من يملك قرار الحرب دستوريا… مقارنة بين إيران وإسرائيل

ما مدى دستورية قرار الحرب في البلدين؟

رويترز
رويترز
إيرانيون يسيرون بجوار جدارية تحمل صورتي المرشد الأعلى علي خامنئي في طهران

من يملك قرار الحرب دستوريا… مقارنة بين إيران وإسرائيل

تُعدّ قرارات الحرب والرد العسكري من أخطر وأهم القرارات التي تتخذها الدول، حيث تتطلب توازنا دقيقا بين سلطات الدولة ومؤسساتها الدستورية، وتختلف حساسية هذه القرارات وفقا لطبيعة النظام السياسي للدولة، فتزداد هذه الإشكالية تعقيدا في الأنظمة الدستورية للدول ذات الطبيعة الخاصة أو غير التقليدية مثل إيران وإسرائيل، حيث تتداخل الأبعاد العقائدية مع الاعتبارات الأمنية في لحظة اتخاذ قرار الحرب أو الرد العسكري.

تؤثر تلك الأبعاد بشكل مباشر على كيفية اتخاذ هذه القرارات المصيرية، وتُثير عدة تساؤلات جوهرية مثل: كيف تتوزع السلطات الدستورية لاتخاذ قرار الحرب في كلتا الدولتين؟ ومدى دستورية تلك القرارات، ومن يملك فعليا سلطة إطلاق العمليات العسكرية في ظل كل نظام؟ ما هي الأُطر الدستورية والقانونية لإدارة النزاعات العسكرية في كلا النظامين؟ وهل توجد وسائل أو آليات لرقابة هذه القرارات ومراجعتها دستوريا سواء سياسيا أو قضائيا؟ ومدى فاعلية هذه الوسائل والآليات.

ويقصد بسلطات الحرب مجموعة الصلاحيات الدستورية التي تُمنح لسلطات الدولة، لمواجهة الظروف الاستثنائية التي تهدد أمن الدولة وسلامتها، كالحروب الخارجية أو الاضطرابات الداخلية الخطيرة. وتُنظم هذه السلطات عادة في الأحكام الدستورية المتعلقة بحالة الطوارئ أو الأحكام العرفية، بهدف تمكين الدولة من اتخاذ تدابير فورية وفعّالة لحماية النظام العام وسيادة الإقليم. وتتسم هذه السلطات بطبيعتها المؤقتة، حيث تُفعّل في ظروف محددة وتُلغى بزوالها.

وعادة ما تخضع سلطات الحرب لضوابط صارمة لضمان عدم تحوّلها إلى أداة للاستبداد، مثل: تحديد الدستور للجهة المخوّلة بإعلان حالة الحرب أو الطوارئ، كالبرلمان أو رئيس الدولة بموافقته، واشتراط الإعلان العلني لهذه الحالة، تحديد مدة زمنية لتفعيل هذه السلطات، مع إمكانية تمديدها بموافقة السلطة التشريعية، وضرورة تناسب الإجراءات المتخذة مع طبيعة الخطر، وعدم المساس بالحقوق غير القابلة للتعطيل، كالحق في الحياة، بما مؤداه أن سلطات الحرب هي آلية دستورية حيوية لمواجهة الأزمات، لكنها تتطلب توازنا دقيقا بين متطلبات الأمن الوطني وحماية الحقوق والحريات الفردية، مع التزام الدولة بمبادئ الشرعية والرقابة القضائية لمنع التجاوزات.

الإطار الدستوري لاتخاذ قرار الحرب في إيران

الهيكل الدستوري للنظام السياسي الإيراني: بعد قيام ونجاح الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، انتقلت إيران من النظام الملكي إلى نظام جمهوري متفرد تماما، لا يشبه أي نظام سياسي معاصر على الإطلاق، فيتميز ذلك النظام بشدة التعقيد وبأنه نظام ثيوقراطي (Theocratic)، أي حكم رجال الدين. وقد تم وضع قواعد وأركان هذا النظام في الدستور الإيراني الحالي الصادر عام 1979 والمعدل عام 1989، نتناول بإيجاز أهم أركانه:

1) المرشد الأعلى للثورة: ووفقا لأحكام الدستور يتربع على هرم السلطة، وهو رأس الدولة، وتنص المادة 110 منه على صلاحياته الدستورية التي تكاد تكون مطلقة ومنها: إعلان الحرب والسلام والنفير العام (التعبئة العامة)، القيادة العامة للقوات المسلحة، حل الاختلافات بين أفرع القوات المسلحة الثلاثة وتنظيم العلاقات بينها، التصديق على قرار تعيين رئيس الجمهورية بعد انتخابه من قبل الشعب، عزل رئيس الجمهورية بعد استيفاء الشروط الدستورية لذلك، وأخيرا تنصيب وعزل وقبول استقالة كل من: أ) الفقهاء أعضاء مجلس صيانة الدستور. ب) رئيس السلطة القضائية. ج) رئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون. د) رئيس أركان القيادة المشتركة للقوات المسلحة. هـ) القيادات العليا للقوات المسلحة. و) القائد العام لقوات حرس الثورة الإسلامية.

2) رئيس الجمهورية: ويعتبر أعلى سلطة رسمية في البلاد بعد منصب المرشد الأعلى. وهو المسؤول عن تنفيذ الدستور وتعيين الوزراء، وهو رئيس السلطة التنفيذية، إلا في المجالات التي ترتبط مباشرة بمهام المرشد الأعلى.

3) السلطة القضائية: ويُعين رئيسها من قبل المرشد الأعلى مباشرة، ومن اختصاصاته، تعيين القضاة، وعزلهم بعد استيفاء الشروط الدستورية لذلك.

4) السلطة التشريعية: وتتكون من مجلسين، مجلس الشورى الإسلامي (الغرفة البرلمانية الأدنى، مجلس النواب)، ومن اختصاصاته تشريع القوانين، واقتراح عزل رئيس الجمهورية. ومجلس خبراء القيادة (الغرفة البرلمانية الأعلى، مجلس الشيوخ)، ومن صلاحياته انتخاب المرشد الأعلى أو إعفاؤه من منصبه بعد استيفاء الشروط الدستورية.

5) مجلس صيانة الدستور: وهو مجلس يشبه في اختصاصاته إلى حد ما المجلس الدستوري الفرنسي، أي إنه يمارس الرقابة السابقة على دستورية القوانين، بمعنى عدم جواز إصدار قوانين من مجلس الشورى الإسلامي دون موافقة ذلك المجلس، يُعين نصف أعضائه المرشد الأعلى، ويُعين النصف الآخر رئيس السلطة القضائية.

6) مجلس تشخيص مصلحة النظام: وهو هيئة استشارية وتختص بحل الخلافات بين مجلس الشورى الإسلامي ومجلس صيانة الدستور وتقديم النصح للمرشد الأعلى، ويعين أعضاءه المرشد الأعلى.

7) المجلس الأعلى للأمن القومي: ويتكون من كبار القيادات العسكرية والسياسية والقضائية برئاسة رئيس الجمهورية، وقراراته ملزمة في حالة تصديق المرشد الأعلى للثورة عليها، ويعين المرشد أغلب أعضائه، ويختص بتحديد سياسات الدفاع والأمن القومي للبلاد، وتنسيق الأنشطة السياسية والمخابراتية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية المتعلقة بالسياسات العامة للدفاع والأمن القومي، واستغلال الموارد المادية والفكرية للبلاد لمواجهة التهديدات الداخلية والخارجية.

آليات صنع القرار العسكري دستوريا في النظام الإيراني

1) دور المرشد الأعلى في اتخاذ قرار الحرب: يُعد المرشد الأعلى هو القائد الأعلى للقوات المسلحة في إيران، وتصدر قرارات الحرب أو الرد العسكري إما بتوجيه مباشر منه، أو عبر المجلس الأعلى للأمن القومي الذي يترأسه فعليا من خلال سيطرته على تركيبته المؤسسية، خاصة وأن أعضاءه يُعيَّنون من قبله أو يخضعون لإشرافه. وفي العديد من المناسبات، مثل الرد على اغتيال قاسم سليماني في يناير/كانون الثاني 2020 بإطلاق 12 صاروخا باليستيا الذي استهدفت عدة قواعد أميركية في العراق، تم اتخاذ قرار الرد العسكري دون تصويت برلماني، وبتوجيه مباشر من المرشد، مما يكرّس الطابع الشخصي لمركز القرار العسكري.

يُعد المرشد الأعلى هو القائد الأعلى للقوات المسلحة في إيران، وتصدر قرارات الحرب أو الرد العسكري إما بتوجيه مباشر منه، أو عبر المجلس الأعلى للأمن القومي الذي يترأسه فعليا من خلال سيطرته على تركيبته المؤسسية

2) دور الحرس الثوري الإيراني: يُمثل الحرس الثوري الإيراني قوة عسكرية وسياسية واقتصادية موازية للقوات المسلحة النظامية للجيش الإيراني، ففي حين تقوم القوات المسلحة النظامية بالدفاع عن الحدود الإيرانية وحفظ النظام الداخلي وفقا للدستور الإيراني، يقوم "الحرس الثوري" بحماية نظام الجمهورية الإسلامية في الداخل والخارج، ومنع التدخل الأجنبي أو الانقلابات العسكرية أو الحركات المنحرفة والمتطرفة، لهذا يتمتع باستقلال عملياتي ومالي نسبي عن وزارة الدفاع، كما أن قائده يُعيَّن مباشرة من قبل المرشد الأعلى، وليس من رئيس الجمهورية، وقد قام بعمليات مباشرة في العراق وسوريا واليمن دون الرجوع إلى الحكومة أو مجلس الشورى، بما في ذلك استهداف قواعد أميركية أو إسرائيلية، استنادا لما يمكن تسميته "بحق المبادرة العسكرية"، طالما كان ذلك ينسجم مع توجهات المرشد، وهو ما يضعف مبدأ خضوع قوة الدولة المسلحة للدستور والقانون.

رويترز
المرشد الايراني علي خامنئي ورئيس الجمهورية مسعود بزشكيان اثناء اجتماع في طهران في 8 مارس

غياب الرقابة البرلمانية والقضائية الفعلية: رغم أن مجلس الشورى الإسلامي يُعد المؤسسة التشريعية المنتخبة في إيران، فإنه لا يملك صلاحيات حقيقية في مسائل الحرب والسلم، ولا توجد نصوص دستورية تلزمه بالموافقة على إعلان الحرب، بعكس ما هو موجود في أغلب الأنظمة البرلمانية. إضافة إلى ذلك، فالسلطة القضائية الإيرانية، خاضعة هي الأخرى للمرشد من خلال تعيين رئيسها، ولا تؤدي دورا في الرقابة على القرارات السيادية المتعلقة باستخدام القوة العسكرية، ما يُفضي إلى تركيز القرار العسكري فعليا في يد المرشد الأعلى.

رغم أن مجلس الشورى الإسلامي يُعد المؤسسة التشريعية المنتخبة في إيران، إلا أنه لا يملك صلاحيات حقيقية في مسائل الحرب والسلم، ولا توجد نصوص دستورية تلزمه بالموافقة على إعلان الحرب، بعكس ما هو موجود في أغلب الأنظمة البرلمانية

الإطار الدستوري لاتخاذ قرار الحرب في إسرائيل

بنيان القانون الدستوري في إسرائيل: يعتمد النظام الدستوري في إسرائيل على عدم وجود دستور موحد مدون في وثيقة واحدة، تأثرا بالنظام الدستوري البريطاني، ومن ثم يتكون القانون الدستوري الإسرائيلي من: أولا: وثيقة إعلان قيام الدولة (وتتم تسميتها في إسرائيل بوثيقة إعلان الاستقلال) الصادرة بتاريخ 14 مايو/أيار 1948، ثانيا: مجموعة من القوانين الأساسية وهي: 1) مرسوم "قوات (الاحتلال) الدفاع الإسرائيلية (Israeli Defense Forces Ordinance) الصادر في 28 مايو 1948، والذي تم إبداله بقانون المؤسسة العسكرية 1976، 2) قانون عودة يهود الشتات 1950، 3) قانون رئيس الدولة 1951، 4) قانون القضاة 1953، 5) قانون الكنيست 1958، 6) قانون أراضي إسرائيل 1960، 7) قانون الحكومة 1968، وتعديلاته 1992، و2001، 8) قانون اقتصاد الدولة 1975، 9) قانون القدس عاصمة إسرائيل 1980، 10) قانون القضاء 1984، 11) قانون مراقب الدولة 1988، 12) قانون كرامة الإنسان وحريته 1992 13) قانون حرية المهنة 1994، 14) قانون الاستفتاء 2014، 15) قانون الدولة القومية 2018، ثالثا: بالإضافة إلى الأعراف الدستورية، والمبادئ القضائية من المحكمة العليا.

آليات صنع القرار العسكري دستوريا في إسرائيل

1) منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة: في السياق الدستوري، وعلى العكس من أغلب دول العالم، لا يوجد في إسرائيل منصب "القائد الأعلى للقوات المسلحة (Commander in Chief)" بمعناه التقليدي مثل رئيس الدولة أو رئيس الوزراء كما في دول أخرى، إذ إنه بموجب القانون الأساسي للمؤسسة العسكرية 1976 يتولى هذا الدور عمليا "رئيس هيئة الأركان العامة للجيش"، والذي يخضع لرئاسة وزير الدفاع تحت إشراف الحكومة، والتي تُمنح سلطات تنفيذية واسعة لاتخاذ قرارات الحرب والسلام. ومع ذلك، يتطلب هذا القرار تفاعلا بين السلطات التنفيذية والتشريعية، مع أدوار محددة لكل من رئيس الوزراء، والحكومة، والكنيست، بناء على تقديرها للضرورة الأمنية.

رويترز
جلسة للكنيست الاسرائيلي

2) دور رئيس الوزراء: يلعب رئيس الوزراء، كرئيس للحكومة، دورا مركزيا في هذه العملية، حيث يترأس مجلس وزراء الأمن السياسي الإسرائيلي (State Security Cabinet) أو اللجنة الوزارية للشؤون الأمنية، وهو مجلس مصغر داخل مجلس الوزراء يختص بوضع الخطوط العريضة لسياسات الخارجية والدفاع وتنفيذها في أوقات الأزمات والحروب بحيث يعمل على اتخاذ قرارات سريعة وفعالة.

على الرغم من السلطة التنفيذية الواسعة للحكومة، فإن القوانين الأساسية تُلزمها بإبلاغ الكنيست (البرلمان) بأي قرار بإعلان الحرب أو عملية عسكرية كبيرة في أقرب فرصة ممكنة، وعادة ما يتم ذلك عبر لجنة الشؤون الخارجية والأمن في الكنيست. ومع ذلك، لا يُشترط موافقة الكنيست المسبقة في حالات الطوارئ

3) دور الكنيست: على الرغم من السلطة التنفيذية الواسعة للحكومة، فإن القوانين الأساسية تُلزمها بإبلاغ الكنيست (البرلمان) بأي قرار بإعلان الحرب أو عملية عسكرية كبيرة في أقرب فرصة ممكنة، وعادة ما يتم ذلك عبر لجنة الشؤون الخارجية والأمن في الكنيست. ومع ذلك، لا يُشترط موافقة الكنيست المسبقة في حالات الطوارئ، مما يمنح الحكومة مرونة كبيرة في التصرف السريع استجابة للتهديدات الأمنية. وفي الممارسة العملية، تُظهر التجربة الإسرائيلية أن قرارات الحرب غالبا ما تُتخذ في ظل ظروف طارئة، مما يقلل من دور الكنيست في المرحلة الأولية، لكنه يبقى جهة رقابية من خلال جلسات الاستماع والمناقشات اللاحقة.

دور المحكمة العليا الإسرائيلية بين النظرية المثالية والواقع العملي

نظريا، تلعب المحكمة العليا الإسرائيلية (بهيئة محكمة العدل العليا، أحد أطوار اختصاصات المحكمة، تعادل القضاء الإداري ومجلس الدولة في فرنسا والدول المتأثرة بالنظام الفرنسي)، دورا في رقابة مشروعية قرارات السلطة التنفيذية، ومنها القرارات العسكرية بطبيعة الحال، فقد أرست المحكمة عدة مبادئ قضائية بشأن ضرورة إخضاع قرارات الحرب والعمليات العسكرية للرقابة القضائية، إلا أن عمليا، فالواقع ليس بهذه الصورة الوردية، إذ إن الجيش  الإسرائيلي لا يكترث ولا يعبأ بمثل هذه الأحكام أو المبادئ في عملياته العسكرية ضد الشعب الفلسطيني، بل إن أحكام المحكمة العليا نفسها تتسم بالتناقض في كثير من الأحيان، فعلى سبيل المثال جرى قضاء المحكمة على اعتبار أن وثيقة إعلان الدولة  لا تُعتبر جزءا من النسيج الدستوري، وذلك حتى لا تقيد نفسها بما ورد في هذه الوثيقة من حقوق وحريات مثل المساواة أمام القانون بغض النظر عن الدين أو الجنس أو العرق، قد يستفيد منها أحد المتقاضين الفلسطينيين أو تضطر المحكمة معها للاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، وأن الوثيقة لا تعدو أن تكون مجرد توجيهات أو توصيات غير ملزمة للمشرع الإسرائيلي.

font change