يبدو استدعاء تاريخ الجزيرة السورية العليا سرديا، نوعا من مقاومة النسيان، فلطالما كانت هذه الجغرافيا مهملة ومهمشة ومنسية، وإذا بالكتابة عنها تأتي من موقع التمرد والعصيان على ذلك الإهمال المتعمد. لا أحد من خارج هذه التضاريس في إمكانه فحص ذلك المكان بدقة وانتباه، ذلك أن النسخة الأصلية لهذه الخريطة المنكوبة تاريخيا، تشير إلى منفى للمغضوب عليهم من موظفي السلطة المركزية قبل اكتشاف حقول النفط، إلا أن هذه الهوية الملتبسة بقيت ضبابية بالنسبة إلى الآخرين عن تلك البيئة التي تقع عند تخوم البلاد، فههنا بدو وأكراد وآشوريون وسريان وأرمن ويزيديون. صحراء مشبعة بأسرار الرمال من جهة، وحقول قطن على ضفاف نهر الخابور من جهة ثانية، مما استدعى نصا هجينا وغرائبيا وسحريا في آن واحد.
كان خليل النعيمي من أوائل الذين لفتوا الانتباه تخيليا إلى تلك المنطقة، فهو استعاد سيرة البدوي التائه في صحراء لا نهائية، كما في "القطيعة"، و"زهر القطن"، إذ اشتغل على نبش سيرة طفولة متروكة في العراء، وأحوال بشر هائمين في صحراء مفتوحة، ومصائر معلقة، وأقدار مكتوبة منذ الأزل، وترقب ما لا يأتي، كائنات تتدثر بعباءة الحكمة لاحتمال قسوة الطبيعة وألغازها وفتنتها، إذ لا مسافة بين القاع وطيش الغيوم والريح. لكن هذه القسوة والبلاء والمحن المتعاقبة، تحيل في المقابل على نَفس صوفي في تفعيل سيرة البداوة التي طالما أهملت سرديا، كأن نفي جغرافيا الجزيرة السورية بوصفها "مستعمرة للعقاب" أصاب مدونتها الشفوية أيضا بالعطب، ذلك أن نص الصحراء ظل خارج السكة السردية العربية، عدا تجارب قليلة، وفي أحسن أحواله، ينبغي أن يكون إكزوتيكيا وحسب.
لكننا هنا، سنغوص في الوحل، وسيعصف العجاج في المكان، وستخرج العقارب من مكامنها، وسيطارد الطفل الجرابيع، ثم سيراكم ألوان الربيع تبعا لترحاله. كما سيستنفر حواسه إلى أقصاها وهو يكتشف لذة الجسد. على المقلب الآخر، جذبنا سليم بركات نحو جهة الشمال، وإذا بمدينة عامودا تتحول إلى ماكوندو أخرى بمذاق كردي هذه المرة، وبسرديات خشنة لاكتشاف خرافة الكون وقلق الكائن المهمل، وتراجيديا المنسيين.