كاثرين غودمان من رسم الوجوه إلى التجريد

وارثة تقاليد المدرسة البريطانية

© Catherine Goodman Courtesy the artist and Hauser & Wirth Photo: Sarah Muehlbauer
© Catherine Goodman Courtesy the artist and Hauser & Wirth Photo: Sarah Muehlbauer
جانب من معرض "كاثرين غودمان. موسيقى صامتة"، في "غاليري هاوزر آند وورث"، نيويورك، شارع 22، 30 يناير – 12 أبريل 2025

كاثرين غودمان من رسم الوجوه إلى التجريد

كان حافزي للذهاب إلى قاعة "هاوسر اند ويرث" بتشيلسي في الجزء الشمالي من مانهاتن أن أرى جديد كاثرين غودمان بعد أن سحرني البورتريه الذي رسمته عام 2002 للأب أنتوني سوتش، مدير مدرسة داونسايد في سومرست، وهي اللوحة التي أهلتها للفوز بجائزة BP للبورتريه.

سبق لي أن تعرفت الى البريطانية كاثرين غودمان، رسامة مناظر طبيعية ومشاهد داخلية، إضافة إلى عنايتها الخاصة برسم الأشخاص. أتذكر أن الناقدة المعروفة إليزابيث غرايس وصفتها يومئذ بأنها "تتمتع بسلطة رمزية هادئة". نادرا ما يقال ذلك عن رسامي الصور الشخصية في عصرنا. غير أنني حين عرفت أن غودمان استغرقت سنتين في رسم لوحتها الفائزة، أدركت معنى جملتها التي تؤكد من خلالها أنها رسامة "سريعة" تقضي وقتا طويلا جدا في رسم لوحاتها، وتدمر الكثير منها. ولكن معنى أن يكون المرء رساما سريعا وفي الوقت نفسه حذرا وحساسا في التقاط الأصوات التي تنبعث من ضرباته، يتجلى في هذا المعرض الذي، وإن كان أسلوبها فيه لا يبتعد كثيرا عن طريقتها المعروفة في استعمال أصباغ زيتية قوية من خلال ضربات فرشاة عنيفة تترك أثرا سائلا يتجاوز محيطها، فإن ميل الفنانة إلى التجريد الكامل هذه المرة هو ما يفاجئ فيه.

كانت الفنانة في ما مضى مثل كل فناني لندن تجمع في لغتها البصرية بين التشخيص والتجريد. كان حريا بي أن أنسى كل الأمجاد التي حققتها في حياتها وهي الحائزة وسام الإمبراطورية البريطانية برتبة قائد، لأنظر إلى لوحاتها من جهة ما تمثله من إضافة إلى الفن التجريدي الذي كثرت أساليبه وتعددت التقنيات التي تؤدي إلى الوصول إليه، وصار في معظم الأحيان سلما لصعود الكثيرين ممن لا يملكون موهبة حقيقية بحيث خيل إلى البعض أنه طريق ميسرة لإستهلاك تقنيات جاهزة.

أعادت التجريد إلى النقطة التي يكون فيها فنا صعبا بل والأكثر صعوبة في محاولة الرسامين التوأمة بين ما يرى وما لا يرى من الحياة

في هذا المعرض أعادت كاثرين غودمان التجريد إلى النقطة التي يكون فيها فنا صعبا بل والأكثر صعوبة في محاولة الرسامين التوأمة بين ما يرى وما لا يرى من الحياة في أكثر معانيها تلخيصا وأشدها ضراوة.

حياة يومية تغص بالأحلام

تقول غودمان: "يمكن الرسم أن يولد شعورا بالوحدة ويفتح بابا إلى آفاق أخرى من الوعي". وهي في ذلك انما تلخص تجاربها في الحياة وعلاقتها بالفنون الأخرى، وفي الأخص ما يتعلق بذكرياتها عن الأفلام التي كرست أساطير عصر السينما الحديثة. ولأنها فنانة حياة يومية، فإنها تستخرج وثائق شخصية من اعجابها الشديد برسوم قدامى الرسامين وهو ما يثري خيالها بالمزيد من الوقائع والأفكار والمعالجات التي صارت جزءا من ذكرياتها. كانت تلك الذكريات أساس لغتها البصرية التي صارت من خلالها تتحدى العالم الصلب الذي تواجهه بمشاهد هي ليست جزءا منه.

 Catherine Goodman  © Catherine Goodman  Courtesy the artist and Hauser & Wirth  Photo: Eva Herzog

إنها مشاهد مستلهمة من الرسم باعتباره عالما مستقلا. وهو عالم مجاور ليس في الإمكان التحقق من إستقلاله إلا من خلال التأثير البصري الذي تمارسه اللوحات التي رسمتها الفنانة بعد كثير من عمليات الحذف والإضافة التي هي جزء من فكرة بناء عالم مختلف. ذلك عالم ينتمي إلى اللاوعي. كيف يمكن أن تكون اللوحة موضوعا محلوما به وكيف يتخطى حدود حلمه لكي يمتزج بالواقع الذي صار عبارة عن ماض. ولأن غودمان فنانة تعبيرية، فإن رؤية لوحاتها، فضلا عن كونها تسر النظر، تهب مشاهديها أفكارا عن عالم في طريقه إلى التشكل. ذلك العالم ينطوي على الكثير من اللذة البصرية. سيكون علينا أن نكون مستعدين لأفكار نضرة من النوع الذي نسيناه ونحن نعيش عصر الأشياء الجاهزة. مثلما تضرب غودمان سطوح لوحاتها بفرشاتها غير المتسامحة، فإنها تضرب في الوقت نفسه طريقتنا في التفكير في الأشياء المحيطة بنا. لقد عرفت حياة المشردين جيدا حين رسمتهم. وهو ما جعلها تبقي في رسومها ما يمكن أن ينساه الآخرون.

 Catherine Goodman  © Catherine Goodman  Courtesy the artist and Hauser & Wirth  Photo: Eva Herzog

لغة بصرية واحدة

لا تبدو كاثرين غودمان خائفة من اقتحامها عالم التجريد بقوة واندفاع. وهي لا تفكر إلا باللغة التي تحولت إلى استعمالها في التعبير عما تشعر به وهي تسعى إلى التعبير عن عالمها الشخصي وطريقة رؤيتها للأشخاص والأشياء في محيطها. لذلك فإنها لا تخشى الإخفاق، مستلهمة ثقتها لا بتمكنها الحرفي وحده بل أيضا بقدرتها على تحويل المرئيات إلى موضوعات صالحة للرسم مع الحفاظ على شفافيتها وكثافتها في الوقت نفسه. وما ساعد الفنانة على التماهي مع هذا التحول بسلاسة، أنها لم تكن في سابق أيامها رسامة واقعية.

مثلما تضرب غودمان سطوح لوحاتها بفرشاتها غير المتسامحة، فإنها تضرب في الوقت نفسه طريقتنا في التفكير في الأشياء المحيطة بنا

كانت ترسم الوجوه بأسلوب وسلوك وتقنيات رسامة تجريدية. ذلك ما يمكن أن نفهمه من محاولتها إقامة صلة جوهرية بين أسلوبيها، القديم والجديد، وهما الشيء نفسه بالنسبة اليها. تقول في تعليقها على معرضها الجديد: "هذه اللغة الأكثر تجريدا تبدو كأنها قادرة على احتواء المزيد من الترابطات الخاصة. كل لوحة تقريبا من هذه اللوحات تجسد شخصا أحبه يمر بموقف هش. إنها بمثابة وسيلة لحمايته. أعتقد أنني أحاول من خلال الرسم أن أخلق نعمة".

نعمة غودمان تكمن في تلك المتعة التي تحصل عليها أثناء الرسم، غير أنها تفكر أيضا في البهجة البصرية التي تحيط بمتلقي أعمالها من كل جانب.

© Catherine Goodman Courtesy the artist and Hauser & Wirth Photo: Sarah Muehlbauer
جانب من معرض "كاثرين غودمان. موسيقى صامتة"، في "غاليري هاوزر آند وورث – نيويورك، شارع 22 30 يناير – 12 أبريل 2025

فهي لم تنتقل إلى التجريد إلا بسبب حاجة داخلية تتعلق بتعميق صلتها بموضوعاتها التقليدية، لكن من جهة تشظي تلك الموضوعات بفعل القوة الكامنة في داخلها. وخلال أكثر من أربعة عقود، نجحت في تطوير لغتها البصرية التي حرصت على أن تكون وسيلتها لنقل استجاباتها لتجارب حياتية عاشتها بعمق.  

وارثة تقاليد الرسم البريطاني

درست كاثرين غودمان المولودة عام 1961 في مدرسة كامبرويل للفنون والحرف اليدوية والأكاديمية الملكية بلندن. في عام 2000، بدأت بتنظيم دروس رسم للمشردين وغيرهم من فئات المجتمع المهمشة، في محاولة للتعبير عن التزامها العدالة الاجتماعية في مجال تعليم الفنون. قادها هذا إلى المشاركة في تأسيس مدرسة الرسم الملكية مع الملك تشارلز الثالث، لمعالجة الغياب المتزايد للرسم في التعليم الفني وإتاحة وصول أوسع للطلاب المحرومين. ومنذ عام 2019، شغلت منصب أمينة الفنانين في "ناشيونال غاليري" بلندن، مما أتاح لها أن تقوم بزيارات ليلية إلى المتحف الذي يضم روائع فنية من مختلف عصور الفن الأوروبي.

غودمان حين تعدد أساليبها وهي ترسم، لا تخرج عن نطاق بحثها في تفاصيل تقاليد فنية تأخذ في بعضها منحى جماعيا

لا تخفي غودمان حقيقة أنها تمضي أوقاتا طويلة وهي تعيد رسم لوحات لفنانين أحبتهم كما يفعل طلاب الفن. وفي ذلك ما يسلط الضوء على طريقة فهمها للفن، كونه دورة حياة متصلة، لا انقطاع فيها. فهي وإن كانت في معرضها الحالي تجريدية بالكامل، فإن ذلك لا يشكل انتقالا إلى عالم جديد غير ذلك العالم الذي كانت فيه واحدة من أهم رسامي البورتريه في عصرنا.

 Catherine Goodman  © Catherine Goodman  Courtesy the artist and Hauser & Wirth  Photo: Eva Herzog

وإذا ما عرفنا أن رسم البورتريه هو ركن أساس من أركان مدرسة لندن الحديثة، وفي ذلك نستذكر لوسيان فرويد وفرنسيس بيكون وديفيد هوكني، فإن ما فعلته غودمان حين خلقت أسلوبها الخاص في رسم الصور الشخصية، يعتبر نوعا من تأكيد الانتماء إلى سلالة فنية نجحت في تدعيم بقاء التقاليد الفنية في مواجهة فن "البوب" والفنون المعاصرة الشائعة في بريطانيا. لذلك يمكن القول إن كاثرين غودمان حين تعدد أساليبها وهي ترسم، لا تخرج عن نطاق بحثها في تفاصيل تقاليد فنية تأخذ في بعضها منحى جماعيا.   

font change