في أزمنة الانهيار، لا ينقذ الأوطان إلا قادة استثنائيون يمتلكون شرعية الشارع ورؤية الدولة. العراق اليوم يقف على مفترق خطير، تتداخل فيه التدخلات الخارجية مع الميليشيات المسلحة، ويُختطف فيه القرار السيادي من قبل منظومة سياسية فقدت صلاحيتها. وفي قلب هذا المشهد، يظهر اسم واحد قادر على المواجهة والتغيير: مقتدى الصدر. ففي تاريخ الشعوب تمرّ لحظات مفصلية تحتاج فيها إلى قادة من نوع مختلف، قادة لا يكتفون بالتعبير عن آلام الناس، بل يترفعون فوق الحسابات الضيقة، ويعيدون صياغة المشروع الوطني من جذوره. العراق اليوم يقف على عتبة كهذه، ومقتدى الصدر، بما يمتلكه من رمزية دينية وسياسية وشعبية، قد يكون الأجدر لأن يتحوّل إلى رجل الدولة الذي ينتظره العراقيون منذ سنوات.
الزعيم القادر على المواجهة
منذ سقوط النظام السابق عام 2003، شكّل مقتدى الصدر حالة سياسية فريدة. فهو ابن المرجعية الدينية المعارضة، ووريث إرث مقاومة الاستبداد، لكنه في الوقت نفسه ابن الشارع، ومعبّر عن تطلعات جيل غاضب من الفساد والاحتلال والطائفية. الصدر جمع بين النَفَس الثوري والخطاب الوطني، وبين قاعدة شعبية هائلة وقدرة سياسية متذبذبة. إلا أن ما يميّزه عن بقية الفاعلين السياسيين هو استقلاله النسبي عن القرار الإيراني، ورفضه العلني للطائفية، وتمسكه المستمر بمبدأ "الدولة فوق الجميع" غير أن مقتدى الصدر ظلّ حبيس هذه الثنائية: بين كونه زعيما شعبيا، وتحوّله إلى رجل دولة متكامل، يُخضع الجماهير لمشروع مؤسساتي جامع، لا العكس.
في الوقت الذي ترسخت فيه سلطة ميليشياوية عابرة للدولة، يقف الصدر كأقوى خصم لها. ليس فقط بسبب شعبيته أو تاريخه، بل لأنه يمتلك الجرأة على تسمية الأشياء بأسمائها، ورفض تحالفات تقوم على تقاسم النفوذ.
الصدر هو الوحيد الذي واجه نوري المالكي، رئيس الوزراء الأسبق الذي مثّل أحد أوجه ترسيخ السلطة الطائفية وتغوّل الدولة العميقة. كما أنه الزعيم العراقي الوحيد الذي يمكنه الوقوف في وجه الأحزاب المدعومة خارجيا والميليشيات التي اختطفت القرار الوطني وأفرغت الدولة من مضمونها.
هذه المكانة الاستثنائية التي يتمتع بها الصدر لا تعود فقط إلى رمزيته السياسية أو خطابه الوطني، بل إلى ما يمكن تسميته بـ"العقد الاجتماعي" بينه وبين قاعدته الشعبية. هذا المفهوم الذي صاغه الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو، يشير إلى العلاقة التي تقوم بين الحاكم والمحكوم على أساس من الالتزام المتبادل: الشعب يمنح الثقة والشرعية، مقابل أن يلتزم القائد بتحقيق الصالح العام والدفاع عن إرادة الشعب.
في الحالة الصدرية، يتجلى هذا العقد الاجتماعي بوضوح، فالصدر ليس مجرد زعيم سياسي، بل يمثل امتدادا لإرث ديني وتاريخي لعائلة قدمت تضحيات جسيمة، من محمد باقر الصدر إلى محمد صادق الصدر. هذا الإرث خلق رابطة وجدانية وعقائدية بين "الصدريين" وآل الصدر، تتجاوز الولاء السياسي إلى نوع من التفويض الشعبي الأخلاقي. إنها علاقة فريدة في المشهد السياسي العراقي، قوامها الثقة العميقة والاستعداد المتبادل للتضحية، وهي ما تمنح الصدر القوة والشرعية التي يندر أن يمتلكها غيره.