مسلسل "طهران": بروباغندا رقمية سيبرانية تجهل واقع إيران وإسرائيل

محاولة لاختلاق صورة التفوق الأخلاقي والتكنولوجي للموساد

©Apple TV+ / بإذن من Everett Collection
©Apple TV+ / بإذن من Everett Collection
"طهران"، إلى اليمين: ليراز تشارهي، (الموسم 1، الحلقة 2، عرضت في 25 سبتمبر 2020)

مسلسل "طهران": بروباغندا رقمية سيبرانية تجهل واقع إيران وإسرائيل

ينتمي مسلسل "طهران" (Tehran) إلى فئة الدراما التجسسية، وقد أنتجته هيئة البث الإسرائيلية العامة "كان 11" بشكل مشترك مع منصة Apple TV+ وامتد إلى ثلاثة مواسم، وعُرضت حلقته الأخيرة في 27 يناير/ كانون الثاني من العام 2025 على شبكة "كان 11". أخرج المسلسل دانييل سيركين، وكتبه موشي زوندر، الذي سبق أن كان كاتبا رئيسا في مسلسل "فوضى"، وعمري شنهر، ودانا عدن التي قامت أيضا بمهمات إخراجية.

يعالج المسلسل قصة عميلة الموساد ذات الأصول الإيرانية تمار رابينيان (تؤدي دورها الممثلة الإسرائيلية نيف سلطان)، التي تُرسل إلى طهران في مهمة تهدف إلى اختراق شركة الكهرباء وإخراج الدفاعات الجوية الإيرانية من العمل تمهيدا لضربة إسرائيلية ضد المنشآت النووية الإيرانية. لا تنجح المهمة مباشرة، وتضطر تمار إلى التخفي داخل المجتمع الإيراني والهرب من ملاحقة ضابط الحرس الثوري الإيراني فراز كمال علي (يؤدي دوره شون تووب)، الذي يظهر في هيئة متعصبة وصارمة وعنيدة، تخترقها علاقته بزوجته ناهيد (تؤدي دورها شلا أومي).

يؤدي الممثل البريطاني-الإيراني شرفين ألينابي (Shervin Alenabi) دور ميلاد، الناشط الإيراني الذي يساعد تمار ويقع في حبها قبل أن يُقتل في الموسم الثاني، الذي يكشف عن شخصية المحللة النفسية مرجان منتظري (تؤدي دورها الممثلة العالمية غلين كلوز) التي تعلمت الفارسية من أجل هذا الدور. ويستعرض الموسم الثالث شبكة أزمات تطول علاقة الموساد بعملائه وبخلافات داخلية في وجهات النظر وطرق العمل، مما يستدعي ظهور شخصية "البومة"، وهو الشخص الموكل بتنفيذ عمليات التصفية الداخلية في أوساط الموساد (يؤدي دوره الممثل شلومي إلون). وتظهر كذلك شخصية إريك بيترسون (هيو لوري)، المفتش الدولي النووي الذي يعمل مع الموساد.

نال المسلسل تقييما نقديا مرتفعا. موسمه الأول نال نسبة 94% في موقع Rotten Tomatoes، والثاني 83%. كما حصل على جائزة آيني الدولية لأفضل مسلسل درامي عام 2021، ليصبح أول مسلسل إسرائيلي يحصل على هذا التكريم. كما رشح لجوائز النقاد الأميركية لأفضل مسلسل أجنبي في عام 2023.

الكاتب الأميركي توماس فريدمان، في مقال له في "نيويورك تايمز" نشره خلال الحرب الأخيرة بين إيران وإسرائيل، وصف هذا المسلسل بأنه "نافذة لفهم كيفية عمل الموساد"، كما عبرت جهات عديدة بشكل غير رسمي عن تقديرها العالي للمسلسل من ناحية تقديمه صورة دقيقة لآليات الصراع بين إيران وإسرائيل. لكن قراءات أخرى انتقدته بشدة، معتبرة إياه "بروباغندا صهيونية سخيفة"، كما نبه المؤرخ الإيراني-الإسرائيلي ليور ب. ستيرنفِلد في مقال على Orient XXI إلى أن المسلسل يُغيب الواقع الاجتماعي والثقافي المعقد في إيران، ويصور طهران مجرد ساحة خاضعة للحرس الثوري، متجاهلا التعددية والاحتجاجات والحياة اليومية.

الهذيان الرقمي

التفوق التكنولوجي الإسرائيلي لا يُنكر، لكنه لا يعكس فانتازيا السهولة الفائقة التي يُصور بها المسلسل قدرة عميلة الموساد الخبيرة التكنولوجية على اختراق المنظومات الإيرانية، بحيث تصل إلى داخل شركة الكهرباء وتنسج عبر التلاعب التكنولوجي والمهارات الشخصية علاقات مع كبار الشخصيات في النظام وتنجو من التحقق الأمني، الى درجة أنها تستطيع الدخول إلى منزل قائد الحرس الثوري بعد نجاحها في الإيقاع بابنه الذي درس في أميركا ويعبر عن غرامه بها وتنجح في اغتياله.

المسلسل يُغيب الواقع الاجتماعي والثقافي المعقد في إيران، ويصور طهران مجرد ساحة خاضعة للحرس الثوري، متجاهلا التعددية والاحتجاجات والحياة اليومية

يضاف إلى ذلك ما تُظهره المراقبة الموسادية الدائمة لكل صغيرة وكبيرة في البلاد، بشكل يُظهر أن طهران واقعة بالكامل تحت سطوة الموساد، ولا تفوته صغيرة ولا كبيرة. ولعل أبرز الرسائل المشفرة التي يحاول المسلسل بثها وتمكينها، تلك التي تتعلق ليس بالتفوق التكنولوجي المادي المباشر عبر الوسائل أو الأدوات والصناعة، ولكن عبر القدرة على تحويلها إلى نمط تفكير وشكل سلوك وأسلوب أداء يميز أفراد الموساد. فراز كمالي، ضابط الحرس الثوري المكلف مكافحة نشاط الموساد والقبض على العميلة تمارا، وعلى الرغم من حدسه الأمني العالي وحسن تقديره للأمور وذكائه، لا يبدو قادرا على التفكير تكنولوجيا، فيظهر على الدوام بطيئا وعاجزا عن مواكبة التحديثات الدائمة والحلول الذكية والخطط الجديدة التي تبتكرها العميلة الإسرائيلية. ويفضل كذلك، في مفاصل حرجة، استخدام وسائط تقنية بالية وقديمة.

التفوق، كما يظهر في هذه المقاربة، يكمن في أن التكنولوجيا عند الموساد قد تحولت إلى سيكولوجيا ونظام عصبي وبنية داخلية، فعملاء الموساد يتصرفون تكنولوجيا ويحاربون عواطفهم وانفعالاتهم، ويذهبون دائما في اتجاه الهدف مهما كانت الصعوبات. هذا على مستوى الأداء المباشر، ولكن ومن ناحية أخرى، يحرص المسلسل على دمج الأداء التكنولوجي لعملاء الموساد ببنية أخلاقية رفيعة تجعل تمار، العميلة الإسرائيلية، تقع في غرام شاب معارض وترفض طلب قيادة الجهاز بتطبيق بروتوكولات الأمن القاضية بتصفيته، وتدافع عن صبية تعرضت للاعتداء من قبل الأمن الإيراني في الشارع. كل ذلك يبني خطابا يقول إن التكنولوجيا الفائقة التي تمتلكها إسرائيل وتحارب عبرها إنما تتضمن كذلك نوعا من الأخلاقية الفائقة، التي لا يستطيع الإيراني أن يضاهيها بأي شكل، فهو يرد على الاختراقات التكنولوجية بإعدام المدنيين الأبرياء.

كذلك، فإن عميل الحرس الثوري، فراز، في كثير من مفاصل المسلسل، يسقط أخلاقيا ويعجز حتى عن تقديم حياة طبيعية ومستقرة وآمنة لزوجته التي يحبها ويحاول حمايتها، لكنه يظهر عاجزا عن فهم معنى الحب والرعاية واحترام خيارات الآخر، مما يجعلها في نهاية المطاف تستعين بالموساد كجهة أخلاقية متفوقة للنجاة من الجحيم الإيرانية.

©Apple TV+ / بإذن من Everett Collection
"طهران"، نيف سلطان (الموسم 1، الحلقة 1، عرضت في 25 سبتمبر 2020)

كل ذلك يعكس تصورا فانتازيا لواقع الحرب التكنولوجية وطبيعتها، يبدو قاصرا عن فهم آلياتها وأبعادها والشكل الذي تدار فيه، والذي يتبع سياقات مؤسساتية شديدة التعقيد ولا ينسجم مع المنطق البوليسي الذي رُكبت على أساسه شخصية بطلة المسلسل. العمل السيبراني لا يتضمن المطاردات والمسدسات، بل يجري في صمت وخفاء. إن البنية العميقة للتكنولوجيا تكمن في الغموض والتخفي، بينما حرص صناع المسلسل على تقديم بنية حرب رقمية سيبرانية بطريقة الأكشن والمغامرات، مما تسبب بتحويل مفهوم التفوق التكنولوجي الذي يُعد أحد أبرز أهداف المسلسل إلى بنية ثانوية تشرعن الإطار البوليسي العام وتبرره.

لعل أبرز الرسائل المشفرة التي يحاول المسلسل بثها لا تتعلق بالتفوق التكنولوجي المادي المباشر عبر الوسائل أو الأدوات والصناعة، ولكن عبر القدرة على تحويلها إلى نمط تفكير وأسلوب أداء

 لعبة التفوق لم تُبنَ بشكل خاص على مهارة البطلة التكنولوجية في التهكير واختراق الأنظمة الإيرانية، ولكن كذلك على قوة الإغواء الجنسي الفوري والخارق الذي طُرح بشكل يقارب الابتذال. تمار تحقق تأثيرا حاسما وفوريا بجمالها المغوي والحاد، الذي جعلها تنجح بسرعة قياسية في الوصول إلى ابن قائد الحرس الثوري المحاط بالفاتنات اللواتي يستطيع أي مشاهد قياس درجة تفوقهن الجمالي على بطلة المسلسل، مما يُبرز خلل التصور وإقحامه من داخل بنية أيديولوجية تحول تركيب فكرة التفوق على أنها شاملة ومتكاملة، تنطلق من التفوق التقني لتصبح منظومة تفوق أخلاقي وجنسي وفكري.

طهران المتخيلة

يبني المسلسل طهرانه الأمنية، التي لا تمتلك أي ملامح خارج تركيبة أمنية تشمل كل تفاصيلها وتحتلها بشكل كامل. إنها مدينة تراقَب أحياؤها بالكاميرات، ويمكن أي شخص أن يكون من أعضاء الحرس الثوري. يختفي الفضاء المديني وتتلاشى الخصوصية العمرانية التي تضم أنماطا غنية من البناء تنتمي إلى المرحلة البهلوية والشاهنشاهية، إضافة إلى مرحلة ما بعد الثورة، ويتم إقحام صورة لمدينة ليست سوى تراكم أمني جامد ومفتقر للحياة.

تتوارى جغرافيا المدينة وأبنيتها وساحاتها، فلا تظهر المقاهي والمكتبات والمطاعم، وتنتقل الكاميرا بين مجموعة من الأماكن المقفلة وتتجنب الأماكن التي تعكس حيوية المدينة وروحها كالأسواق والساحات والجامعات، وكأن طهران مدينة بلا مجتمع أو ناس أو حياة يومية، ولا تنطوي سوى على مشهدية أمنية.

في هذه المدينة المتخيلة، لا تظهر النساء في الحدائق العامة، ولا يمشي الأطفال في الشوارع، وتحرص الكاميرا على تجنب أي مشهد داخلي في مكان عام. ويغيب ذكر الاحتجاجات على الرغم من وجود مواد أرشيفية غزيرة حولها، وخصوصا احتجاجات العام 2019 الشهيرة، والتظاهرات التي تلت مقتل الشابة مهسا أميني في العام 2022، وتُستبدل بمجموعة محتجين ليسوا  سوى مجموعة من السكارى ومدمني المخدرات، والجاهزين لكي يكونوا عملاء لجهاز الموساد بسهولة فائقة.

المرأة الإيرانية السلبية والعاجزة

تظهر المرأة الإيرانية في المسلسل عبر أربعة أنماط يُرسم لكل منها إطار سلبي خاص. يحضر نموذج ناهيد، المرأة العاجزة المحاصرة بالوحدة والمرض، وغير القادرة على اتخاذ القرارات، والغارقة في الخوف من المصير ومن الحرب، وهي تشكل في المسلسل نقطة الضعف الرئيسة لزوجها المسؤول الأمني في استخبارات الحرس الثوري، ويعبر من خلالها الموساد إليه أكثر من مرة.

هناك صورة الطالبة المحتجة اليائسة، التي تعتقل بعد مشاركتها في نشاط سياسي، وتظهر غارقة في الرعب والخوف، ولا يصدر منها خطاب يفهم من خلاله المشاهد أنها تدافع عن فكر معين أو تمتلك وعيا، وتشكل جزءا من سياق احتجاجي منظم، بل يبدو الأمر مجرد فورة يائسة وعشوائية وبلا ملامح، ومحكومة بعجز أصيل عن التعبير عن الأهداف من ناحية، وعن تقدير النتائج من ناحية أخرى.

تتوارى جغرافيا المدينة وأبنيتها وساحاتها، فلا تظهر المقاهي والمكتبات والمطاعم، وتنتقل الكاميرا بين مجموعة من الأماكن المقفلة وتتجنب الأماكن التي تعكس حيوية المدينة وروحها

يظهر الرعب كإطار عام يغلف المشهد ويذيب صورة الاحتجاج النسائي لصالح سطوة النظام، وكأنها تُستخدم فقط للدلالة على مدى تأصل تلك السطوة من دون أن تترك للمرأة الفرصة لتكون صاحبة خطاب. يتوالى الاحتجاج والقمع في ثنائية يبدو فيها الحرس الفاعل الوحيد، بينما تذوي المرأة في حالة انعدام الفاعلية وفقدان الخطاب.

المرأة السجانة تمثل نموذجا يحرص المسلسل على إظهاره للكشف عن مدى نجاح النظام في إدماج النساء في بنيته القمعية، بحيث يشكل العنف الذي يمارسنه على النساء الإيرانيات اللواتي يخالفن الشروط القاسية للحرس جزءا أساسيا من بناء خريطة أنماط المرأة الإيرانية السلبية في المسلسل. سجانات الحرس يمارسن قمعا مؤدلجا وحادا وعنيفا ضد النساء، بشكل يخلو من أي تعاطف، بل يتعاملن معهن على أنهن كائنات غريبة، كما في وصف "العاهرة الليبيرالية" الذي تطلقه إحدى السجانات على معتقلة، وفي مشهد تجر فيه سجانة إحدى المعتقلات من شعرها. حيث تتقمص في هذا المقام الملامح الحرسية بامتياز.

©Apple TV+ / بإذن من Everett Collection
"طهران"، من اليسار: شرفين ألينابي، نيف سلطان، في حلقة "إيران الأخرى"، (الموسم 1، الحلقة 5، عرضت في 9 أكتوبر 2020)

ويشير المسلسل إلى نموذج المرأة المتحررة التي تظهر في ثياب السباحة في حفلات الطبقة الراقية التي يعقد معها الحرس اتفاقات تتيح لها العيش بشكل يخالف القواعد الانضباطية الصارمة المفروضة على عامة الشعب. ولكن ذلك النموذج يقولب المرأة في هيئة الدمية التي تُستخدم للزينة والمتعة، ولا يمنحها سلطة على جسدها، ولا يوظف مشهدية التحرر في إطار أوسع، بل يبقيه في الإطار الضيق والمحدود، فيبدو المايوه نوعا آخر من الحجاب الإكراهي وليس نموذجا مغايرا ومضادا، لأنه لا يُشحَن بنظام للمعاني، بل يبدو تنويعا على الأمر نفسه، حيث تتقمص الفيلات الفاخرة هيئة سجون من نوع آخر تصنع نماذج أنثوية يقتصر همها على إغواء أبناء الطبقة النافذة.

والصورة النسائية الإيجابية في المسلسل، التي تنطوي على مبادرة وفعالية، تكون عبر عملاء الموساد: تارة عبر المحللة النفسية التي تعالج ناهيد، زوجة فراز، المسؤول في استخبارات الحرس، وتساعدها في التخلص من أزماتها النفسية الحادة والرهاب الاجتماعي، وتعدها للخروج من المنزل إلى مكان عام للمرة الأولى. وتارة عبر تمار، الخبيرة التقنية الموسادية التي تساعدها للفرار من طهران عبر جواز سفر مزور. وهكذا تظهر المدينة العريقة كسجن مغلق وقاتم ومعتم، يهدي الموساد مفاتيحه الى النساء الإيرانيات، في صورة تتسم بالمحدودية والسذاجة.

الموساد يغني ويقتل بحرفية

يتشكل جهاز الموساد وفق رؤية المسلسل من بنية انضباطية مؤسساتية صارمة تنفذ استراتيجيا محكمة لا تستجيب للانفعالات، بل تخضع كل قراراتها لمعايير الكفاءة والضرورة. أفراد هذا الجهاز ينفذون عمليات القتل ببرودة ومهنية، وفي إطار الواجب، فلا وحشية ولا نزعة انتقامية أو رغبة في التنكيل، بل مجرد أداء محسوب ودقيق واحترافي.

ذلك النموذج يقولب المرأة في هيئة الدمية التي تُستخدم للزينة والمتعة، ولا يمنحها سلطة على جسدها، ولا يوظف مشهدية التحرر في إطار أوسع

لا يخطئ هذا الجهاز من داخل تركيبته المحكمة، بل يكون الخطأ غالبا ناتجا من الأفراد والعملاء، ولا ينبع من البنية المؤسساتية نفسها التي تتميز بالتسامح مع الأخطاء التي يرتكبها العملاء، وعدم اللجوء الى العقاب إلا في الحالات القصوى، كما تتميز بالحضور النسائي في المواقع القيادية، والمساواة الجندرية، كما بقدرتها على تصحيح الأخطاء وتحديث آليات العمل والتفكير والاستجابة الفورية والسريعة للتحديات الميدانية.

لكن البعد الأعمق الذي يحرص المسلسل على صبغ جهاز الاستخبارات الإسرائيلي به، هو الجانب الأخلاقي والإنساني، الذي يبرز عبر مجموعة مشهديات مكثفة دراميا. ضابط الموساد يغني لزوجة ضابط المخابرات الإيراني المختطفة ليهدئ روعها، ولا يخاطبها بلغة التهديد والوعيد، بل باحترام وهدوء، وظهر متزنا وراقيا وعاطفيا، يتحدث عن الحب وعن زوجته الراحلة.

تمار، عميلة الموساد، في مفاصل عديدة، نجدها ترفض تفجير منشأة عسكرية إذا كان يوجد فيها مدنيون، وتتردد في تنفيذ عملية اغتيال متاحة بسبب وجود أطفال في المكان. قراراتها بحسب ما يريد المسلسل إيصاله، تنبع من ضمير حي ومن حس أخلاقي عال. كذلك فإن الجهاز يحرص على حياة عملائه المحليين وعدم تعريضهم للخطر إلا في حالات الضرورة القصوى، ويتعامل مع نشاطه في الداخل الإيراني بوصفه نشاطا داعما لنزعة الإيرانيين في التحرر من سلطة النظام، فهو حليف الشعب الإيراني والمعبر عن توقه إلى الحرية والعدالة.

لا شك أن تاريخ جهاز الاستخبارات الإسرائيلي، والمعلومات المتاحة عن سلوكه ونشاطه، ومدى حرصه على الوحشية كمنطق وأسلوب عمل، ولا مبالاته بالأرواح، والعقيدة الإبادية التي يتبناها، والحس الانتقامي الذي يقوم عليه، وفقدان الحد الأدنى من المعايير الأخلاقية، تجعل من هذه الصورة مجرد بروباغندا خالية من المعنى، وخصوصا في ظل أحداث جارية يتم فيها قصف أماكن توزيع المساعدات، والمستشفيات في غزة، والمباني السكنية في بيروت، وفق معلومات وإرشادات الجهاز، الذي وصفه تامير باردو، الرئيس الأسبق للجهاز، بأنه منظمة إجرامية ذات ترخيص.

برهن الإيرانيون أنهم يفصلون بين العداء للنظام وحب بلدهم والدفاع عنه، وذلك لسبب جوهري يكمن في الإيمان بملكيته، بينما لا تقول المشاهد الواردة من تل أبيب الأمر نفسه

في النهاية، أظهرت سياقات الأحداث الفعلية بعد اثني عشر يوما من الحرب التي انتهت بهدنة هشة، أن المسلسل لم يلتقط طابع الصراع الإيراني الإسرائيلي من أي زاوية، حتى الزاوية التكنولوجية، بل بدا أنه يتحدث عن تاريخها بينما يدعي أنه يعاصر الأحداث ويستبقها. فالتفجير عبر الهاتف طريقة قديمة وبدائية، لا ترقى إلى واقع تفجيرات البيجر والخرق السيبراني الذي ظهر في صراع إسرائيل مع أبرز أذرع إيران في المنطقة، وكذلك فإن نهايته التي تفترض القضاء على المشروع النووي الايراني لم تتحقق عمليا. بدا المسلسل في نزوعه البروباغندي متخلفا عن موضوعه وعن أهدافه نفسها ، ففشل في الترويج للتفوق التكنولوجي، وإن كانت واقعة لا تُنكر، ولكنه بدا أبعد بكثير عن الترويج للتفوق الأخلاقي والاجتماعي، وتركيب صورة لنموذج جهاز مخابرات إنساني وأخلاقي، وتصوير الصراع على أنه إنقاذ للإيرانيين من براثن نظام أوتوقراطي ديكتاتوري وقمعي.

لقد برهن الإيرانيون أنهم يفصلون بين العداء للنظام وحب بلدهم والدفاع عنه، وذلك لسبب جوهري يكمن في الإيمان بملكيته، بينما لا تقول المشاهد الواردة من تل أبيب الأمر نفسه. فقد غاب التضامن، وشاهد العالم كيف يسعى الناس إلى النجاة بأنفسهم من دون اهتمام بمصير جيرانهم، وشاهدنا فيديوهات لطرد من يرغبون بالاحتماء في الملاجئ لأنهم من عمارة أخرى، كما شاهدنا حفلات عنصرية ضد العمال وأصحاب الجنسيات الأخرى وغير اليهود. بينما أفرز المجتمع الإيراني تضامنا عاما وملحوظا، يعادي في منطقه النظام والعدوان في آن واحد. ولعل السبب الواضح الذي يعلمه الجميع يكمن في الفرق بين الوطن والاحتلال. للإيرانيين وطن يدافعون عنه، بينما، وعلى الرغم من البروباغندا والاعتراف الدولي والدعم العالمي، لا يزال قاطنو خريطة فلسطين من المحتلين يضمرون وعيا بالغربة. لا يمكن لأحد أن لا يعلم ما يعلمه، والإسرائيليون يعلمون أنهم محتلون، لذا في لحظة الأزمات الكبرى والتعرض للصواريخ، يفرزون هشاشة اجتماعية، ويغيب التضامن والتكافل والتضحية. وكل ذلك إن دل على شيء، فعلى جهل المسلسل العميق بما يعتمل داخل المجتمعين الإيراني والإسرائيلي.

font change

مقالات ذات صلة