العراق... الطائفية "حصان طروادة" في الانتخابات المقبلة

كل القوى شريكة في هشاشة النظام السياسي وغياب فاعلية مؤسساته

أ.ف.ب
أ.ف.ب
لوحات إعلانية انتخابية في بغداد، العراق في 7 ديسمبر 2023

العراق... الطائفية "حصان طروادة" في الانتخابات المقبلة

كلما اقترب موعد إجراء الانتخابات في العراق (من المقرر إجراؤها في 11 نوفمبر/تشرين الثاني) ندخل في دوامة من السجالات تروجها لنا الطبقة السياسية وتبدأ حاشيتها بالتطبيل لها في وسائل التواصل الاجتماعي وعبر الفضاء الإعلامي. وهذه المرة يبدو أن بعض العناوين السياسية اختارت العودة إلى الطائفية. ورغم أنها لم تغادرها أبدا، فإنها تعمل على إصدار نسخ جديدة ومحدثة في خطاباتها السياسية التي تستحضر حق المكون الشيعي الأكبر، أو تهميش المكون السني.

بعد سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، أخذت حمى الطائفية بالتصاعد. وبدأت الترويج لانعكاس التغيير في سوريا على الأوضاع في العراق. وكانت خطابات التخويف تقوم على مقارنة مغلوطة ولكنها تتغذى على توظيف الخوف من خسارة "المكاسب السياسية" للمكون الطائفي الأكبر.

المغالطة هنا، لا تريد الاعتراف بأن سوريا كانت محكومة في عهد بشار الأسد بالحديد والنار من قبل نظام ديكتاتوري كان يحاول تحصين نفسه من خلال حاشية وأتباع يرتبطون معه بدوائر النفوذ والسلطة قبل الانتماء الطائفي. وهذا ما كان يحصل في العراق في عهد النظام السابق. ولكن، من كان يحمل السلاح للدفاع عن نظام حكم بشار الأسد لا يريد الاعتراف بهذا الواقع، ويريد الإصرار على أن تدخله في سوريا كان ضمن رفع شعار دفع الخطر عن "مكتسبات الطائفة وحماية مراقدها". ومن ثم، فإن العودة إلى دعاية المخاوف الطائفية هو للتغطية على فشل دعاية ومبررات تدخّل جماعات السلاح العراقية في دعم حكم بشار الأسد.

في المقابل، هناك خطابات لشخصيات سياسية سنية، بدأت تقدم دعاية ترويجية مجانية لأصحاب الخطاب الطائفي المتخوف من انعكاس التغيير في سوريا على العراق. وتروج لضرورة إعادة التوازن السياسي في التمثيل الطائفي، حتى لا يتم تكرار السيناريو السوري في العراق!

والمغالطة هنا، أن مشاركة القوى السياسية السنية في تجربة الحكم بعد 2003 واضحة وصريحة. فكل القوى شريكة في هشاشة النظام السياسي وغياب فاعلية مؤسساته، وتقاسم اقتصاد الدولة الريعي بينها. ولكن الفارق الوحيد أن بعض القوى السياسية الشيعية تفرض نفوذها السياسي بثلاثية السلاح والسياسة والفساد، وبعض القوى السياسية السنية بقيت على ثنائية السياسة والفساد.

هناك تخادم طائفي بين من يروج خطابات طائفية تحمل رايات ضرورة الحفاظ على المكاسب السياسية التي تحققت للمكون الطائفي الأكبر بعد تغيير النظام في 2003، ومن يريد التأكيد على غياب العدالة

تخادم طائفي

هناك تخادم طائفي بين من يروج خطابات طائفية تحمل رايات ضرورة الحفاظ على المكاسب السياسية التي تحققت للمكون الطائفي الأكبر بعد تغيير النظام في 2003، ومن يريد التأكيد على غياب العدالة الاجتماعية وتهميش أو إقصاء المكون السني عن القرار السياسي والقيام بممارسات أمنية قمعية ضده. وصاحبا هذين الخطابين يقدم كلاهما خدمة للآخر. ربما لا يكون هناك اتفاق على إعداد وتقديم مثل هكذا خطاب، ولكن بالنتيجة النهائية فإن أي خطاب طائفي يتم ترويجه ستقابله ردود. وعندما ندخل في دوامة هذه السجالات والردود تكون غاية الطائفيين السياسيين قد تحققت.

يقول المؤرخ وعالـمُ الاجتماع الفرنسي "غوستاف لوبون" في كتابه "روح الاجتماع": إن بث أفكار في عقول ونفوس الجماعات يجري بثلاث طرق رئيسة:

- التأكيد، متى ما كان تفكير الجماعات بسيطا وخاليا من التعقل والأدلة، فإن أهم عوامل التأثير فيه هو التأكيد على فكرة معينة، وكلما كان التأكيد على الفكرة موجزا ومجردا عن كل ما له مسحة الحجة والتقرير كان عظيم التأثير، فالتأكيد له قيمة يعرفها أهل السياسة الذين يريدون الدفاع عن عمل سياسي.

- التكرار، له تأثير كبير في عقول المستنيرين، وتأثيره الأكبر يكون في عقول الجماعات من باب أولى، والسبب في ذلك كون المكرر ينطبع في تجاويف الملكات اللاشعورية التي تختمر فيها أسباب أفعال الإنسان. فإذا انقضى شطرٌ من الزمن نسي الواحد من صاحب التكرار وانتهى بتصديق المكرر.

رويترز
تظاهرة ضد دعوة الرئيس السوري أحمد الشرع لحضور قمة جامعة الدول العربية في بغداد، في البصرة، العراق، 12 مايو

- العدوى، يبلغ تأثير العدوى إلى حد أنه يتعدى توحيد الأفكار إلى توحيد كيفية التأثير في الحوادث. والعدوى هي الأصل في انتشار أفكار الجماعات ومعتقداتها لا الحجج والبراهين. إذ للأفكار والمشاعر والتأثيرات والمعتقدات عدوى في الجماعات تماثل في قوتها عدوى الميكروبات.

عندما يتم تكرار خطاب التآمر على تجربة الشيعة في حكم العراق بعد 2003، فهو نوع من الترويج لأوهام نظرية المؤامرة للتغطية على الفشل في تقديم منجز لأبناء المناطق الشيعية

إذا كانت هذه الطرق الثلاث تتم حسب غوستاف لوبون بطرق تقليدية وتحتاج إلى كثير من الزمن لترسيخها في أذهان المجتمعات، فإنها أصبحت سهلة جدا في عالم تسيطر عليه منصات إعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي القادرة على تسويق الشعارات والمشاريع الطائفية باعتبارها حقائق، وتحشيد الجمهور حولها. وفي الأزمنة السابقة كانت صناعة الأوهام وتضليل الشعوب مهمة تحتكرها الدولة ومؤسساتها الإعلامية، لكنها أصبحت في ظل هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي متاحة لكل من يحاول الترويج لنفسه باعتباره حامل لواء الدفاع عن حق المكون الطائفي، والدفاع عن مظلوميته أو الحفاظ على مكتسباته.

ترويج المخاوف الطائفية والتصدي بعنوان الدفاع عنها، من أهم وسائل السياسيين الذي يفشلون في تقديم منجز لمجتمعاتهم، ولذلك هم يحشدون كل قدراتهم وإمكانياتهم في الترويج لنظريات المؤامرة، ومشاريع وخطط تستهدفهم، وأنهم يعرفون الجهات والدول التي تتآمر عليهم! لذلك تجد كثيرا من الزعامات السياسية يساهمون في الترويج للمؤامرات التي تستهدفهم أو تستهدف جمهورهم كوسيلة للهروب من الاعتراف بالفشل السياسي الذي أنتج نظاما وإدارة دولة غير قادرة على تجاوز المشكلة الطائفية.

وعندما يتواطأ الكثير من دعاة النخبوية والثقافة مع السياسيين في تنميط وعي الجمهور بدوائر التجاذبات الطائفية التي يعملون على صناعتها وترويجها، عندها تكون مهمة الشعبويين تسويق التفاهة والترويج للخطابات الطائفية من خلال منصات التواصل الاجتماعي، وبالتأكيد ستكون النتيجة النهائية صناعة "الأميين الجدد". ومن ثم تكون محاولة الوقوف أمام تلك الأوهام، مهمة شاقة وصعبة ومعركة طويلة، لا سيما في مجتمع تهيمن عليه ثقافة الثنائيات المتعارضة، إما معنا وإما ضدنا.

أ.ف.ب
الرئيس أحمد الشرع يلقي خطابا أمام اعضاء الحكومة الجديدة في القصر الرئاسي في دمشق، 29 مارس

تعتقد قوى السلطة أنها لا يمكن أن تفرض نفوذها على الجمهور إلا من خلال الإبقاء على أوهام تكتسب من خلالها شرعية وجودها السياسي. فالإبقاء على المجتمع منقسما هو الفرصة الوحيدة لضمان تجديد بقائها في السلطة. فالقوى السياسية الآن لا تريد أن تقدم نفسها بعناوينها الحزبية، وإنما تريد الإبقاء على عناوين تجمع المكونات، (بيت سني) و(بيت شيعي) و(بيت كردي). وذلك مع الترويج لفكرة أن أي تفكك أو انقسام سياسي في هذه (البيوتات) هو تهديد للعملية السياسية وحتى للسلم الأهلي! ومن ثم، أنتجت لنا تلك التقسيمات "زعامات" تقدم نفسها بوصفها حامية للمذهب والطائفة.

يتبادل الأدوار في الترويج للطائفية كل من السياسي و"النخبوي" التابع له. وعندما يتم تكرار خطاب التآمر على تجربة الشيعة في حكم العراق بعد 2003، فهو نوع من الترويج لأوهام نظرية المؤامرة للتغطية على الفشل في تقديم منجز لأبناء المناطق الشيعية. ومن يعمل على ترويج فكرة "سلب الحكم من يد السنة وإعطائه للشيعة"، يريد أيضا أن يبقى في أوهام الماضي التي ترفض التعاطي مع الواقع السياسي باعتباره تمثيلا لمجتمع متنوع لا يمكن أن تخضع أغلبيتُه إلى حكم أقلية تستولي على السلطة بانقلاب عسكري، وتفرض حكمها على بقية الطوائف والقوميات. وهنا يريد السياسي أن يبقى جمهورُه موهوما بالحنين إلى عودة الماضي، وهو يتمتع بملذات السلطة التي قبل أن يتشاركها مع القوى السياسية الأخرى.

خطاب التباكي على المظلومية المكوناتية، لا يزال حاضرا لدى الكثير من السياسيين الشيعة، لدرجة أنه بات ينسيهم أنهم هم اليوم من بيدهم مقاليد الحكم والسلطة

عدوى المظلومية

الكثير من الفاعلين السياسيين لا يمكنهم العيش في الفضاء السياسي إلا بوجود الأعداء، سواء كانوا موجودين فعليا أو يحاولون صناعتهم. إذ تسيطر على مخيلتهم "نظرية المؤامرة". وفي مواسم الانتخابات يكون ذلك العدو شريكا في تحالف تقاسم السلطة، ولكن صلاحية تلك الشراكة تنتهي عند بدء الدعاية الانتخابية. وغالبا ما تربط المؤامرة ضد تجربة الحكم بأجندة خارجية ومحاور إقليمية تريد الالتفاف أو سلب المكون الأكبر أحقيته في الحكم.

وهناك تبادل للأدوار في خطابات سياسيي الطائفة بشأن تحديد العدو، فتصدح حناجر بعض الشخصيات السياسية والإعلامية بالدفاع عن حق المكون الشيعي الأكبر. وهنا نجد مغالطة في فهم حق الأغلبية، بدلا من أن تكون هي الراعية والمدافعة عن تجربة الحكم وتحاول احتواء المكونات الأخرى، نجدهم يطالبون بالانفصال وتشكيل "دولة" أو "إقليم شيعي"! وهنا نجد الصورة معكوسة، حيث يكون من المفهوم أن تكون الأقليات هي من تريد الانفصال أو تشكيل إقليم لضمان حقوقها السياسية والحفاظ على ثرواتها الاقتصادية. فكيف تكون الأغلبية هي من تفرض نفوذها وسيطرتها على الحكم وموارد البلاد، وتريد الانفصال بدولة أو تشكيل إقليم؟!

أ.ف.ب
لوحات إعلانية انتخابية في بغداد، العراق في 7 ديسمبر 2023

لقد بات هناك تبادل أدوار في خطاب التباكي على المظلومية المكوناتية، فعلى الرغم من أن هذا الخطاب لا يزال حاضرا لدى الكثير من السياسيين الشيعة، لدرجة أنه بات ينسيهم أنهم هم اليوم من بيدهم مقاليد الحكم والسلطة، فقد أصبح عدوى تنتقل إلى الكثير من السياسيين السنة، الذين لم يعد لديهم حديث في اللقاءات التلفزيونية وعبر منصات التواصل الاجتماعي إلا التباكي على مظلوميتهم من نظام الحكم الحالي.

والمفارقة أن خطاب التباكي هذا ينطبق على "مظلومية المكون السني" بسبب استئثار وهيمنة القوى السياسية الشيعية على القرار السياسي، رغم أن القوى السنية "المتباكية" هي شريكة للقيادات السياسية الشيعية منذ 2003! وهي لحد الآن تتقاسم مغانم السلطة بطريقة مباشرة من خلال مشاركتها في الحكومة، أو تتقاسم الصفقات والمشاريع الاقتصادية مع الطبقة السياسية الشيعية الحاكمة! لكن الدعاية السياسية القائمة على أساس الدفاع عن "مظلومية المكون السني" هي أسهل أدوات تحشيد الجمهور الطائفي في مواسم الانتخابات.

font change