بانو مشتاق التي أوصلت صوت المرأة الكنادية إلى العالمية

بعد فوز مجموعتها القصصية "مصباح القلب" بجائزة "بوكر"

Wiktor Szymanowicz/Anadolu via Getty Images
Wiktor Szymanowicz/Anadolu via Getty Images
الكاتبة بانو مشتاق، الفائزة بجائزة البوكر الدولية 2025، تحمل الجائزة خلال الحفل في متحف "تيت مودرن" بلندن، 20 أيار 2025

بانو مشتاق التي أوصلت صوت المرأة الكنادية إلى العالمية

نالت الكاتبة الهندية والناشطة في مجال حقوق المرأة بانو مشتاق، في مايو/أيار الماضي، جائزة "بوكر" الأدبية الدولية، وهي جائزة أدبية تمنح لكتاب الرواية والقصة، عن مجموعتها القصصية المترجمة إلى الإنكليزية التي تحمل عنوان "مصباح القلب" Heart Lamp التي كتبت باللغة الكنادية التي يتحدث بها نحو 65 مليون شخص في جنوب الهند، وقامت بترجمتها من الكانادا إلى الإنكليزية ديبا بهاستي. وهذا أول كتاب باللغة الكنادية يحصل على هذه الجائزة الدولية الكبيرة.

صوت أدبي وإنساني نادر

تناولت بانو في مجموعتها القصصية الـ 12 المثيرة التي كتبت بين عامي 1990 و2023، جوانب من واقع المرأة، ومقاومة الظلم الطبقي والديني. قصص تتسم بالجرأة والتحدي، وتحمل صوتا قويا لمن هم على هامش المجتمع. وتعكس تلك القصص الخلفية الصحافية والقانونية للمؤلفة، وتقدم بانو، البالغة من العمر 77 عاما، في عملها الفائز هذا، صورا سردية خاصة عن النساء المسلمات، وتتحدث عن القيود الاجتماعية المفروضة عليهن، في مناطق هامشية في الجنوب الهندي. حيث التوترات الأسرية والمجتمعية، وصراع تلك النسوة للخروج من ذلك الواقع. ويطغى على أسلوبها سرد واقعي مليء بالمفارقة والسخرية. وبذلك نقلت احتجاجات المرأة المسلمة في جنوب الهند إلى العالم.

وتقول الكاتبة الهندية باللغة المالايالامية ماينا أميبان لـ"المجلة"، إن بانو مشتاق "لم تغرق في الخطابة، بل صاغت كل ذلك في أسلوب يمزج بين السخرية اللاذعة والسرد المقاوم، لتكون كل قصة من قصصها فعلا من أفعال المقاومة".

وكانت مترجمة الكتاب اختارت قصص المجموعة الفائزة بعناية من بين خمسين قصة كتبتها مشتاق على مدى ثلاثة عقود، ثم ترجمتها إلى الإنكليزية، وقد نالت المؤلفة الجائزة مناصفة مع المترجمة، ووصف رئيس لجنة التحكيم الكاتب ماكس بورتر الترجمة التي أنجزتها ديبا بهاستي، الصحافية والكاتبة من جنوب الهند، بأنها "ترجمة راديكالية"، و"احتفاء بالعبور بين اللغات"، و"نص متعدد الطبقات" يبرز فيه الطابع الكانادي (نسبة للغة الكانادا التي تكتب بها) بوضوح تام، وبأنها "جذرية ومبتكرة تحدث اضطرابا في اللغة وتخلق نسيجا جديدا لتعددية الإنكليزية".

وبذلك أصبحت مشتاق لحظة فارقة في تاريخ الأدب الهندي، بالرغم من تعرض الكتاب إلى رقابة صارمة من قبل السلطات المحافظة في الهند.

لم تغرق في الخطابة، بل صاغت كل ذلك في أسلوب يمزج بين السخرية اللاذعة والسرد المقاوم، لتكون كل قصة من قصصها فعلا من أفعال المقاومة

ماينا أميبان

وبدوره، يقول البروفسور الهندي عبد الغفور الهدوي، أستاذ مساعد في قسم اللغة العربية بجامعة كيرالا في جنوب الهند، لـ"المجلة" إن الكاتبة بانو مشتاق "صوت أدبي وإنساني نادر، نحتت مسيرتها بالكلمات والدموع والتمرد". ويضيف أن فوزها بجائزة البوكر الأدبية المرموقة "لا يمثل مجرد إنجاز شخصي، بل هو منعطف حاسم في تاريخ الأدب الهندي والعالمي".

الطريق الصعب إلى الكتابة

وبالرغم من أن بانو اشتهرت عالميا بعد فوزها بالجائزة، إلا أن بدايتها كانت متواضعة، إذ تنتمي إلى عائلة مسلمة، تلقت تعليمها بلغة الكانادا، لا بالأوردية، اللغة الثقافية التقليدية لمسلمي الهند. ولدت عام 1948، في قرية صغيرة في مدينة حسن بولاية كارناتاكا في جنوب الهند، ولم تكن تملك منذ صباها سوى الرغبة في الكتابة، دون أن تعرف الطريق إليها. تنوعت أدوارها في الحياة، فهي كاتبة ومحامية وناشطة وصحافية وسياسية. حاصلة على درجتي البكالوريوس في العلوم والليسانس في الحقوق. وحول تأثير مهنة المحاماة والعمل الصحافي في كتابات مشتاق وتجربتها الإبداعية، تبين ماينا أميبان في حديثها لـ"المجلة": "أضفى عليها ذلك عمقا وصدقا لافتا. تناولت بجرأة موضوعات شائكة مثل العنف الأسري، وعدم المساواة الجندرية، وجمود الخطاب الديني"، وفي علاقتها بمواضيع قصصها، نشير إلى أنها بدأت رحلتها الأدبية متحدية التقاليد التي غالبا ما تسجن النساء داخل أطر محددة. وكانت بانو بدأت مشوارها الأدبي ضمن الأوساط الأدبية الاحتجاجية التقدمية في جنوب غرب الهند، لا سيما في إطار حركة "باندايا ساهيتيا" الأدبية التي كانت تنتقد النظام الطبقي والاجتماعي السائد، وساهمت في بروز كتاب مؤثرين من المسلمين والداليت (يعرف الداليت أيضا باسم "المنبوذين")، وكانت مشتاق، من بين قلة من النساء الكاتبات في هذا السياق، حيث كتبت أول قصة لها "هل أنا المذنبة؟" عام 1973. نشرت بانو مشتاق ست مجموعات قصصية، ورواية، ومجموعة مقالات، وديوان شعر. نشرت في مجلات كبرى مثل "براجافاني" و"كارمافيرا". حيث ظهرت في أعداد خاصة وملاحق الأعياد كـ"ديوالي" و"أوغادي"، لكن لم يتجرأ أي ناشر على جمعها في كتاب، حتى عام 1990، حين نشر "ناغبوشان" مجموعتها الأولى، وقد نالت جوائز أدبية مرموقة تقديرا لإبداعها، من بينها جائزة أكاديمية كارناتاكا للأدب وجائزة "دانا شنتامني أتيمابي".

Wiktor Szymanowicz/Anadolu via Getty Images
الفائزتان بجائزة البوكر الدولية 2025، بانو مشتاق (وسط) والمترجمة ديبا بهاشتي، تلتقطان صورة مع الجائزة خلال الحفل في متحف "تيت مودرن" بلندن، 20 أيار 2025

ومن بين أعمالها السابقة المهمة، مجموعة "حسينة وقصص أخرى"، التي تضم خمسين قصة تتناول حياة النساء المسلمات والداليت في جنوب الهند، وقد حولت إحدى قصصها إلى فيلم سينمائي نال جوائز رفيعة. ومن أبرز أعمالها: "الطريق الذي طمسته الخطى" (1990)، و"مطر النار" (1999)، و"حرقة القلب" (2004)، و"سفيرة" (2006)، و"حسينة وقصص أخرى" (2015)، و"المرأة وحدود الاختيار" (2022).

صوت الاحتجاج

تقول بانو مشتاق في إحدى مقابلاتها: "بدأت أتعلم عن الهياكل الاجتماعية والدستور وحقوق المهمشين وحركة الفلاحين والنضال البيئي والمسرح الشعبي"، وهو ما غرس فيها الإحساس بالكتابة كفعل مقاومة.

ويصف عبد الغفور الهدوي، الكاتبة مشتاق: "منذ بداياتها المتواضعة في قرية صغيرة بولاية كارناتاكا في جنوب الهند، عايشت مشتاق عن كثب أشكال الظلم والقمع في المجتمع، فكتبت عن المهمشين، خصوصا النساء المسلمات، و'الداليت' بجرأة نادرة وصدق موجع".

عايشت مشتاق عن كثب أشكال الظلم والقمع في المجتمع، فكتبت عن المهمشين، خصوصا النساء المسلمات، والداليت بجرأة نادرة وصدق موجع

عبد الغفور الهدوي

بانو مشتاق، هي ثاني كاتبة كنادية يعترف بها في محفل جائزة "بوكر" بعد الكاتب الهندي يو. آر. أنانثامورثي عام 2013. وقد وصفت لجنة الجائزة أسلوبها بأنه "ذكي، حي، مؤثر، ولا يخلو من النقد اللاذع، يبني طبقات شعورية مربكة من خلال أسلوب محكي غني".

ومن جهتها، تقول ماينا أميبان: "ها هي جارتنا الكاتبة بانو مشتاق، تصبح اليوم فخرا للغات الدرافيدية جمعاء، وتحديدا للغة الكنادية التي تكتب بها، وقد بات العالم ينصت إلى صوتها بإعجاب ودهشة".

نساء في دوائر التهميش

كانت مشتاق في بداية حياتها الزوجية تعاني من الاكتئاب والخلافات الزوجية، ولم تكن حياة بانو الخاصة أقل قسوة من أبطال قصصها، حتى أنها حاولت الانتحار في أواخر العشرين من عمرها عندما كانت تعيش وسط عائلة كبيرة، حيث سكبت البنزين الأبيض على جسدها بنية إشعال النار بنفسها. واسترجعت بانو هذه اللحظة قائلة: "لكن زوجي لاحظ ذلك، وضمني إليه، وسحب علبة الكبريت، ووضع طفلتنا، ذات الثلاث سنوات، عند قدمي قائلا: "لا تتركينا". وتؤكد: "شعرت وقتها أنني كنت على وشك ارتكاب جريمة بحق نفسي وعائلتي".

Aishwarya KUMAR / AFP
صورة بتاريخ 31 أيار 2025 تُظهر المحامية والناشطة الهندية بانو مشتاق، الفائزة بجائزة البوكر الدولية، مع كتابها "مصباح القلب" في منزلها بولاية كارناتاكا الهندية

من هنا بدأت بانو مشتاق مرة أخرى بداية جديدة حيث أدركت أن عالمها الصغير ونساء محيطها الاجتماعي جدير بالكتابة، حيث لم يجرؤ أحد من كتاب الهند، إلى مناقشة وضع المسلمين بشكل جاد، حتى أن الكتاب المسلمين أنفسهم لم يتجرؤوا على الحديث عن جذورهم الإسلامية في شبه القارة الهندية. ومن هنا بدأت مشتاق، بالكتابة بشكل أعمق ضمن حركة "باندايا ساهيتيا" أو (أدب التمرد)، التي جمعت كتّابا من الداليت والمسلمين الذين عملوا على تشكيل الأدب الكنادي من الداخل. وكانت بانو من النساء القلاقل اللواتي رفعن أصواتهن في تلك الساحة الاحتجاجية. تكتب بانو عن القهر اليومي، عن التسلط الذكوري، عن النساء المكبلات بالقمع. تصوغ حكاياتها بلغة شعرية، دون أن تتخلى عن الشجاعة في مواجهة البنى الاجتماعية التي تقيد النساء - وخاصة المسلمات والداليت - في دوائر التهميش. قصصها، رغم بساطة سردها، تضيء زوايا قاتمة من واقع نساء مهمشات، في مجتمع يغلب عليه الطابع الذكوري الأبوي، وتسائل بصوت واضح مفاهيم الحرية والاختيار والسعادة. شخصيات بانو ليست ذات طابع مكاني خاص ببلد بعينه أو مجتمع بذاته، وبذلك تنطبق على كل زمان ومكان.

وعن طبيعة كتابات بانو مشتاق، تبين الكاتبة الهندية، أميبان في حديثها لـ"المجلة" أن مشتاق "تستلهم كتابتها من واقع نساء جنوب الهند، وخاصة من يعشن في الهامش المزدوج للانتماء إلى الأقلية المسلمة". وتضيف أميبان "تنسج بانو مشتاق قصصها من خيوط التجربة اليومية، لتسلط الضوء على صراعات المرأة في مواجهة سلطة الدين والمجتمع والسياسة، وتكشف كيف تتحول الطاعة المفروضة إلى قسوة مجردة من الإنسانية".

وقالت بانو مشتاق في مقابلة أجريت معها لمناسبة فوزها بالجائزة: "قصصي تدور حول النساء – كيف أن الدين والمجتمع والسياسة تفرض عليهن طاعة عمياء، وتمارس في حقهن قسوة لا إنسانية. إن معاناة هؤلاء النساء وآلامهن وعجزهن تترك في نفسي أثرا عميقا، يدفعني للكتابة".

كما كتبت كثيرا كيف يساء تصوير المسلمين في الإعلام. وكانت جرأتها في تناول قضايا سياسية واجتماعية مهمة وحساسة في نظر المحافظين من المسؤولين الهنود، جعلها عرضة للاعتداءات وحتى التصفية الجسدية حيث تعرضت عام 2000، لمحاولة اغتيال، من داخل مجتمعها بعد دعوتها إلى السماح للنساء المسلمات بدخول المساجد، وهو موقف لا يزال يثير الجدل حتى اليوم.

Eamonn M. McCormack/Getty Images
الكاتبة بانو مشتاق والمترجمة ديبا بهاشتي خلال فعالية قراءات القائمة القصيرة لجائزة البوكر الدولية في مركز ساوث بانك بلندن، 18 أيار 2025

نسيج مذهل

إن حياة بانو مشتاق وعملها، كمدافعة، وناشطة، وكاتبة، عبارة عن نسيج مذهل من الإنجازات. إذ أمضت حياتها في التحديق داخل بيوت النساء المسلمات في جنوب الهند، حيث الأزواج المهزوزون الذين يعودون من أعمالهم غاضبين، والنساء يتعرضن للضرب، والأطفال يتشاجرون على الطعام. هذه المشاهد شكلت نسيج قصص مجموعة "مصباح القلب" القصصية. وأشار البروفسور الهدوي إلى أن "مجموعة "مصباح القلب"، التي نالت بها هذا التتويج الأدبي العالمي "ليست سردا اجتماعيا فحسب، بل هي مرآة عميقة للطبقات الخفية من الألم والرجاء، في مجتمعات تخفي آلامها خلف واجهات دينية وثقافية صلبة".

قصصها ليست حكايات خيالية تقرأ للاستمتاع فقط، بل هي تجارب معجونة بالدم والدموع، محفورة في الوجدان، نقرأها فنخرج منها أكثر إنسانية

وقد اختيرت القصص من إرث بانو الأدبي الواسع. وتبرز منها بشكل خاص قصة "الأفاعي السوداء" التي ترصد أما فقيرة تدعى عائشة تلجأ إلى "المتولي" — وهو نوع من القيم الديني والقروي — طالبة المساعدة من أجل تأمين طعام ودواء لأطفالها المرضى. فقد تخلى عنها زوجها فجأة، وتزوج من شابة أخرى لينشئ معها حياة جديدة. وكان المتولي، المتواطئ مع الزوج الغائب، لا يكترث لشكواها، ولا لطلب النفقة الذي أعدته بشق الأنفس. فتجلس عائشة أمام المسجد مع أطفالها، تطالب بالانتباه في مشهد مؤلم. تتعرض للشتائم والضرب، لكنها تحتفظ بنظرة متسامحة نحو زوجها، وتفكر: "الماضي لا ينهض ليرقص أمام الناس. الحاضر لا يمسه. المستقبل لا يحركه، ولا يحمله أي غموض". وينتهي مصير عائشة مثل العديد من النساء في "مصباح القلب": قسوة متعمدة ولا مبالاة مجتمعية ومؤسسية.

ومع ذلك، وبينما تتلاشى عائشة وأطفالها في خلفية المشهد، تتجمع نساء القرية حول المتولي مثل الأفاعي، في تمرد خفي على طقوس الطاعة المفروضة عليهن. وعندما يمر المتولي في الطريق، تقذفه امرأة بحجر مدعية وجود كلب، قائلة: "كلب، مجرد كلب!"، وتصرخ أخرى من بعيد: "لن يأتيك خير... لعل الأفاعي السوداء تلتف حولك!" — راضية بلعناتها التي هبطت كـ"الديناميت". النساء كثيرات، ولا يمكن معاقبتهن، ولم يرتكبن خطأ صريحا. إنها انتصارات صغيرة، لكنها تؤلم المتولي. وتلخص "الأفاعي السوداء" ببراعة موضوعات مشتاق: قسوة الرجال، ظلم البنية القروية التقليدية، وغضب النساء حين يتوحدن. ويؤكد البروفسور الهدوي في حديثه لـ" المجلة" أن بانو "تكتب لا لتزين الواقع، بل لتخدشه، ولتوقظ الضمائر من سباتها. فقصصها ليست حكايات خيالية تقرأ للاستمتاع فقط، بل هي تجارب معجونة بالدم والدموع، محفورة في الوجدان، نقرأها فنخرج منها أكثر إنسانية، وربما أشد شجاعة".

وتعلق الكاتبة الهندية أميبان على مجموعة "قنديل القلب": "ترصد فيها بانو حياة النساء والفتيات المسلمات في المجتمع الكنادي بتفاصيله الدقيقة والحميمة". وتضيف أن ما يميز قصص بانو، هو التقاء اللغة بالإحساس، والحكي بالحقيقة.

بانو مشتاق، اليوم ليست مجرد كاتبة حازت جائزة عالمية، بل هي صوت نسوي، ومقاومة صامدة، وذاكرة حية لأدب ينقب في الجراح، ويشعل مصابيح القلب في دروب الظلام.

font change