كتاب جديد يتناول "أزمة الأديب" في مقالات شوقي أبي شقرا

إضاءة على أحوال لبنان بعد انتهاء الحرب الأهلية

مي ضاهر يعقوب

كتاب جديد يتناول "أزمة الأديب" في مقالات شوقي أبي شقرا

منذ 8 أشهر، غيب الموت الشاعر اللبناني شوقي أبي شقرا، تاركا وراءه إرثا من الكتابات النثرية والشعرية، وهو ما دفع بالباحثة والكاتبة مي ضاهر يعقوب، إلى إطلاق كتاب بعنوان "أزمة الأديب في مقالات شوقي أبو شقرا" صدر حديثا عن "دار النهار للنشر" في بيروت، قدمت فيه تحليلا أكاديميا لمقالاته الصحافية في جريدة "النهار"، كاشفة للقراء الوجه الآخر للشاعر.

تتعمق الكاتبة في دراسة المقالات لتبين أن "الكتابة النثرية عند أبي شقرا ليست شعرا ولا قصيدة نثر بل يمكن وصفها بالحساسية الانفعالية لأديب تجاه واقع يومياته"، وفقا لما ذكرت في حوار مع " المجلة" تناولت فيه إصدارها الجديد.

لماذا اخترتِ نصوص شوقي أبي شقرا الصحافية موضوعا لهذا البحث؟

اخترتُ أن يكون بحثي لشهادة الماجستير في اللغة العربية وآدابها في الجامعة اللبنانية عن كتابات شوقي أبي شقرا النثرية، لأن هذا الجانب من نتاجه الأدبي لم ينل حقه في الأبحاث الأكاديمية، ولم يتطرق إليه نقاد أو كتاب يهتمون بالأعمال النثرية لأدباء معروفين في عالم الشعر. ويعد شوقي أبي شقرا أحد أبرز شعراء الحداثة الذين عُرفوا في مجلة "شعر" الصادرة في بيروت بين عامي 1957 و1970 مع مؤسسها يوسف الخال وأدونيس وأنسي الحاج ومحمد الماغوط وغيرهم.

كان أبي شقرا من المجددين في الشعر إلى حد المغامرة في اللغة والمضمون، وقد نال اهتماما من أدباء ونقاد الشعر الحديث، إلا أن كتاباته النثرية لم تلق الاهتمام ذاته، ولم يقاربها أحد في أبحاث أكاديمية. ومن هنا يأتي هذا البحث للإضاءة على أعمال أبي شقرا النثرية التي تمثلتْ في مقالات نُشرت في صحيفة "النهار" البيروتية بين 1994 و1995 وقد جمعها في كتاب "سائق الأمس ينزل من العربة"، وصدرت عام 2000 عن دار "نلسون – السويد".

ميزة أبي شقرا في مقالاته المنشورة التي جمعها في كتاب وعالجتُ بعضها في بحثي إنما هي حالة فريدة من الكتابة الأدبية الإبداعية

ولا بد أن أشير إلى اهتمامي الشخصي بالأستاذ شوقي، الذي عملتُ تحت إدارته في الجريدة، وكان فيها كاتبا ومصححا وسكرتير تحرير للموضوعات الثقافية والاجتماعية والتحقيقات الصحافية المختلفة، فضلا عن مسؤوليته عن الصفحة الثقافية التي أسسها في العام 1964 وكانت أول صفحة ثقافية يومية تصدر في الصحف اللبنانية والعربية، ورائدة في هذا المجال.

الغموض والوضوح

هل تعتقدين أن مقالات شوقي أبي شقرا، تضيف شيئا إلى فهم عوالمه الشعرية؟

عالم أبي شقرا النثري يختلف تماما غن عالمه الشعري وإن كان يستخدم في نصوصه النثرية أسلوبا قد يجاور الشعر في بعض الألفاظ ولكن بمعانٍ وأبعاد مختلفة. الكتابة النثرية عند أبي شقرا ليست شعرا ولا قصيدة نثر بل يمكن وصفها بالحساسية الانفعالية لأديب تجاه واقع يومياته. إن عالم أبي شقرا الشعري لا علاقة له بعالمه النثري وإن كانا يأتيان من المعين الأدبي الإبداعي ذاته. إلا أن الشعر لديه والشعر الحديث عموما، يمتاز بالغرابة والغموض وتكثيف الصور غير المألوفة، ومن يدخل عالم أبي شقرا الشعري عليه أن يدخل أولا تلك المنطقة الخاصة به ليفهم مقاصده، أما النثر فهو واضح ومباشر وتلقائي وغايته مختلفة تماما عن الشعر المنثور أو قصيدة النثر أو شعر التفعيلة أو الشعر الحر. وميزة أبي شقرا في مقالاته المنشورة التي جمعها في كتاب وعالجتُ بعضها في بحثي إنما هي حالة فريدة من الكتابة الأدبية الإبداعية التي يتميز بها أبي شقرا.  

تتحدثين عن أزمة الأديب في مقالات أبي شقرا، كيف توصلتِ إلى فهم هذه الأزمة، وتعريفك لها، وأبرز عناصرها؟

سبق وقرأت مقالات أبي شقرا لدى نشرها في جريدة "النهار" عندما كنت أعمل فيها، وكانت لدي معرفة بانزعاجات أبي شقرا من الظروف الحياتية والاجتماعية والسياسية المحيطة بالبلد على الرغم من توقف الحرب المباشرة بين الأطراف المتقاتلة وبدء أعمال إعادة البناء التي تناولت الحجر دون البشر. وعندما قرأتُ تلك المقالات في الكتاب بعد مرور بضع سنوات على خروج أبي شقرا قسريا من "النهار"، كانت لي رؤية جديدة بمعاناة الكاتب المبدع الذي لم تقدر إبداعاته في عالم السلطة والمال ولا من المجتمعَين الأكاديمي والسياسي في البلاد.

غلاف كتاب "أزمة الأديب"

يتضمن كتاب "سائق الأمس ينزل من العربة" أكثر من مئة مقال يعبر فيها أبي شقرا عن هواجس الكاتب في اللغة، القديمة والحديثة، وفي أزماته الحياتية الخاصة، وذكرياته الطفولية والمدرسية، وعلاقته مع الطبيعة والفنون المختلفة، ومعاناته بوصفه أديبا حداثيا مغ المجتمع الأكاديمي ومع السلطة السياسية. وقد اخترت من هذه المقالات ثلاثة وثلاثين مقالا تدل إلى واقع مأزوم يعيش وسطه الكاتب جراء ما يحيط به من إرباكات ذات أبعاد اجتماعية وأكاديمية وسياسية تعطيلا لإبداعاته التي لا تجد آذانا مصغية لنداءاته في التجديد والتطوير.

قادني التحليل إلى رصد حالة كآبة لدى أبي شقرا، عندما يسعى إلى الخروج عن التقليد والتهميش والتدجين، فيصطدم بحواجز ترتفع أمامه بشكل متواصل

قادني تحليل البنية النصية والاجتماعية لمقالات محددة في الكتاب إلى فهم فكر أبي شقرا ورغباته التي يسعى جاهدا إلى تحقيقها، مثل قدرته على التعبير عن ذاته وفكره وتطلعاته في أجواء من الأمن الاجتماعي والحرية الكاملة. وافترضتُ أنه غير قادر على تحقيق هذه الرغبات في الواقع، أكانت رغبات مجردة أم ملموسة، إلا في التعبير الكتابي الإبداعي. وقادني التحليل إلى رصد حالة كآبة لدى أبي شقرا، عندما يسعى إلى الخروج عن التقليد والتهميش والتدجين، فيصطدم بحواجز ترتفع أمامه بشكل متواصل، وقد يكون أكبرها الحاجز النفسي الذاتي المرتبط بطفولته وسنوات المراهقة، وتبدو الحياة أمامه مغامرة مجهولة وغير موثوق بها على الإطلاق.

"الكلمة" و"الأزمة"

توليتِ تشريح مقالات أبي شقرا من النواحي المعجمية والبلاغية والتركيبية، ما أبرز هذه النقاط والأمثلة الممكن رصدها لذلك في مقالاته؟

يشكل الدخول في بعض نصوص الكتاب متاهة غير متوقعة في كثير من القضايا المطروحة، إلا أن تفكيك هذه المقالات في بنيات نصية محددة السمات يؤدي إلى فهم أفضل لما أراد الكاتب أن يقوله. رصدتُ في كلماته المعجمية اهتماما بـ"الكلمة" و"الأزمة". ففي "الكلمة" تحدثتُ عن تحولاتها لدى الكاتب، وهي بالنسبة له مسألة كيانية من صلب وجوده بوصفه كاتبا، وهي أساس كل فكرة جديدة يطرحها جاعلا منها كائنا حيا يتحرك وينتظر، يموت ويحيا، يتحول وينمو في القلب وفي شرايينه. في "الأزمة"، يعرض أبي شقرا الواقع المرير الذي يواجه كل من يسعى إلى التغيير في أي مجال من مجالات الثقافة، وبخاصة مجال الكتابة الابداعية، وتتزاحم المفردات لديه بين محاولات التدجين ومساعي التجديد وتصب كلها في نوع الأزمة التي تواجه الكاتب المبدع، وهي لديه غير ذاتية فحسب بل عامة تطول كل المبدعين في مختلف المجالات: الصحافية والأدبية والأكاديمية والسياسية.

في الناحية التركيبية رصدتُ تجاذبات من خلال الاستفهام ودلالتها الحيرة، التكرار ودلالتها ثبات الرأي، والنفي في معرض تأكيد الموقف في وجه السلطة بكل أشكالها. ومن الناحية البلاغية بحثتُ عن أدوات التشبيه والاستعارة والكناية في كثير من الجمل، وأجريتُ تحليلا دلاليا لها أكد وجود أزمة لدى الكاتب الذي يمثله أو يتماثل به أبي شقرا.

ما الذي تقوله مقالات شوقي أبي شقرا حول المناخ الثقافي الذي كان سائدا في لبنان وقت كتابة تلك المقالات؟

كتب أبي شقرا هذه المقالات - النصوص النثرية، في الأعوام التي شهدت خروج لبنان من مرحلة الحرب الداخلية المدمرة للبلد، إلى مرحلة إعادة ترميم السلطة السياسية والاقتصادية ورفع الأنقاض وترميم الأبنية المتضررة في وسط بيروت وقيام المشروع العقاري الكبير الذي تأسس في العام 1994 تحت اسم "الشركة اللبنانية لتطوير وإعادة إعمار وسط بيروت - سوليدير"، والانطلاق بعملية الإعمار والنهوض التي لاقت ردود فعل متناقضة بين مؤيد ومعارض، من جانب الرأي العام والمجتمع الثقافي في البلد.

لم يتعامل مع نصوصه النثرية بوصفها مقالات صحافية منشورة في جريدة، بل جعلها لوحة أدبية حداثية ذات أبعاد فكرية وإنسانية

اخترتُ هذا الموضوع لأهمية القضايا التي طرحها أبي شقرا في مقالاته والمرتبطة بواقعه المعيش بوصفه مواطنا وصحافيا ومثقفا. وهو لم يتعامل مع نصوصه النثرية بوصفها مقالات صحافية منشورة في جريدة، بل جعلها لوحة أدبية حداثية ذات أبعاد فكرية وإنسانية، فيها من التصريح والتلميح ما يدل على عمق الأزمة التي كان يعيشها الكاتب خصوصا، والمثقف اللبناني عموما، في تسعينات القرن العشرين، بعد انتهاء الحرب الأهلية في البلد واتفاق أطرافها على وثيقة الوفاق الوطني المعروفة باتفاق الطائف.

إن أهداف هذا البحث مرتبطة بمرحلة مهمة من التحول المفصلي السياسي والاقتصادي والثقافي في لبنان، وبخاصة العاصمة بيروت. وقد أراد الكاتب أن يعبر بشكل مباشر، في المقالات التي اخترتُها، عما يشغل باله في الواقع المعيش، لتصل كلمته عبر الصحافة، إلى مَن يجب أن تصل إليهم هذه الكلمة، بأسلوبه الأدبي الخاص الذي يجمع بين الطرح الصحافي لقضايا معينة والفن الأدبي في الكتابة البنيوية الدالة إلى أبعاد أرادها الكاتب فاعلة ومؤثرة، والبنية الذهنية الدالة إلى عملية فكرية إبداعية مرتبطة بالتاريخ والمجتمع اللذين ينتمي إليهما الكاتب.  

كيف تردين على من رأى أن التركيز على المقالات الصحافية في هذا الإصدار يلغي إلى حد ما مسيرة أبي شقرا الشعرية؟

لا يمكن مقالات شوقي أبي شقرا الصحافية المحددة في مكان وزمان وأحداث عاشها الناس، أن تلغي مسيرته الشعرية المرتبطة بوجدانه على الإطلاق. لقد أصدر أبي شقرا خمسة عشر ديوانا شعريا أولها "أكياس الفقراء" في العام 1959، وآخرها "أنت والأنملة تداعبان خصورهن" في العام 2023، وقد غادرنا في اواخر تلك السنة عن عمر يناهز التسعين عاما بعد حياة هادئة في ظاهرها وصاخبة في وجدانه. ويبقى أحد رواد الشعر الحديث في لبنان والعالم العربي، وحيا في استمرارية حضور إنتاجه الأدبي الغزير.

font change

مقالات ذات صلة