهومين متضادين: الحق كرمز للعدالة والشرعية، والقوة كرمز للعنف والغلبة. لكن هذه الثنائية قد تخدعنا إذا اعتبرناها نهائية أو طبيعية. فما إن نمعن النظر، حتى تتكشف لنا حركة أعمق، حيث ينزلق كل طرف من طرفيها نحو الآخر، ويتغذى منه، ويعيد تشكيله.
فماذا لو حاولنا تفكيك هذا الثنائي، أي أن نثبت أن كل طرف من طرفيه هو الآخر ذاته في اختلافه وتباينه. يتعلق الأمر إذن بإعادة النظر في مفهوم "الحق" كمعطى أخلاقي معزول عن القوة، ذلك المفهوم الذي يجعل الحق "موجودا في ذاته"، فوق التاريخ، وفوق المصالح، وفوق الصراعات. ولعل نظرة أكثر تاريخية وتفكيكية ستكشف لنا أن الحق والقوة ليسا ضدين، وأنهما يتنازعان موقعا واحدا: موقع من يحق له أن يفرض المعنى؟ أو بعبارة أخرى، كل حق هو دائما قوة معلنة، وكل قوة تسعى لأن تكتسب شرعيتها كحق.
لننظر، على سبيل المثل، إلى العبارة المتداولة: "سلاح الكلمة"، فإننا نجد فيها تداخلا لافتا: الكلمة التي هي رمز الفكر والحق والمنطق تُصاغ هنا كسلاح، أي كرمز للقتال والقوة والهيمنة. فهل يعني ذلك أن الكلمة تفقد "طهارتها الأخلاقية"؟ أم أن القوة ليست حكرا على العنف المادي، بل لها تجليات رمزية، لغوية، قانونية؟
تبرير القوة
كل كلمة تحمل في طياتها إرادة تأثير، إرادة سيطرة، إرادة إقناع، أي "إرادة قوة". في هذا المعنى كان الماركسيون يتحدثون عن "سلاح النقد ونقد السلاح". إذا كانت الكلمة نفسها تنطوي على إرادة تأثير، فإنها لا تُستعمل كحق بريء، بل كأداة صراع. الكلمة قوة، لا لأن فيها عنفا، بل لأنها تمتلك قدرة على التوجيه، والإقناع، والسيطرة الرمزية. على هذا النحو، يمكن القول إن الحق نفسه يُمارَس كقوة، حتى إن لم يكن ماديا. إنها قوة الخطاب، قوة القانون، قوة التبرير، قوة الهيمنة الرمزية. لكن في المقابل، لا توجد قوة عارية. فكل قوة وسلطة، كي تُمارَس بفعالية، تحتاج إلى تبرير، إلى شكل من أشكال "الحق"، أو، كما يقال عادة، إلى مشروعية. فحتى الأنظمة الاستبدادية لا تقول: "نحكم لأننا نملك السلاح"، بل تقول: "نحكم لأننا نحمي الأمن، أو نحافظ على الاستقرار، أو نمثل إرادة الأمة". القوة تسعى دوما لأن تغلف نفسها بشرعية، والشرعية ليست سوى إعادة تقديم القوة في هيئة حق.