حين تدافع الصين عن التجارة الحرة

حين تدافع الصين عن التجارة الحرة

استمع إلى المقال دقيقة

من سخريات القدر، أن يأتي يوم تتحول فيه واشنطن خصما للنظام التجاري العالمي الحر، وداعية إلى رفع الحواجز الجمركية، في وقت تتقدم بكين لتدافع عن حرية التبادل التجاري والعولمة.

في أواخر القرن الماضي، كانت الصين والاتحاد السوفياتي (ومن بعده روسيا) تنظران بريبة، إن لم نقل بازدراء، إلى النظام العالمي الذي رعته الولايات المتحدة الأميركية ومؤسسات "بريتون وودز" بعد الحرب العالمية الثانية، وفي طليعتها الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة "غات" التي تأسست عام 1947، ثم منظمة التجارة العالمية التي خرجت إلى النور في عام 1995.

كانت الصين، الشيوعية آنذاك، كانت مشغولة بتثبيت أركانها الداخلية، وروسيا السوفياتية ترى أن قواعد السوق الحرة لعبة رأسمالية متوحشة لا مكان لها في معسكرها الاشتراكي. أما منظمة التجارة، فكانت في نظرهما ناديا نخبويا غربيا مقفلا للنيوليبيرالية الاقتصادية، تحكمه واشنطن ولندن وبروكسل.

لكن الأقدار السياسية لا تتوقف عند السخرية في المشهد الاقتصادي العالمي، فالصين، التي لم تدخل منظمة التجارة العالمية إلا في عام 2001، باتت اليوم أكثر الدول تمسكا بقواعدها، على الأقل من حيث الخطاب السياسي. أما روسيا، التي لحقت بالركب متأخرة في عام 2012، فوجدت نفسها بعد عقد واحد فقط خارجه فعليا، بسبب العقوبات الدولية التي أقصتها عن معظم الأسواق.

تحطيم موازين التجارة العالمية

لكن الولايات المتحدة، راعية التجارة الحرة لعقود، قررت في عهد دونالد ترمب أن تكسر الأواني كلها دفعة واحدة، وأن تستبدل العلاقات التجارية المستقرة التي بنتها على مدى أكثر من نصف قرن بنهج اعتباطي ومُتقلب، تُتخذ فيه القرارات عبر وسائل التواصل الاجتماعي! فقد فرضت رسوما جمركية عالية على واردات الصلب والألمنيوم من الحلفاء قبل الخصوم، وخاضت حربا تجارية مفتوحة مع الصين، دونما اعتبار لمبادئ منظمة التجارة، أو حتى لأبسط قواعد التفاوض. ويصل تخبط ترمب إلى ذروته في ولايته الثانية، من خلال أهدافه المتناقضة المتمثلة في انتزاع تنازلات من الدول الأخرى، في وقت يسعى حثيثا لإعادة الوظائف الصناعية إلى الداخل الأميركي.

الأغرب من ذلك أن واشنطن – الديمقراطية العريقة – عطَلت مُنذ سنوات جهاز تسوية النزاعات في منظمة التجارة، بعدما رفضت تعيين القضاة في هيئة الاستئناف، تاركة بذلك العالم بلا محكمة تجارية دولية فاعلة. وفي وقت كانت الإدارة الأميركية تمزق دفاتر "الغات" القديمة، راحت الصين تصف منظمة التجارة بأنها "ركن أساس في النظام المتعدد الأطراف" وتدعو إلى إصلاحها... لا نسفها.

في وقت كانت الإدارة الأميركية تمزق دفاتر "الغات" القديمة، راحت الصين تصف منظمة التجارة بأنها "ركن أساس في النظام المتعدد الأطراف" وتدعو إلى إصلاحها

وفي حين أن دولا كانت تُتّهم بالتحايل على القواعد الدولية، تطالب اليوم بتفعيلها، وأن الولايات المتحدة التي كانت تتغنى بسيادة القانون التجاري الدولي، باتت تقفز فوقه وترفع الحواجز الجمركية لتصويب الخلل في ميزانها التجاري، ومحاولة استعادة صناعاتها المهاجرة منذ عقود.

"عصر ما بعد العولمة"

في المشهد العام، تبدو منظمة التجارة نفسها ضحية "عصر ما بعد العولمة"، إذ تلاشَت قُدرتها على فرض قواعدها، لحساب السيادة الوطنية، والحمائية، و"أميركا أولاً"... لكن السخرية الكبرى أن من دقّ مسمارا في نعش المنظمة ليس خصما أيديولوجيا، بل أحد مؤسسيها وعرّابها التاريخي.

السؤال الأكبر اليوم، الذي يعصف بالمعمورة منذ جنون "يوم التحرير" في الثاني من أبريل/ نيسان المنصرم، ماذا بعد "استشهاد" منظمة التجارة العالمية، وماذا ينتظر الأسواق والشركات وسط الضياع التجاري الدولي الراهن؟ وكم ستمدد هدنات هذه الدوامة؟ وهل سيُمكن ترميم اهتزاز الثقة بين الشركاء التاريخيين، ولا سيما مع الاتحاد الأوروبي.. قبل الحديث عن الرابح الأخير في "أُم المعارك" الاقتصادية التاريخية بين الجبارين الاقتصاديين الولايات المتحدة والصين؟

صدمة تجارية غير مسبوقة 

داعية العولمة وصاحب كتاب "العالم مُسطح "-  (THE WORLD IS FLAT)، توماس فريدمان، يرى أن المستقبل لم يعد في أميركا"، مقارنا بين الولايات المتحدة والصين لجهة التطور والابتكار، وترى مجلة "الايكونوميست" أن "حجم الصدمة التي أحدثها ترمب في التجارة العالمية غير مسبوق في التاريخ"

لم يبق مسؤول سياسي أو اقتصادي إلا ودق ناقوس الخطر، رؤساء دول وحكومات وشركات، من المديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستالينا غورغييفا إلى رئيسي البنك الدولي أجاي بانجا، ورئيس الاحتياطي الفيديرالي جيروم باول، وقبلهم المديرة العامة لمنظمة التجارة العالمية نغوزي أوكونجو إيويالا التي حذرت من أن الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين يمكن أن تخفض حتى 80 في المئة تجارة السلع بين أكبر اقتصادين في العالم، وتمحو نحو 7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي على المدى البعيد.

لا ريب أن النصف الثاني من السنة الجارية سيحمل تداعيات اقتصادية ومالية لم تتكشف تبعاتها بعد في وقت بات جليا (لترمب قبل غيره) ان عودة الصناعة كما يشتهي أنصاره بعيد المنال وحساباته تحتاج الى عقود

حتى الآن، ماذا حرر ترمب فعلا في "يوم التحرير" الذي خسرت فيه التجارة العالمية حرية انسيابها، بين الشركاء قبل الخصوم، وخسرت سمعتها العابرة للقارات والمحيطات، وسادت حقبة جديدة من الحمائية تحت سيف التفاوض، والابتزاز السياسي والاقتصادي والعسكري.

لا ريب أن النصف الثاني من السنة الجارية سيحمل تداعيات اقتصادية ومالية لم تتكشف تبعاتها بعد، في وقت بات جليا (لترمب قبل غيره) ان عودة الصناعة كما يشتهي أنصاره بعيد المنال وحساباته تحتاج الى عقود؟

واذ اختارت الصين الصمود والمواجهة حتى النهاية، وشهرت أسلحتها من الموارد الطبيعية والمعادن ومكونات الرقائق وأشباه الموصلات - أوكسجين اقتصاد هذا الزمان - فان الهدنات الحمائية الراهنة لا تحمي من شرارة محتملة قد تشعل حروبا عالمية من نوع جديد من شأنها تغيير مجرى التاريخ.

font change