هل يحصل "تسرب إشعاعي" في إيران؟

بعد قصف إسرائيل منشآت نووية

أ ف ب
أ ف ب
خبيران إيرانيان يعملان في تخصيب اليورانيوم في أصفهان، على بُعد 420 كيلومترًا جنوب طهران

هل يحصل "تسرب إشعاعي" في إيران؟

في خطوة غير مسبوقة، وجهت إسرائيل ضربة عسكرية إلى منشآت نووية إيرانية، استهدفت فيها مفاعل "نطنز" الشهير ومواقع أخرى عدة، في عملية وُصفت بأنها الأعنف والأوسع في تاريخ المواجهات غير المعلنة بين الطرفين. ولكن على خلاف العمليات السابقة التي كانت تتم في الظل أو تُنسب إلى "انفجارات غامضة"، جاءت هذه الضربة معلنة وصاخبة ودموية، وتسببت بشيء أكثر خطورة من الخسائر العسكرية: تلوث إشعاعي وكيميائي، حسب تأكيدات الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

بحسب مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي، دمرت الضربة الإسرائيلية الجزء العلوي من منشأة "نطنز"، بينما لم تظهر مؤشرات الى تضرر المنشآت تحت الأرضية حيث تجرى عمليات تخصيب اليورانيوم. إلا أن الأضرار طالت منظومة الكهرباء التي تشغل أجهزة الطرد المركزي، مما قد يفضي إلى تعطل عمليات التبريد والسيطرة، وهو سيناريو كابوسي في عالم المفاعلات النووية.

وقد حذر غروسي من وجود "تلوث إشعاعي وكيميائي داخل الموقع"، مما يعني أن ضربة "الأسد الصاعد" — كما سمتها إسرائيل — لم تكن مجرد استعراض قوة، بل خلفت تداعيات بيئية خطيرة.

وقد أكدت السلطات الإيرانية المختصة حتى الآن أن موقع تخصيب اليورانيوم في "نطنز" قد تعرض بالفعل لأضرار، إلا أنها أشارت إلى عدم رصد أي مستويات مرتفعة من الإشعاع في الوقت الراهن، كما أكدت أن موقعي أصفهان وفوردو لم يتعرضا لأي ضرر حتى الآن.

منشأة "نطنز"

تعد منشأة "نطنز" المعروفة رسميا باسم "منشأة الشهيد أحمدي روشان النووية"، أحد أهم مواقع تخصيب اليورانيوم في إيران.

تتميز المنشأة التي تقع في محافظة أصفهان بتصميم هندسي معقد يهدف إلى حماية عمليات تخصيب اليورانيوم من الهجمات الخارجية، إذ تقع تحت الأرض على عمق يتراوح بين 40 إلى 50 مترا، وتضم قاعات كبيرة مزودة أجهزة طرد مركزي متطورة، وقد تم بناء المنشأة بطبقة خرسانية مسلحة سمكها 7.6 أمتار لحماية المناطق الحساسة، مع أنفاق وممرات متشابكة تسمح بحركة العاملين والمعدات.

ا ف ب
صواريخ في سماء تل أبيب في 13 يونيو/ حزيران 2025

وتتكون المنشأة من مستويات عدة، حيث خصصت الطوابق العليا للمكاتب الإدارية والبحثية، بينما تتركز أجهزة الطرد المركزي في المستويات السفلية الأكثر حماية. كما تضم المنشأة أنظمة تبريد متطورة، ومولدات طاقة احتياطية، وأنظمة تحكم بيئي للحفاظ على الظروف المثلى للتخصيب.

أما المنشأة فوق الأرض فتشمل مباني الدعم الفني ومراكز المراقبة، التي يبدو أنها كانت الهدف الرئيس للضربة الأخيرة. تم ربط المنشآت تحت الأرض بمنظومة تهوية معقدة وأنفاق إمداد تسمح باستمرار العمليات حتى في حال تعرض الأجزاء العلوية لأضرار.

لا تقاس الضربة الاسرائيلية بالانتصارات التكتيكية وحدها، بل بعواقبها الاستراتيجية الأوسع، فهي تدفع المنطقة نحو ثلاثة سيناريوهات خطيرة.

كشفت منظمة "مجاهدي خلق" الإيرانية عن وجود منشأة "نطنز" النووية لأول مرة عام 2002، لتصبح منذ ذلك الحين هدفا متكررا للهجمات والعمليات العسكرية، حيث تعرضت أجهزة الطرد المركزي فيها لهجوم إلكتروني مدمر بفيروس "ستوكسنت" عام 2010 يُنسب الى إسرائيل والولايات المتحدة، تلته سلسلة اغتيالات للعلماء النوويين بين 2011-2012 أبرزهم مصطفى أحمدي روشان الذي أطلق اسمه لاحقا على المنشأة، كما شهدت أعوام 2020 و2021 انفجارات غامضة نُسبت لأعمال تخريبية، قبل أن تكشف صور الأقمار الصناعية عام 2024 عن أعمال توسعة تحت الأرض تشمل إنشاء مصنع جديد لأجهزة طرد مركزي متطورة.

لكن الضربة العسكرية الإسرائيلية الأخيرة خطيرة لأسباب عدة، إذ إنها تستهدف منشآت نووية مباشرة وهو خط أحمر دولي كانت الأطراف تتجنبه لسنوات رغم التصعيد المتواصل، كما أن هناك خطر تسرب إشعاعي ممتد في حال تأثرت أجهزة التبريد أو الطرد المركزي، خاصة مع احتمال انقطاع التيار الكهربائي أو وقوع هجمات لاحقة، علاوة على تسببها في سقوط قيادات بارزة مثل حسين سلامي قائد الحرس الثوري والمستشار الأمني علي شمخاني، مما يشير إلى أن الضربة هدفت إلى تفريغ رأس القيادة وليس فقط تعطيل المنشآت، وهدفت أخيرا لامتداد تأثيرها إلى منشآت أخرى، كما أشار غروسي في خصوص موقعي فوردو وأصفهان، مما يؤكد أن إسرائيل نفذت ضربة شاملة تستهدف العمق النووي الإيراني وليس مجرد ضربة رمزية محدودة.

من المنظور العسكري المباشر، تبدو الضربة الإسرائيلية ناجحة بامتياز، حيث تمكنت من تدمير أهداف نووية حيوية وإصابة القيادات الإيرانية في مقتل. لكن الحرب لا تقاس بالانتصارات التكتيكية وحدها، بل بعواقبها الاستراتيجية الأوسع. هذه الضربة تدفع المنطقة نحو ثلاثة سيناريوهات خطيرة.

فخطر تصعيد نووي أصبح غير مسبوق، والتسرب الإشعاعي المحتمل أو تدمير منشآت إضافية قد يحول المنطقة إلى نسخة شرق أوسطية من تشيرنوبل، مع تداعيات إنسانية وسياسية لا تحمد عقباها.

كما أن رد الفعل الإيراني -ورغم وجود عدد من الهجمات على تل أبيب- لا يزال غير متوقع، فطهران قد تلجأ إلى أدوات غير تقليدية عبر وكلائها في المنطقة أو حرب سيبرانية عابرة للحدود، مما يزيد تعقيد الأزمة.

ومع تدويل الصراع، حيث قد تستغل روسيا والصين الفرصة لتعزيز نفوذهما، بينما يجد الغرب نفسه عالقا بين دعم حليفه الإسرائيلي والخوف من انهيار كامل لموازين الأمن النووي الإقليمي.

تخصيب وتسريب

يعتمد موقع "نطنز" الإيراني على سلسلة معقدة من الأنظمة التقنية الحساسة للحفاظ على سلامة عمليات تخصيب اليورانيوم ومنع أي تسرب إشعاعي. عند تشغيل أجهزة الطرد المركزي، تُستخدم كميات هائلة من الطاقة لتدوير الأسطوانات بسرعة هائلة، مما يسمح بفصل نظائر اليورانيوم والوصول إلى درجات تخصيب عالية. وتعمل هذه الأجهزة ضمن بيئة مغلقة تماما، ويراقب كل جزء منها بدقة بواسطة أنظمة تبريد وتحكم أوتوماتيكية.

لكن وعند وقوع قصف مباشر – كما حدث في الضربة الإسرائيلية – يمكن أن تصاب البنية التحتية الكهربائية لهذه الأجهزة، أو تنكسر الحواجز الواقية التي تفصل المواد المشعة عن الهواء الخارجي.

وفي حال انقطاع التيار الكهربائي، يتوقف نظام التبريد، فترتفع حرارة الأجهزة والمفاعلات الفرعية، مما يؤدي إلى تصدع الحاويات أو انصهار جزئي للوقود النووي. من شأن ذلك إطلاق كميات من الغازات المشعة، مثل الكريبتون-85 واليود-131، إلى الهواء، أو تسريب مياه ملوثة إشعاعيا إلى التربة والمياه الجوفية.

يحدث التسرب الكيميائي في المقابل عندما تُضرب منشآت تحول اليورانيوم الخام إلى غاز سادس فلوريد اليورانيوم وهو مركب شديد السمية كيميائيا ونوويا، أو عندما تُصاب خزانات تحتوي على نفايات مشعة أو مواد معالجة.

لا يتوقف خطر التسرب الإشعاعي أو الكيميائي عند صحة الإنسان، إذ يلوث الهواء والتربة والمياه الجوفية، وقد يمتد أثره لعقود فتمتص النباتات المواد المشعة من التربة، وتدخل السلسلة الغذائية ويتراكم الإشعاع في أجسام الحيوانات، مما يؤدي إلى نفوق واسع أو نقل الإشعاع إلى البشر عند استهلاك منتجاتها.

أما في حال تسرّب إشعاع إلى مجرى الأنهار أو المياه الجوفية، فإن آثاره قد تمتد لعشرات أو مئات الكيلومترات، خصوصا في المناطق القاحلة التي تعتمد على المياه الجوفية للزراعة والشرب. وقد تصبح مساحات زراعية بأكملها غير صالحة للاستخدام لعشرات السنين، كما حدث في مناطق من أوكرانيا بعد كارثة تشيرنوبل.

دول في مهب الإشعاع

وعند الحديث عن تسرب إشعاعي أو كيميائي من منشأة نووية في إيران، مثل منشأة "نطنز" أو "فوردو"، لا يكفي أن ننظر إلى حدود إيران الجغرافية، بل يجب أن نفهم كيف تتحرك الغازات والمواد المشعة في الجو والتربة والمياه.

=
منظر عام لمنشأة أصفهان للطاقة النووية جنوب طهران

فالإشعاع لا يعترف بالحدود السياسية، والهواء لا يتوقف عند خطوط الخرائط. وما يحدث في عمق الأراضي الإيرانية يمكن أن يمتد أثره إلى دول بعيدة، بحسب عوامل الطقس والجيولوجيا والموقع الجغرافي.

رغم بعد المسافة نسبيا، فإن تركيا وشمال سوريا قد تتأثران في حال حدوث انفجار كبير أو انتشار واسع في الجو العلوي، خاصة في فصل الشتاء

فبسبب موقع إيران الجغرافي ووجود معظم منشآتها النووية في وسط البلاد أو إلى الجنوب الغربي منها، فإن أي تسرّب إشعاعي يترافق مع رياح شرقية أو شمالية شرقية قد يحمل الغبار المشع إلى دول الخليج، وتقع دول مثل الكويت والبحرين وقطر والإمارات الشرقية ضمن ما يمكن تسميته بـ"الهلال الخطر" في حال هبوب رياح قارية صيفية تحمل التلوث من الهضبة الإيرانية نحو الساحل العربي للخليج.

وتزداد الخطورة بسبب القرب النسبي الجغرافي. فالمسافة بين نطنز ومدينة الكويت، على سبيل المثل، تقارب 550 كيلومترا فقط. وإذا تسرّب الغبار المشع إلى طبقات الجو العليا، فإن انتشاره قد يشمل أيضا المنطقة الشرقية من السعودية، خاصة الدمام والجبيل والظهران، وهي مناطق صناعية وسكانية مكتظة.

ويأتي العراق على رأس قائمة الدول المعرضة مباشرة للتلوث، نظرا لمشاركته مع إيران حدودا طويلة ومعقدة، فضلا عن قرب منشآت مثل أصفهان ونطنز وفوردو من الحدود الغربية الإيرانية. إذا كان التلوث إشعاعيا وتحرّك مع الرياح الغربية أو الشمالية الغربية، فإن مدن ديالى، وواسط، والكوت، وربما بغداد نفسها، قد تتعرض لمستويات متفاوتة من الإشعاع.

الغبار المشع

ويضاف إلى ذلك، خطر التسرب الكيميائي في المياه، إذ أن بعض المنشآت تقع في أحواض أنهار تتصل بـشط العرب، مما يجعل البصرة ومدن الجنوب العراقي مهددة بتلوث مائي مزمن، خاصة إذا وصل التسرب إلى مجرى نهر كارون الذي يرفد مياه الشرب والزراعة في مناطق شاسعة.

ورغم بعد المسافة نسبيا، فإن تركيا وشمال سوريا قد تتأثران في حال حدوث انفجار كبير أو انتشار واسع في الجو العلوي، خاصة في فصل الشتاء، عندما تتحرك التيارات الهوائية العليا جنوبا وشرقا من مناطق الأناضول نحو الشام وقد يحمل التلوث الرياح الباردة شمال غربا، لتؤثر على مناطق مثل حلب، إدلب، وغازي عنتاب.

ورغم أن التلوث سيكون أقل تركيزا كلما ابتعدنا، فإن الطبيعة الجبلية في هذه المناطق قد تؤدي إلى "حبس" الغبار المشع في بعض الوديان والسهول المغلقة، مما يفاقم أثره المحلي.

في حال حدوث تسرب واسع وممتد زمنيا، ومع تغير في نمط الرياح نحو الجنوب الغربي، فقد تطال آثار التلوث شمال الأردن وجنوب فلسطين وحتى شبه جزيرة سيناء المصرية، في سيناريو غير مستبعد، خاصة إذا دخلت الجسيمات المشعة في التيارات الهوائية العالية، مثل طبقة التروبوسفير، التي تُستخدم في بعض الحالات لنقل الرماد البركاني أو الدخان عبر قارات.

بالتالي، فإن شمال مصر وسواحل المتوسط الشرقية قد تتأثر بمستويات منخفضة ولكن غير معدومة من التلوث، خاصة عبر التلوث البحري، إذا تسرب أي إشعاع إلى الخليج العربي ثم وصل مع التيارات البحرية إلى قناة السويس وسواحل الدلتا.

في حال حدوث تسرب إشعاعي أو كيميائي من منشآت تقع في شرق إيران – مثل مجمّع "يزد" أو منشآت التخصيب في كرمان – فإن الرياح الشرقية والجنوبية الشرقية قد تنقل التلوث إلى أفغانستان وباكستان، خاصة مناطق بلوشستان وغرب كراتشي. ويضاعف الخطر أن هذه المناطق فقيرة في أنظمة الرصد الإشعاعي، مما يجعل اكتشاف التلوث ومعالجته أكثر صعوبة، وقد تمر أسابيع دون أن تُدرك السلطات المحلية ما يجري فعليا في الهواء أو المياه.

تتبنى الوكالة الذرية للطاقة النووية العديد من القرارات في شأن الهجمات العسكرية على المنشآت النووية التي تنص من جملة أمور أخرى، على أن "أي هجوم مسلح على منشآت نووية مخصصة للأغراض السلمية، أو حتى التهديد بذلك، يُعد انتهاكا صارخا لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي والنظام الأساسي للوكالة".

كما تؤكد الوكالة أن "الهجمات المسلحة على المنشآت النووية قد تؤدي إلى انبعاثات إشعاعية ذات عواقب وخيمة تتجاوز حدود الدولة المستهدفة".

وقد ناشد المدير العام للوكالة جميع الأطراف ممارسة أقصى درجات ضبط النفس لتفادي المزيد من التصعيد، مؤكدا أن أي عمل عسكري يعرّض سلامة وأمن المنشآت النووية للخطر قد يخلف عواقب وخيمة على شعوب إيران، والمنطقة، وما وراءها.

لكن ورغم جميع القواعد والقرارات والمناشدات، وفي ضوء هذا التصعيد غير المسبوق، تقف المنطقة والعالم على حافة هاوية نووية قد تتجاوز تداعياتها حدود إيران وإسرائيل لتطال الأمن الإقليمي والدولي برمته.

أ ف ب
صورة أرشيفية لمنشأة تخصيب اليورانيوم في أصفهان

فاستهداف منشآت نووية، حتى إن لم يؤدِ مباشرة إلى كارثة إشعاعية فورية، يفتح الباب أمام سيناريوهات لا يمكن السيطرة عليها، تبدأ من التلوث البيئي، ولا تنتهي عند سباق تسلح نووي جديد.

وقد أظهرت التطورات الأخيرة هشاشة التوازن القائم، وأكدت مجددا أن الأمن النووي لا يمكن أن يصان بالقوة، بل عبر الشفافية والرقابة الدولية والحوار البناء. وبينما يواصل العالم مراقبة الموقف بقلق، تبقى المسؤولية الكبرى على عاتق القوى الدولية والمنظمات الأممية لاحتواء الأزمة، ومنع تكرار مثل هذه العمليات الخطرة التي تنسف كل ما بُني من جهود للحد من الانتشار النووي.

font change