بقراره ضرب المنشآت النووية الإيرانية الثلاث الرئيسة، نطنز وأصفهان وفوردو في خضم المواجهة الإيرانية-الإسرائيلية، لم يخالف الرئيس الأميركي دونالد ترمب توجهات قاعدته الشعبية ووعوده بعدم الدخول في حروب خارجية فقط، بل إنه أقدم على "خيار عسكري"، كان أسلافه الرؤساء الأميركيون يتجنبونه ويفضلون "الخيار الدبلوماسي".
السؤال الأساسي هو: كيف سيرد "المرشد" علي خامنئي؟
لنستعرض تجارب ومآلات أنظمة ودول أخرى سعت إلى امتلاك أسلحة الدمار الشامل.
التجربة العراقية. في 1981، وفي خضم الحرب الإيرانية-العراقية، قصفت إسرائيل مشروعا أقامه صدام حسين سرا لبناء برنامج نووي. وبعد تحرير الكويت من غزو صدام في 1991، توقف الدعم الأميركي للمعارضة وسمح لصدام باستعمال أسلحة تثبت تفوقه على معارضيه وتغرق ثورة مضادة. وبعد تفجيرات 11 سبتمبر/أيلول 2001، طرحت أميركا قضية أسلحة الدمار الشامل في العراق وسعي صدام لامتلاكها. وكانت أزمة "المفتشين" والادعاء الذي ثبت بطلانه لاحقا، ضمن مبررات قرار الرئيس الأميركي جورج بوش الابن في 2003 بغزو العراق وتغيير نظام صدام.
التجربة الليبية. تغيير نظام صدام بقوة السلاح، ترك صداه في طرابلس جراء التخوف من عامل الدومينو، فاستعجل الزعيم معمر القذافي، الذي كان يعاني من الحصار جراء مغامرات عدة بينها تفجير طائرة "بانام"، وأبدى استعداده للتخلي عن برنامج أسلحة الدمار الشامل في نهاية 2003. فكان التخلي عن "السلاح الشامل" مقابل بقاء نظام القذافي وسلالته. هذا ما حصل. وتمتع القذافي بعودة مؤقتة إلى الأروقة الغربية والدولية، ونشر خيمته قرب شوارع وقصور فخمة. وبعد اندلاع "الربيع العربي" في 2011، تدخل "حلف شمال الأطلسي" (الناتو) وتغير نظام القذافي، وطويت صفحة "العقيد" على أيدى معارضيه.
تخلى الأسد عن البرنامج الكيماوي في 2013. وفي نهاية 2024 تقدمت قوات المعارضة إلى دمشق وهرب الأسد. تغير النظام وتخلت الحكومة الجديدة عن جميع ما تبقى من برنامج كيماوي
النموذج السوري. في 2007، دمرت طائرات إسرائيلية برنامجا لمفاعل نووي صغير كان بشار الأسد يقيمه في ريف دير الزور شمال شرقي البلاد. وفي العام التالي، قامت وحدة كوماندوز إسرائيلية وقتلت مستشار الأسد، العميد محمد سليمان، الذي كان مسؤولا عن البرنامج النووي السري. وبعد اندلاع "الربيع العربي"، رد بشار على المظاهرات السلمية بالسلاح. ومع تمدد الأزمة، حذر الرئيس باراك أوباما من استخدام السلاح الكيماوي وقال إنه "خط أحمر" سيرد على تجاوزه بالقوة. وفي صيف 2013، استخدمت قوات الأسد، الكيماوي. وكان أوباما على وشك استعمال القوة، لكنه تراجع لصالح الحل الدبلوماسي. تلقف الرئيس فلاديمير بوتين هذه الإشارة وعمل على صفقة أميركية–روسية: تخلي الأسد عن البرنامج الكيماوي مقابل بقاء النظام السوري. وكان هناك تطابق بين برنامج التخلي عن الكيماوي وبرنامج استعادة الأسد نفوذه بغطاء روسي بعد التدخل العسكري في 2015.
حصلت تغييرات كثيرة في سوريا. وبعد هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 في غلاف غزة، وتدمير إسرائيل قدرات "حزب الله" وميليشيات إيران في سوريا وانشغال روسيا في أوكرانيا، تقدمت قوات المعارضة إلى دمشق وهرب الأسد إلى موسكو في نهاية 2024... تغير النظام السوري وتخلت الحكومة السورية الجديدة عن جميع ما تبقى من برنامج كيماوي.
كرر زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، الذي ورث "اليوم التالي" من والده كيم جونغ إيل وجده كيم إيل سونغ، التجارب النووية ووصلت قنابله إلى أكثر من 60 قنبلة مع صواريخ حاملة لها
كوريا الشمالية. في مارس/آذار 1994، قالت واشنطن إنها لن تسمح لبيونغ يانغ بتطوير أسلحة نووية. وفي مايو/أيار 1994، صعّدت كوريا الشمالية نوويا، وأعلنت انسحابها من معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية.
تراجع الرئيس بيل كلينتون عن الخيار العسكري وقبِل بالخيار الدبلوماسي. وفي 21 أكتوبر 1994، وقّع مع كوريا الشمالية اتفاقا تعهدت فيه واشنطن وطوكيو وسيول بتزويد بيونغ يانغ بمفاعلين نوويين مقابل موافقة بيونغ يانغ على فتح منشآتها النووية أمام المفتشين الدوليين ورفع العقوبات وحصولها على وقود ثقيل لتوفير الطاقة.
في 2002 قالت أميركا إن كوريا الشمالية تعمل على إنتاج أسلحة نووية خلافا لاتفاق 1994. أوقفت واشنطن تصدير شحنات الوقود لها. وردّت بيونغ يانغ بأن تخلت عن الاتفاق وانسحبت من "المعاهدة النووية" الدولية. وفي 2005، أقرت بامتلاكها لبرنامج السلاح النووي. وفي 9 أكتوبر 2006 أعلنت نجاح أولى تجاربها النووية. ومذّاك كرر زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، الذي ورث "اليوم التالي" من والده كيم جونغ إيل وجده كيم إيل سونغ، التجارب النووية ووصلت قنابله إلى أكثر من 60 قنبلة مع صواريخ حاملة لها.
أمام خامنئي تجارب العراق وليبيا وسوريا وكوريا الشمالية، وهي تعطي فكرة لما يمكن أن تكون عليه مآلات إيران بين التسوية والتصعيد والنفس الطويل
السيناريو الإيراني. بعد مفاوضات لسنتين وقّعت إدارة أوباما وحلفاؤها الأوروبيون اتفاقا مع طهران في 2015 تضمن ضبط البرنامج النووي بعيدا عن العسكرة مقابل رفع العقوبات. الاتفاق أغضب نتنياهو ودولا عربية، لأنه لم يتضمن الدور الإقليمي الإيراني المزعزع لاستقرار المنطقة، ولا برنامج الصواريخ الباليستية. في 2018 انسحب ترمب من الاتفاق وفرض عقوبات "الحد الأقصى". ردت إيران برفع تخصيب اليورانيوم من 3.7 إلى 60 في المئة لتقترب من نسبة الـ90 في المئة الضرورية لإنتاج القنبلة.
بعد عودة ترمب للبيت الأبيض، أعطى خامنئي الذي فقد وكلاءه في "محور الممانعة" وتحديدا نظام الأسد و"حزب الله"، مهلة 60 يوما: "اتفاق نووي أو ضربة عسكرية". بمجرد انتهاء المهلة في 13 يونيو/حزيران 2025، بدأت إسرائيل غاراتها على إيران التي ردت بمسيّرات وصواريخ باليستية. وفي خضم المواجهة أعطى ترمب الأمر لقواته بضرب المنشآت الإيرانية، داعيا خامنئي إلى "حل دبلوماسي" أو مواجهة المزيد من التصعيد.
أمام خامنئي، تجارب العراق وليبيا وسوريا وكوريا الشمالية وهي تعطي فكرة لما يمكن أن تكون عليه مآلات "المسألة الإيرانية". من جهة استمرار الضربات العسكرية بين تل أبيب وطهران واستهداف إيران لمصالح أميركية بالمنطقة والدخول في "حرب استنزاف" وسعي إسرائيل لـ"تغيير النظام"، ومن جهة أخرى صفقة تفاهم تتضمن مقايضة بقاء النظام والتخلي عن الطموحات النووية، ومن جهة ثالثة قرار إيراني بالانسحاب من المعاهدات الدولية النووية والإفادة مما تبقى من خبرائها للعمل على استعادة برنامجها خلال السنوات المقبلة، خصوصا أن خامنئي نقل قسما من صلاحياته إلى "الحرس الثوري"... فأي طريق ستسلك إيران والمنطقة؟