قمم بغداد... من كامب ديفيد إلى تراجع النفوذ الإيراني

رابع قمة عربية يستضيفها العراق والثانية بعد سقوط نظام صدام حسين

رويترز
رويترز
الرئيس العراقي عبد اللطيف رشيد ورئيس الوزراء محمد شياع السوداني في صورة جماعية مع القادة العرب خلال القمة العربية الرابعة والثلاثين في بغداد، العراق، 17 مايو

قمم بغداد... من كامب ديفيد إلى تراجع النفوذ الإيراني

لم تستضف بغداد قمة عربية واحدة إلا وكانت المنطقة في لحظة اشتعال، فقد اجتمع قادة العرب فيها لمواجهة اتفاقية كامب ديفيد عام 1978، ثم لرفض قرار الكونغرس الأميركي بجعل القدس عاصمة لإسرائيل عام 1990، وعادوا بعد انسحاب الاحتلال الأميركي ليناقشوا ما خلفه الربيع العربي عام 2012، والسبت الماضي، في 17 مايو/أيار، استضاف العراق قمة 2025 وسط بيئة جيوسياسية تعصف بها الحروب بالوكالة وانعدام اليقين الاقتصادي.

قمة 1978

ظهر العراق، لاعبا قويا في السياسة العربية، خلال عام 1978، إذ دعا الرئيس أحمد حسن البكر، إلى قمة طارئة لمواجهة اتفاقية كامب ديفيد التي وقعتها مصر مع إسرائيل، نتيجة شعور العرب بتفكيك جبهتهم وتحييدهم عسكريا. وحضر القمة رؤساء عدد من الدول العربية، وخرجت بقرارات منها أن فلسطين قضية عربية مصيرية وجوهر الصراع مع إسرائيل، بما يحمل جميع العرب مسؤولية النضال كلا من موقعه وبما يملك من قدرات عسكرية وسياسية واقتصادية.

ودعمت القمة "منظمة التحرير" باعتبارها ممثلا شرعيا وحيدا عن الشعب الفلسطيني، وعدم جواز انفراد أي طرف عربي بأي حل، مشترطة أن يصدر أي اتفاق سلام عن قمة عربية مخصصة لهذا الغرض. وبناء عليه، رفضت القمة اتفاقية كامب ديفيد، معلنة الامتناع عن التعامل مع ما يترتب عليها من آثار سياسية أو اقتصادية أو قانونية، وداعية مصر إلى التراجع عنهما والعودة إلى صف العمل العربي المشترك.

بعد توقيع مصر لاتفاقية كامب ديفيد، عقد اجتماع طارئ للقادة العرب، في بغداد عام 1979، تضمن المطالبة بإلغاء عضوية مصر في الجامعة العربية، ونقل مقرها إلى تونس بدلا من القاهرة

وبعد توقيع مصر لاتفاقية كامب ديفيد، عقد اجتماع طارئ للقادة العرب، في بغداد عام 1979، تضمن المطالبة بإلغاء عضوية مصر في الجامعة العربية، ونقل مقرها إلى تونس بدلا من القاهرة، وهو ما صوّت عليه في القمة التي تلتها بالجزائر.

قمة 1990

عُقدت القمة العربية الثانية في بغداد عام 1990 بطلبٍ من العراق المُنهك بالحرب الطويلة مع إيران، وبحصارٍ دولي أخذ يتبلور عقب إعدام الصحافي الإيراني-البريطاني فرزاد بازوفت بتهمة التجسس لصالح إسرائيل، وهو ما دفع بريطانيا وعددا من الدول إلى قطع علاقاتها الدبلوماسية مع بغداد.

أ ف ب
الرئيس العراقي صدام حسين (يمين) يطلع على المسودة النهائية مع الأمين العام لجامعة الدول العربية، الشاذلي القليبي، قبل إعلان قرار القمة العربية الاستثنائية في ٣٠ مايو ١٩٩٠ في بغداد، العراق

سعى الرئيس صدام حسين إلى حشد دعمٍ عربي يُخفف أعباء ديون تجاوزت 100 مليار دولار، ويعيد ترميم البنية التحتية والصناعية المنهارة. غير أن إثارة التشنج مع دول الخليج باتهام الكويت والإمارات بخفض أسعار النفط عبر زيادة الإنتاج، وباستغلال حقل الرميلة من دون موافقة عراقية أدخلت القمة في أجواء توتر حاد.

تُعد القمة الثالثة أول قمة تعقد بعد الربيع العربي، وأول قمة للنظام العراقي الجديد الذي أنشأته الولايات المتحدة عام 2003 بعد إسقاط صدام حسين واحتلال العراق

تغيبت سوريا ولبنان عن القمة، فدمشق كانت على خلافٍ عميق مع بغداد بعد شجارٍ علني بين صدام حسين وحافظ الأسد في قمة الدار البيضاء 1989، بينما خضع القرار اللبناني آنذاك للتأثير السوري. على جدول الأعمال تصدرت القضية الفلسطينية بوصفها القضية الاستراتيجية للعرب، إذ أكد القادة دعم "جبهة التحرير" ورفض تهويد القدس في ضوء قرار الكونغرس الأميركي اعتبارها عاصمة لإسرائيل. كما رحبوا بوحدة اليمن الشمالي والجنوبي، وأيدوا حق العراق في امتلاك التكنولوجيا المتقدمة، ودعوا إلى تبادل الأسرى مع إيران.

اختُتمت القمة بخطاب شديد اللهجة من صدام حسين هاجم فيه الولايات المتحدة وإسرائيل، محذرا من امتلاك الأخيرة أسلحة دمار شامل وداعيا إلى موقفٍ عربي موحد. لكن مسار الأحداث انقلب سريعا فبعد أقل من شهرين اجتاحت القوات العراقية الكويت، لتندلع حرب الخليج الثانية ويتعمق الانقسام العربي، ففُرض على العراق حصارٌ اقتصادي استمر حتى 2003، أودى بحياة الآلاف نتيجة الجوع ونقص الدواء، وترك البلاد في عزلةٍ دبلوماسية خانقة.

أ ف ب
صورة جماعية لقادة ومسؤولون عرب خلال أول قمة عربية تُعقد في العراق منذ 22 عامًا، في 29 مارس 2012، في القصر الجمهوري السابق ببغداد

قمة 2012

تُعد القمة الثالثة أول قمة تعقد بعد الربيع العربي، وأول قمة للنظام العراقي الجديد الذي أنشأته الولايات المتحدة عام 2003 بعد إسقاط صدام حسين واحتلال العراق، وهي أيضا أول قمة يضعف فيها الحضور، إذ غاب معظم القادة بسبب الخلافات السياسية الحادة داخل العراق، التي بلغت ذروتها بعد إقصاء رئيس الوزراء نوري المالكي معارضيه السنّة واتهامهم بالإرهاب، بالتزامن مع احتجاجات واسعة في بغداد والمحافظات للمطالبة بإسقاط النظام جراء الفساد المستشري. وقد قمعت الحكومة تلك الاحتجاجات فسقط عشرات القتلى والجرحى. وكذلك كان لموقف بعض الدول من تغيير الأنظمة نتيجة احتجاجات الربيع العربي تأثير كبير على مجريات القمة.

جاء انعقاد القمة مع بداية تزايد الهيمنة الإيرانية على القرار العراقي عقب الانسحاب الكامل للقوات الأميركية عام 2011، وابتعاد معظم الدول العربية عن دور مؤثر في النظام السياسي الجديد، وكذلك مع انهيار الأوضاع الأمنية، إذ كانت التفجيرات الإرهابية والاعتداءات على المدنيين تحدث بشكل يومي، فيما كانت الخلافات بين العراق ودول الخليج على أشدها بعد اتهام البحرين لبغداد بالتدخل في شؤونها الداخلية.

ركزت قمة 2025 على دعم القضية الفلسطينية، والدعوة إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، كما جرى التوافق على دعم الحلول السياسية في سوريا واليمن وليبيا والسودان

كما صدر قرارٌ بتعليق عضوية سوريا في جامعة الدول العربية بعد أن قمع بشار الأسد الاحتجاجات الشعبية، مما أدى إلى اندلاع حربٍ أهلية.

كذلك شهدت القمة ذوبانَ جليد الخلافات مع الكويت، إذ مثلها أميرُها الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، في أول زيارة إلى بغداد منذ القطيعة التي أعقبت الغزو.

قمة 2025

استضافت بغداد، القمة الـ34 في أوضاع استثنائية تشهدها المنطقة العربية، خصوصا بعد تراجع النفوذ الإيراني في سوريا ولبنان، وتقييده في العراق، بالإضافة إلى الصراع الإسرائيلي–الإيراني وتأثيره على المنطقة. وقدم العراق رؤية شاملة لإعادة إعمار غزة ولبنان عبر إنشاء صندوق عربي، إذ تبرع بـ40 مليون دولار، وكذلك إعادة دمج سوريا وانفتاحها على العالم، بعد سنوات من العزلة نتيجة سياسات نظام الأسد.

شهدت القمة، ضعفا كبيرا في تمثيل القادة، إذ حضرها 5 رؤساء دول فقط، نتيجة عودة التوتر مع الكويت بسبب إدارة الملاحة في خور عبد الله ورفض العراق للاتفاقية الموقعة بين البلدين، بالإضافة إلى صدور أصوات عراقية، تعترض على مجيء الرئيس السوري أحمد الشرع، واستثمار هذا في الصراع الانتخابي بين القوى السياسية، بالإضافة إلى الخلافات بين الدول العربية التي أدت إلى عدم حضور بعض القادة بسبب وجود آخرين، مما جعل العراق يطالب بلجنة وزارية عليا مهمتها تذويب الخلافات بين الدول العربية.

ركزت القمة على دعم القضية الفلسطينية، والدعوة إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، كما جرى التوافق على دعم الحلول السياسية في سوريا واليمن وليبيا والسودان، بما يضمن وحدة وسيادة هذه الدول. اقتصاديًا، طرح العراق مشروع "طريق التنمية" لتعزيز التكامل الإقليمي، وأطلق مبادرة "العهد الاقتصادي العربي الجديد"، ودعا إلى تأسيس مجلس وزراء التجارة العرب. كما تبنّت القمة توجهات لتعزيز الأمن الغذائي، ودعم الذكاء الاصطناعي والتعليم والصحة والشباب والمرأة، لتكون بغداد منطلقًا لمرحلة تنموية عربية شاملة.

font change