أدريان فينك الذي قاوم النفي اللغوي بالشعر

روايته "الأحبس" تنير تمزق أبناء الألزاس التاريخي بين لغات ثلاث

GettyImages
GettyImages
مبنى من العصور الوسطى في الألزاس، فرنسا، عام 1955

أدريان فينك الذي قاوم النفي اللغوي بالشعر

"في وسط الفاجعة، وحدها اللغة الأم لا تكذب"، كتب بول تسيلان. لكن ماذا لو استيقظ شاعر يوما ليجد أنه ليس فقط لا يملك لغته الأم، بل أي لغة أخرى؟ لهذه المأساة كرس الشاعر والباحث الفرنسي أدريان فينك (1930 – 2008) روايته "الأحبس" التي كتبها باللغة الألمانية ولجأ فيها إلى شخصيتين رئيستين لسرد قصتها: الراوي الشاهد على المأساة الذي ولد في مقاطعة الألزاس قبل عام 1914، والشاب فرنسوا، الضحية، الذي ولد عام 1930 في المقاطعة نفسها، وعانى طوال حياته القصيرة من هذه الحبسة التي فرضها التاريخ عليه.

الرواية التي نقلتها إلى الفرنسية ابنة فينك وزوجته، وصدرت حديثا في باريس عن دار "أرفوين" تحت عنوان "الرجل الذي لا لغة له"، تستمد فتنتها العالية وأهميتها القصوى ليس فقط من قصتها وموضوعها، بل أيضا من طريقة تشييدها على شكل مقابلة مثيرة بين عناصرها السيرذاتية ونصوص متفرقة، بين اللغات الثلاث الفاعلة في سرديتها: الألمانية، الفرنسية والألزاسية، وبين الرواية نفسها والقصائد المقترحة في نهايتها، وقد كتب فينك معظمها باللغة الألزاسية كفعل "مقاومة بواسطة اللغة".

خصوصية

عمل فريد من نوعه إذن، ينير بكل خصوصياته التجربة الرهيبة والمجهولة لأبناء مقاطعة الألزاس التي تنازعتها ألمانيا وفرنسا على طول تاريخهما الدموي، من دون الاكتراث لرأيهم، وعواقب هذا التنازع على الناجين منهم، الذين وجدوا أنفسهم في كل مرة محرومين ليس فقط من اللغة الألمانية أو الفرنسية، وفقا إلى الفاتح، بل خصوصا من روحهم بالذات، المجسدة بلغتهم الأم، الألزاسية، التي كان ينظر إليها الطرفان المتنازعان بعين الاحتقار. حرمان أدى إلى تمزق هوياتي مخيف، لأنه "إذا لم تعد الكلمات والكينونة، الكلمات والأشياء، تتطابق، تصبح الأزمة وجودية بعمق".

في معرض تصنيفه هذا العمل، تحدث فينك مرارا عن "خرافة ذاتية" (autofiction). لكن مع أن الخرافة فيه تسمح بكشف مدهش للحقائق المبني عليها، إلا أن المنحى السيرذاتي يمسك بها بإحكام ويفيض منها باستمرار، ليبدو النواة الأساس للقصة المسرودة فيه. وفعلا، الشخصيتان المركزيتان اللتان تشكلان ركيزة هذه الخرافة هما في الواقع صنوان للكاتب. فالراوي لا يتقاسم معه فقط موطن الولادة، الألزاس، بل أيضا مهنة التدريس ووظيفة الشاهد> والشاب فرنسوا لا يتقاسم معه فقط تاريخ ميلاده ومكانه (قرية هاغنباخ)، بل أيضا دعوته الشعرية، ومعاناته اللغوية وأزمته الوجودية، إضافة إلى حمله اسما ثانيا يرتبط بعائلة أمه (هارتمان).

أما النصوص المتفرقة التي توقع سردية الراوي المرصودة لحياة فرنسوا القصيرة، فتحضر على شكل كولاجات فيها، وتتألف من أسفار أخبار قديمة (سِفر أخبار بيتر هاغنباخ)، ومذكرات، كتلك التي خطها فيليب لو بون عن عهد فيليب الصالح، دوق بورغوندي، من حكايات وأساطير ألزاسية وأقوال تاريخية، من مقالات صحفية وتقارير خاصة بالدعاية النازية، من أبيات شعرية شعبية وأغان ألزاسية، ومن تدوينات موسيقية وقصائد لفرنسوا.

مواد تحضر بالألمانية والفرنسية والألزاسية ضمن مونتاج حاذق، غايته إنجاز عمل قائم على الذاكرة، تؤدي الكتابة فيه وظيفة الضامن لعدم النسيان. ففي مكان ما من الرواية، يقول الراوي إنه يكتب "كي لا ينسدل بسرعة على كل شيء ستار النسيان". هذا التوتر بين ذاكرة ونسيان لا يهيكل فقط كل سرديته، بل أيضا الرواية بجميع عناصرها المتفرقة.

عمل فريد من نوعه إذن، ينير بكل خصوصياته التجربة الرهيبة والمجهولة لأبناء مقاطعة الألزاس التي تنازعتها ألمانيا وفرنسا على طول تاريخهما الدموي

في مقدمتها الطويلة والمنيرة لهذه الرواية، تطرح ابنة فينك، ميشيل، الأسئلة التالية: كيف تمكن والدها، القروي مثل فرنسوا، من اكتشاف وقراءة كتاب كبار مثل شكسبير وغيره، ومن تشكيل ثقافة موسيقية موازية، مدهشة في وسعها، أثناء رعيه الأبقار؟ كيف شعر إلى هذا الحد بالمسؤولية تجاه ذاكرة الألزاسيين وشعرهم المكتوب بلغاتهم الثلاث؟ ومن أيٍّ حصل على هذه الكتب التي قرأها أثناء الرعي، خصوصا أنه لم يتردد على المدرسة وهو صغير إلا نادرا، ولم يحظ بمعلم تعلق به مثل الراوي بفرنسوا. لغز يمنح هذه الرواية ألقا فريدا ويكشف مسألة تعلم فينك على نفسه.

سؤال اللغة

إلى هذه الأسئلة، تمكن إضافة أسئلة أخرى مشروعة تطرحها الرواية على قارئها، حين يعي ظروف حياة كاتبها، أبرزها: ما الذي يفسر سؤال فينك نفسه بهذه الحدة سؤال اللغة؟ وما هي طبيعة الصدمة التي أحدثها نقص اللغة الى درجة أن صنوه فرنسوا لم يجد مخرجا آخر له إلا الانتحار؟ الجواب عن هذين السؤالين يكمن في تاريخ مقاطعة الألزاس التي مزقها تقاتل ألمانيا وفرنسا عليها، قبل أن تدميها الحربان العالميتان.

غلاف الرواية

مقاطعة لطالما كان السؤال الأساس فيها هو إشكالية الأسبقية بين الفرنسيين والألمان، وبالتالي بين اللغة الفرنسية واللغة الألمانية: "من كان هنا أولا؟ هذا السؤال كان يعني عندنا: هل أنتم ألمان أم فرنسيون؟"، يقول الراوي.

من هنا ذلك المفهوم الدوري للتاريخ في بناء الرواية، المجسد لفظيا بعبارة "لقد أتوا" التي تدلل، بتكرارها داخل النص، على الوصول المتعاقب لغزاة الألزاس على مر القرون، وفي النتيجة، على تغيير لغوي في كل مرة، جديد ومميت لأبنائه، الذين أجبروا على التكلم بالفرنسية أو بالألمانية، وفقا إلى الغازي.

GettyImages
قذائف فارغة متناثرة قرب مدفع ذاتي الحركة أميركي من طراز M7 في ريف بلدة ريبوفيل، أثناء قصف مواقع الجيش الألماني في الألزاس، 9 ديسمبر 1944

ومع اندلاع الحربين العالميتين، تتسارع هذه الدورة الجهنمية بطريقة تجعل الراوي الذي كان يتكلم الألمانية قبل عام 1918، ينتقل إلى الفرنسية بعد هذا العام، ثم يعود مجددا إلى الألمانية عام 1939، ليرجع إلى الفرنسية عام 1945! قفزٌ متواصل بين لغتين تصوره رواية فينك بألمعية، ومعه التمزق الملازم له، وحظر التكلم بهذه اللغة أو تلك الذي رافقه. أما اللغة الألزاسية، التي كان يمكن أن تشكل واحة لغوية داخل حرب اللغات هذه، فقد فُرض عليها الحظر نفسه: "كل من كان يثرثر بالألزاسية في ملعب المدرسة كان يخضع للمعاقبة".

جحيم الحرب

السمة المميزة لمقاطعة الألزاس هي إذن أن جحيم الحرب التي اختبرتها كان مزدوجا: جحيم تاريخية، وجحيم لغوية. بالتالي، ما مر به أبناؤها هو سلسلة من تجارب النفي اللغوي التي أدت إلى مأزق. فصحيح أنهم ثنائيو اللغة، لكن هذه الثنائية اللغوية تخفي فراغا لغويا تمعن الرواية في كشفه كجرح متقيح أدى، إضافة إلى خسائرهم البشرية الفادحة الناجمة عن الحروب، إلى حرمانهم من إتقان الألمانية أو الفرنسية كما يجب، وإلى بلبلة علاقتهم بلغتهم الأم بسبب الحظر والتحقير اللذين خضعت لهما.

هكذا تصبح أزمة فرنسوا، الذي كان يرى في الكينونة واللغة شيئا واحدا، وجودية أيضا، لأن الأشياء، بالنسبة إليه، باتت تحمل اسمين أو حتى ثلاثة، فحل الالتباس داخل لغته وتراجعت قدرتها على التعبير عن الكينونة

في هذا السياق، يسمح قول ريلكه عن فيليكس أرفير في "دفاتر مالتي لوريدس بريجي": "كان شاعرا، وكان يكره ما هو تقريبي"، بإنارة مأساة بطل "الأحبس"، الشاب فرنسوا الذي كان يرغب في أن يكون شاعرا، لكن بعد رفضه الألمانية، لغة النازيين الذين قتلوا أخاه البكر (بتجنيده بالقوة في الحرب) وأمه (التي ماتت قهرا على فقدان ابنها)، وضع كل أمله باللغة الفرنسية. لكن بما أن علاقته باللغة مطلقة، وجد أنه لا يتقن الفرنسية بما يكفي ليجعل منها لغة حياته، وخصوصا لغته الكتابية: "أدرك بشكل مدمر أنه لم يكن يتقن الفرنسية تماما، وأن الصلة بين هذه اللغة التي تعلمها في المدرسة وعمق كيانه لم تكن أصيلة بما يكفي كي يصبح شاعرا". مأزق لا يلبث أن يأخذ طابعا مهلكا: "ما قد يبدو لنا مجرد عائق بسيط، صعقه بعمق وبصورة قاتلة. فاللغة، بالنسبة إلى الشاعر، هي مسألة وجود أو عدم وجود"، يقول الراوي.

GettyImages
منظر خلاب لحي "البندقية الصغيرة" في كولمار، منطقة الألزاس، فرنسا

هكذا تصبح أزمة فرنسوا، الذي كان يرى في الكينونة واللغة شيئا واحدا، وجودية أيضا، لأن الأشياء، بالنسبة إليه، باتت تحمل اسمين أو حتى ثلاثة، فحل الالتباس داخل لغته وتراجعت قدرتها على التعبير عن الكينونة. و"حين تفقد الأشياء تسميتها المحددة، يصمت الشعراء". لذلك، عن سؤال ريلكه الذي يعبر الرواية كخيط أحمر، خفي: هل تموتَ إذا مُنِعتَ عن الكتابة؟"، يجيب فرنسوا بالانتحار. وهو دليل، وفقا إلى ريلكه دائما، على أنه شاعر... لكنه شاعر بلا لغة.

مأزق اللغة

قبل إقدامه على هذا الفعل، يحاول فرنسوا إنجاز عمل شعري بلغته الأم، لكن ذلك لا ينقذه من مأزقه اللغوي والوجودي، ومن قرار الانتحار، للسبب نفسه، على الرغم من القصائد التي سيتمكن من كتابتها بهذه اللغة. وهذا ما يقود إلى سؤال جوهري آخر في "الأحبس": ما فائدة الشعر؟ في ذروة تأملاته، يجيب فينك أن الشعر، إن عجز عن إنقاذ كاتبه، قادر على إنقاذ اللغة المكتوب فيها، وهو ما يفسر حضور المختارات الشعرية باللغة الألزاسية في نهاية كتابه، وقول راويه: "فات الأوان لإنقاذ حياة، لكن ربما يكون الوقت مبكرا لإنقاذ لغة". وفي ذلك فعل إيمان، هو أشبه بــ"رهان" يصوغه على النحو التالي: إلى متى ستبقى لغة هذه البلاد؟ سيحفظها الشعر".

في "الأحبس"، ثمة أخيرا سبيل خلاص آخر، غير الشعر، يقترحه فينك، حتى لو أنه لا يفضي إلى حل أزمة بطله: الموسيقى. فإضافة إلى التأملات التي يقودها فرنسوا ومعلمه الراوي في هذا الفن، لدينا الرسالة الطويلة والمؤثرة التي يوجهها الأول إلى الآخر ويلومه فيها بقسوة لعدم تعليمه الموسيقى بدلا من اللغة الفرنسية، خصوصا أنه أبدى عشقا وموهبة مبكرَين فيها أيضا. وبقدر ما ترتبط رؤيتهما المثالية للموسيقى برغبة فينك المبكرة والمحبَطة في تعلمها، تردنا إلى التيار الرومنطيقي الألماني الذي وضع هذا الباحث العصامي دراسات باهرة حول شعرائه.

رؤية تستحضر إلى أذهاننا ما كتبه نوفاليس وهوفمان وشوبنهاور حول هذا الفن كلغة جوهرية أولى، أو "اللغة فوق اللغات"، ومن هذا المنطلق، تطرحه كخشبة خلاص ممكنة. ففي مكان ما من الرواية، يتساءل الراوي: "هل كان ممكنا أن تكون الموسيقى خلاصنا؟ مخرجا لصمتنا؟". وعلى الرغم من اقتناعه أن فرنسوا كان شاعرا أكثر منه موسيقيا ("خلف موسيقاه، كانت هناك دائما كلمات")، إلا أن هذا التساؤل يبقى مفتوحا حتى نهاية "الأحبس"، مثل أفق.

font change

مقالات ذات صلة