بشير البكر ينتشل في سيرته ذاكرة مثقلة بالأوجاع والمسرات

في كتابه "بلاد لا تشبه الأحلام"

غلاف كتاب "بلاد لا تشبه الأحلام"

بشير البكر ينتشل في سيرته ذاكرة مثقلة بالأوجاع والمسرات

يبدو استدعاء تاريخ الجزيرة السورية العليا سرديا، نوعا من مقاومة النسيان، فلطالما كانت هذه الجغرافيا مهملة ومهمشة ومنسية، وإذا بالكتابة عنها تأتي من موقع التمرد والعصيان على ذلك الإهمال المتعمد. لا أحد من خارج هذه التضاريس في إمكانه فحص ذلك المكان بدقة وانتباه، ذلك أن النسخة الأصلية لهذه الخريطة المنكوبة تاريخيا، تشير إلى منفى للمغضوب عليهم من موظفي السلطة المركزية قبل اكتشاف حقول النفط، إلا أن هذه الهوية الملتبسة بقيت ضبابية بالنسبة إلى الآخرين عن تلك البيئة التي تقع عند تخوم البلاد، فههنا بدو وأكراد وآشوريون وسريان وأرمن ويزيديون. صحراء مشبعة بأسرار الرمال من جهة، وحقول قطن على ضفاف نهر الخابور من جهة ثانية، مما استدعى نصا هجينا وغرائبيا وسحريا في آن واحد.

كان خليل النعيمي من أوائل الذين لفتوا الانتباه تخيليا إلى تلك المنطقة، فهو استعاد سيرة البدوي التائه في صحراء لا نهائية، كما في "القطيعة"، و"زهر القطن"، إذ اشتغل على نبش سيرة طفولة متروكة في العراء، وأحوال بشر هائمين في صحراء مفتوحة، ومصائر معلقة، وأقدار مكتوبة منذ الأزل، وترقب ما لا يأتي، كائنات تتدثر بعباءة الحكمة لاحتمال قسوة الطبيعة وألغازها وفتنتها، إذ لا مسافة بين القاع وطيش الغيوم والريح. لكن هذه القسوة والبلاء والمحن المتعاقبة، تحيل في المقابل على نَفس صوفي في تفعيل سيرة البداوة التي طالما أهملت سرديا، كأن نفي جغرافيا الجزيرة السورية بوصفها "مستعمرة للعقاب" أصاب مدونتها الشفوية أيضا بالعطب، ذلك أن نص الصحراء ظل خارج السكة السردية العربية، عدا تجارب قليلة، وفي أحسن أحواله، ينبغي أن يكون إكزوتيكيا وحسب.

لكننا هنا، سنغوص في الوحل، وسيعصف العجاج في المكان، وستخرج العقارب من مكامنها، وسيطارد الطفل الجرابيع، ثم سيراكم ألوان الربيع تبعا لترحاله. كما سيستنفر حواسه إلى أقصاها وهو يكتشف لذة الجسد. على المقلب الآخر، جذبنا سليم بركات نحو جهة الشمال، وإذا بمدينة عامودا تتحول إلى ماكوندو أخرى بمذاق كردي هذه المرة، وبسرديات خشنة لاكتشاف خرافة الكون وقلق الكائن المهمل، وتراجيديا المنسيين.

تتحول مدينة عامودا إلى ماكوندو أخرى بمذاق كردي هذه المرة، وبسرديات خشنة لاكتشاف خرافة الكون وقلق الكائن المهمل، وتراجيديا المنسيين

هكذا، سيكتب باكرا سيرة طفولته في "الجندب الحديدي" (1979)، ثم سيرة صباه في "هاته عاليا، هات النفير على آخره" (1980). وإذا به يضيء فضاء سحريا وغرائبيا معجونا بالخراب، عن أمكنة مكللة بالغبار والنسيان وبروق الشمال وطفولة ممزقة ومنكوبة ومليئة بالذعر. وبقدر ما كانت هذه الطفولة الخرقاء مدهشة بالنسبة إلى الآخرين، كشفت من جهة أخرى عن محنة لا توصف ومسلخ للألم والقسوة والهباء. كأن هذه الطفولة المعذبة لا تكتب إلا عبر بلاغة وحشية كالتي اخترعها سليم بركات في وصف "مصائر الشمال" وملهاته السوداء. ولعل هذا ما جعل الطاهر بن جلون يصف السيرة بأنها "أعجوبة نقية وكتابة مجنونة وخطرة مترعة بالشعر رغم كل هذا العنف".

REUTERS/Rodi
نازحون من الطائفة الإيزيدية يفرّون من "تنظيم الدولة" قرب جبل سنجار في اتجاه الحدود السورية، قرب بلدة اليعربية في الحسكة، 10 أغسطس 2014

لن يغادر سليم بركات مأساة الشمال وملهاته في رواياته اللاحقة وستكون أعمال مثل "أرواح هندسية" و"الريش" اقتصاصا أكبر من ذاكرة لا تكف عن استدعاء شخوص وأمكنة وحيوانات ونباتات برية. كل ذلك في سجادة لغوية تمزج ما هو شعري بسرد أخاذ يستدعي شبكة معقدة من الذكريات والأحلام والتجارب والأسماء الغامضة والألغاز، وفلسفة تبين "عبثية الوجود وسفاهة شؤون الإنسان"، واشتغال صريح على الحدس والغريزة في إعادة بناء عالم متصدع. عالم لفرط غرابته وواقعيته، يبدو في نهاية المطاف، كأنه أسطوري.

مرايا الذات والجموع

وها هو بشير البكر (1956) في سيرته الروائية "بلاد لا تشبه الاحلام"(دار نوفل- بيروت) يغوص في الفضاءات ذاتها ولكن بتحديقة مختلفة، وإن تقاطع مع خليل النعيمي في بعض المحطات، نظرا لانتسابهما إلى بيئة بدوية واحدة. يفرش صاحب "عودة البرابرة" سجادة الحكي على اتساعها بمرايا الذات والجموع، محاولا انتشال ذاكرة مثقلة بالأوجاع "مثل جمل يخب في الصحراء بخط مستقيم".

DigitalGlobe via Getty Images via Getty Images
صورة أقمار صناعية لموقع تل ليليان الأثري قرب وادي جراح في حوض نهر الخابور بمحافظة الحسكة، شمال شرق سوريا

ها هي مدينة الحسكة في أقصى الشمال الشرقي للبلاد تستعيد ذاكرتها بعيني طفل سيكبر على الفجيعة والسراب والجفاف والطوفان بضربات شاقولية تخلخل الزمن الأفقي، تحفر مجراها بجرعات شعرية تعيد منسوب الطمأنينة إلى مكانه كلما تفلتت الصور من الألبوم بتأثير غبش الأمس البعيد، فالمخزون الشعري الذي جاء منه بشير البكر في الأصل هو قربة الماء التي ترويه من عطش التذكر. هكذا يتناوب زمن التدوين تبعا للترحال وهجرة الأمكنة "أخذتني عصاي في مسالك وطرقات كثيرة، وفتحت أمامي دروبا لم أتوقع أني سأمشيها، لأصل إلى بلاد لم أتخيل ذات يوم أني سأضع قدمي فيها، وألتقي بكائنات كثيرة".

أخذتني عصاي في مسالك وطرقات كثيرة، وفتحت أمامي دروبا لم أتوقع أني سأمشيها، لأصل إلى بلاد لم أتخيل ذات يوم أني سأضع قدمي فيها، وألتقي بكائنات كثيرة

عواصف العجاج وطوفان نهر الخابور، وحكمة الآباء، ستتكشف عن مشهديات ثرية في تشييد العمارة السردية التي تتمازج فيها ذاكرة الطين وهبوب رياح السياسة، حين يستعيد لحظة الانفصال إثر انهيار الوحدة المصرية السورية. سيمزق الانفصاليون صور جمال عبد الناصر، كما ستلتهمها النيران، وستتوارى "سنوات المحْل" وسيطوى زمن الهتاف الناصري لمصلحة زمن حزب البعث بشعاراته البراقة، والنظارات السوداء لمتطوعي الحرس القومي، وفروع المخابرات، ثم "دخل البلد في زمن الصمت الفولاذي".

غواية الرائحة

ستخف وطأة الفولاذ أمام صور الفلاحات في حقول القطن، يلففن رؤوسهن بالهباري المصنوعة من الحرير بألوانها الزاهية، و"يزين الكاحل بالحجل الفضي الذي يرن مع كل حركة، إيقاع يصيب المرء بالدوخة". الرنين هو ما يجذب مغناطيس الذاكرة نحو ذلك الزمن السعيد، وكذلك رائحة النباتات البرية التي لا تزال "عالقة في أنفي حتى الآن"، وأسراب القطا والحجل. الهباري مرة أخرى تعيد الى المكان ألفته وسحره مثل غواية مستحيلة. يقول "خذيني مثل هبرية في الصباح الباكر، حين يتنفس عطرك رائحة جسدك الجميل بنعاس النوم، الذي يخرج من شقوق البيوت نحو طرقات الحقول".

REUTERS/Orhan Qereman
أكراد يحتفلون بعيد النوروز في مدينة عامودا شمال شرق سوريا، 20 مارس 2025

هذا البذخ الشعري يؤثث المكان ببهجة مفتقدة، وحنين إلى روائح وألوان وذكريات وأساطير محلية، خصوصا بعد أن تقتحم السينما شاشة الذاكرة بالأفلام الهندية وأفلام الكاوبوي التي كانت المحاولة الأولى للطيران خارج المكان. ما إن تستيقظ الذئاب في مناماته الكابوسية في دمشق التي ارتحل إليها أخيرا، حتى يفكر بمغادرتها طلبا للنجاة متسللا إلى بيروت التي سيغادرها لاحقا على ظهر باخرة متجهة إلى أثينا بلا أوراق وحقائب، فقط "علم فلسطين يرفرف على ضفاف المتوسط، تتبعه قوافل النوارس التي رافقت ياسر عرفات". عند هذا المنعطف تتخذ السيرة مسارا تراجيديا "منذ ذلك اليوم وأنا أرحل بعيدا، عابرا للمكان، وفيا لعهد الأسلاف الأوائل، أهل الدلة والنجر وبيت الشَعر والجمل، الذين سافروا في البوادي، خلف خط المطر، وراء السنابل ورائحة الشيح والحرمل".

سرد متناوب

هذا الخط المتعرج للرحلة ينطوي على سرد متناوب يكسر أحادية الروي بشراكة وجدانية مع سير الآخرين، إذ تنأى كثبان الرمل ليرتطم الراوي بصخب المدن البعيدة ومقاهيها ومكتباتها.

يختم بشير البكر سيرته الروائية بأسلاك البرق التي تستضيف الطيور، مترنما بكلمات أغنية محلية تناجي تلك الأسلاك المهتزة بقوة الرياح

هكذا ينأى نهر الخابور ويجف كمحصلة لاستباحة المخابرات والعسكر للأراضي الزراعية واستثمارها عشوائيا، فيما يحضر نهر السين الباريسي فضاء حيويا في معنى العيش، من دون أن ينسى ذكريات المكان الأول عن طريق القفز والوثب على طريقة الجاحظ. ففيما ينهمك برسم خرائط النفي التي طالت محمود درويش ومعين بسيسو وغالب هلسا وآخرين، أولئك الذين تقاسمتهم بيروت ونيقوسيا وبغداد وباريس، تصفعنا رائحة عطر "هبرية" كان على الصبي أن يحملها من أمه إلى بيت شقيقته شمسة، المتزوجة من شيوعي يدعى جمعة، لكنه يعود خائبا ومنكسرا باكتشافه مجرى ماء أمام بيتها يسيل نحو الخارج، فهم من ذلك أن شقيقته في لحظة شبق نارية.

Delil souleiman / AFP
المزارع ياسر عبد الباقي يجلس قرب مضخة مياه ويتأمل بركة قرب نهر الخابور في قرية تل سكر بمحافظة الحسكة، 26 سبتمبر 2024، وسط جفاف الأراضي وارتفاع أسعار الوقود

إشارة من هذا الطراز، تنطوي على عذابات صبي أدرك معنى الغيرة وفوران الرغبة وتأجج عمل الحواس، مثلما هي محاولة في "تعزيل الماضي وطي صفحات قديمة"، والتأرجح بين المقيم والعابر، بين طفولة بعيدة مثلمة بالأسى، وصورة الخمسيني وهو يتأمل وجهه في المرآة حيث التجاعيد والخطوط أسفل العينين، والشعر الأبيض الذي يتقدم بثبات. هذا التجوال بين مدن العالم أعاده ثانية إلى الحسكة بفتحة فرجار أخرى، فهي: بيروت الصغرى، وحكاية أكبر من كتاب في التاريخ، وأوسع من مساحة على الجغرافيا، شكلها التنوع، ومنحها التعدد موهبة السفر بالقمح والقطن نحو بلاد أخرى. وبالتفاتة ثانية "الحسكة منسوجة من القبائل والأقليات التي جعلت منها فضاءات متعددة الألسن والوجوه". يختم بشير البكر سيرته الروائية بأسلاك البرق التي تستضيف الطيور، مترنما بكلمات أغنية محلية تناجي تلك الأسلاك المهتزة بقوة الرياح حاملة البرقيات والإشارات والرموز، قبل أن يذهب كل أثر، و"لا تبقى إشارة على حياة الكائن في تلك البادية". لعل هذا الزخم السردي، والحمولة الشعرية العالية هما من قادا صاحب "آخر الجنود" إلى هذه الهجنة في كتابة سيرته، تلك التي وضعته في مقام الحيرة في ترتيب عمل الذاكرة المحتشدة بالأسئلة الحارة عما آلت إليه الحال في مسقط الرأس وما تلته من أمكنة ومصائر ومآلات.  

عودته إلى دمشق بعد أربعة عقود من الغياب القسري، ربما تضعه في مهب سيرة أخرى.

font change