قطع شجرة يوازي إحداث جرح في الذاكرة... "تجارة التصحر" في غزة

أشجار معمّرة يدمرها الاحتلال أو يضطر السكان إلى اقتلاعها بأيديهم

Lina Jaradat
Lina Jaradat

قطع شجرة يوازي إحداث جرح في الذاكرة... "تجارة التصحر" في غزة

في أعقاب أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وفي ظل حرب إسرائيل المتواصلة ليس على سكان قطاع غزة فحسب، وإنما أيضا على مصادر الطاقة ومواردها، بات التصحر يهدد القطاع على نحو متزايد، خاصة في ظل مجاعة تأكل الأخضر واليابس.

مع انقطاع الوقود وشح مصادر الطاقة، لجأ سكان قطاع غزة إلى الخشب لتغطية احتياجاتهم كبديل لوقود الطهي والتدفئة. في بداية الحرب، استخدم المواطنون الأشجار المقطوعة التي خلفتها عمليات التجريف المستمر التي نفذها جيش الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الزراعية، مدمّرا مساحات واسعة منها، فسعى المواطنون إلى الافادة من هذه الأشجار المقطوعة رغم المجازفة الكبيرة التي ينطوي عليها الوصول إلى هذه المساحات في ظل استهداف الناس بالرصاص والمسيّرات والمقاتلات الحربية.

لكن لاحقا ومع استمرار هذا الاستنزاف ونفاد جميع الموارد، صار المواطنون يلجأون إلى قطع أشجارهم بأنفسهم بعد أن قضوا سنوات طويلة في رعايتها، محاولين بذلك تجاوز أزمتهم الراهنة وسد احتياجهم من الوقود الذي إن توفر فإنه يكون بأسعار باهظة جدا.

مناطق محظورة

أصبح التحطيب والعمل بقطع الأخشاب تجارة رائجة ومعقدة في حيثياتها بما تنطوي عليه من استثمار ومخاطرة بالتعرض للقتل. وفقا لتقرير أعده أحمد عدنان، أحد أعضاء مجموعة "أثر الفراشة" - وهي مجموعة غير مسجلة من الفنانين والمعماريين الفلسطينيين بدأوا بالعمل بصيغة مشاعية تحت هذا الاسم مع بداية حرب الإبادة على قطاع غزة، مقدمين ممارسات فنية نقدية لواقع التجارب المشاعية من خلال فعل مكاشفة حقيقي لأنماط الحياة اليومية الخفية اللامرئية - فإن السكان المحدودي الدخل أو معدوميه، يتوجهون غالبا إلى المناطق المحظورة عسكريا للحصول على الأخشاب بأنفسهم في مغامرة غير محمودة العواقب قد تؤدي بهم إلى القتل. ويُقصد بالمناطق المحظورة، المساحات الخضراء التي جرفها الاحتلال مخلفا فيها كميات وافرة من الخشب من بقايا الأشجار المبتورة.

أصبح التحطيب والعمل بقطع الأخشاب تجارة رائجة ومعقدة في حيثياتها بما تنطوي عليه من استثمار ومخاطرة بالتعرض للقتل

تقع هذه المناطق غالبا في شرق قطاع غزة مثل شرق مخيم البريج ومنطقة وادي غزة. يلجأ من يخاطرون بالوصول إليها، إلى الحفر بالأيدي أو باستخدام أدوات بسيطة جدا للحصول على جذور الأشجار الميتة لاستخدامها في إشعال النيران.

AFP
شبّان وأطفال حول رجل يقطع الخشب لاستخدامه كحطب أمام أحد المباني في مدينة غزة

أما التجار ومن يمتهنون عملية بيع وشراء الأخشاب وتحطيبها، فإنهم، حسب ما أورد التقرير، يتعاملون مع مجموعات خاصة تقوم بما يُعرف برحلات لجمع الحطب وأغصان الأشجار، يستخدمون خلالها عربات نقل وسيارات وشاحنات ويمتلكون غالبا معدات مخصصة لذلك. وتجمع كميات كبيرة من الأخشاب في مكان مخصص يعرف بـ"تبة النويري" حيث يلتقي تجار الخشب ويقومون بالبيع والمبادلة والتسعير هناك.

تعتبر "تبة النويري" سوقا مفتوحا، وهي هضبة تقع إلى الغرب من مخيم النصيرات وبلدة الزوايدة في وسط قطاع غزة، وتشكل جزءا من الطريق الساحلي المؤدي إلى محور نيتساريم الذي أقامه الجيش الإسرائيلي ليفصل بين شمال القطاع وجنوبه. يسلكه السائقون المتجهون إلى مخيم النصيرات باعتباره الطريق الوحيد في اتجاه الشرق. كما يتجمع هناك التجار  محمّلين الأخشاب من عدد من المناطق، خاصة من شمال الوادي وشرقه، وهي المناطق الزراعية المحظورة غالبا، التي تعرضت للتجريف وتخضع لرقابة عسكرية إسرائيلية مشددة.

أشجار وأسعار

يتطلب وصول ما يسمي بـ"المجموعات الخاصة" إلى هذه المناطق، مجازفة كبيرة. فوفقا للمعلومات المتوافرة، يدرك العاملون في هذه المجموعات الخطورة الشديدة التي تنطوي عليها هذه الرحلة، إلا أنه في ظل انعدام الخيارات يجد كثيرون منهم في هذه المجازفة فرصة محتملة وعائدا ماديا جيدا يمكنهم من تأمين احتياجات عائلاتهم وحمايتهم من جوع محتم. ورغم أخطار هذه التجارة، تلاقي رواجا كبيرا، وقد اتسع سوقها بشكل لافت في ظل انعدام الدخل وشح السيولة المالية في الأسواق، وقد عززت الأمر زيادة الطلب على الحطب والأخشاب مع انعدام الوقود.

يعتبر حطب شجر الليمون والبرتقال الأعلى جودة كحطب للاشتعال ويصل سعر الكيلوغرام منها إلى 7 شيكلات مقارنة بأخشاب شجر الزيتون التي يتراوح سعرها بين 4- 5 شيكل للكيلوغرام

هناك الكثير من الأشجار التي تستخدم في التحطيب، لكن الأكثر طلبا ورواجا في السوق هو أخشاب أشجار الليمون والبرتقال وأخشاب الزيتون التي تمتاز بجودتها وقدرتها على الاشتعال لفترات طويلة. ويعتبر حطب شجر الليمون والبرتقال الأعلى جودة كحطب للاشتعال ويصل سعر الكيلوغرام منها إلى 7 شيكلات مقارنة بأخشاب شجر الزيتون التي يتراوح سعرها بين 4- 5 شيكل للكيلوغرام الواحد. هناك أيضا مادة تسمى شعبيا باسم "الجف" وهي تفل الزيتون، تُستخرج من مخلفات الزيتون بعد عصره لاستخراج الزيت، وتُصنع من بقايا الزيتون المطحون ونوى الزيتون المجروش جزئيا وبعض البقايا المائية والزيتية بعد العصر التي تستخدم كوقود، ويباع الكيلوغرام منها بـ 5 شيكلات.

AFP
رجال يسيرون حاملين فروع أشجار لجمعها كحطب في مخيم المغازي للاجئين وسط غزة

أما "خشب الوزن" أو ما يعرف باسم خشب العوادم، فهو الاسم الذي أُطلق على بقايا الأثاث أو المخلفات الخشبية المعاد استخدامها وبيعها بالكيلوغرام كبديل لمصدر الطاقة حيث تستخدم كحطب لإشعال النار. فما كان في السابق خزانة للذكريات، أو طاولة لوليمة عائلية، أو سريرا، يُقطع ويُجزّأ ويُباع بسعر 2 شيكل للكيلوغرام. لم يعد الخشب دالا على الحرفة أو على دفء المكان، بل صار رمزا لمعادلة بقاء هشة، حيث تتحول نفايات الحياة اليومية إلى وقود يمد العائلة بما يكفي لطهو وجبة، أو للتدفئة ليلا.

اقتصاد الضرورة

هذا النمط من استخدام الأخشاب، بات يشكل ما يمكن تسميته باقتصاد الضرورة في قطاع غزة، حيث تنكمش الخدمات وتنهار البنى التحتية، ويخرج من تحت الأنقاض منطق بديل يسنده الذكاء الجمعي والقدرة على التحويل. في هذا السياق، يصبح الحطب أكثر من مجرد وسيلة، فهو لغة مادية تعبّر عن التشبث بالحياة بأي ثمن. هكذا تُحرق الذاكرة لتُطهى الحياة، ويباع الماضي بالكيلوغرام ليشعل لحظة من الحاضر. تتحول النفايات إلى أثمن الموجودات، ويقاس الزمن ليس بعدد الأيام، بل بعدد الكيلوغرامات التي قد تكفي لإشعال نار.

ليس أدلّ على حال البؤس التي بلغها سكان غزة اليوم، من اضطرارهم إلى بيع أشجارهم بالكيلوغرام، وإلى استبدال تاريخهم وذكرياتهم بما يقيهم البرد والجوع ولو مؤقتا

وعلى الرغم من أن هذا الشكل من الاستخدام المستدام قد يبدو صديقا للبيئة نسبيا كونه استثمارا في المخلفات الزراعية وبديلا اقتصاديا من الحطب والخشب، إلا أنه يُعد تفصيلا هامشيا في ظل استنزاف كبير للأشجار والأخشاب لأكثر من مليون وثمانمائة ألف نازح في قطاع غزة أصبحوا يعتمدون على الحطب بشكل كلي في تأمين احتياجهم من الوقود.

REUTERS
دبابة إسرائيلية تناور داخل قطاع غزة، كما تبدو من الجانب الإسرائيلي للحدود

التصحر عملية بطيئة وغالبا ما تكون غير مرئية، لا تأتي بشكل مفاجئ وإنما عبر عملية تآكل بطيء تتم على مراحل. وهي لا تقتصر على تدهور الأراضي وحسب، بل هي رمز للخسارة، وهذا ما انطوت عليه شهادات الكثيرين في تقرير "أثر الفراشة" الآنف الذكر، إذ وصف أحدهم عملية قص شجرة من أرضه لتحطيبها واستخدامها كوقود، بجرح غائر في القلب. يقول إنه أجبر على اقتلاع شجرة يفوق عمرها المئة عام، كان زرعها جده وترعرعت في عهده وكان شاهدا على نموها.

هذا التصحر لا يجسد عمليه فيزيائية بيئية تهشم علاقة الانسان بالطبيعة والأرض وحسب، وإنما تهشم ذاكرته أيضا. فقطع شجرة يعني إحداث جرح في الذاكرة لشيء ممتد في الزمن والتاريخ والأثر. وليس أدل على حال البؤس التي بلغها سكان غزة اليوم، من اضطرارهم إلى بيع أشجارهم بالكيلوغرام، وإلى استبدال تاريخهم وذكرياتهم بما يقيهم البرد والجوع ولو مؤقتا.

font change