صدمات تنكأ جراحا قديمة في "راس أنجلة" لإيناس العباسي

ما تخلفه الحروب في البشر

صدمات تنكأ جراحا قديمة في "راس أنجلة" لإيناس العباسي

في روايتها "راس أنجلة" تسرد الروائية التونسية إيناس العباسي حياة عائلة تونسية من خلال أختين، الأولى تسافر إلى فرنسا فتتزوج رجلا يعاني كوابيس حرب شارك فيها في أفغانستان، والثانية تهاجر إلى الإمارات وتتنقل بين الفجيرة ودبي، كما تتنقل بين عشاقها.

الرواية التي صدرت أخيرا عن "دار نوفل" في بيروت، تُسرد عبر ثلاثة أصوات في أربعة أجزاء. الأول هو صوت ناديا التي تبدأ في سرد قصة زوجها الفرنسي فيليب بعد أن عاد شخصا آخر من حرب أفغانستان، فنجده يمارس العنف ضدها، مما يضطرها إلى الهرب مع ابنها يوسف لتعود ثانية إليه، لأنها لا تملك من تلجأ إليه في مدينة تولوز الفرنسية. فإذا ذهبت إلى الشرطة تخاف أن يأخذوا منها ابنها بعذر أنه يعيش في كنف أسرة غير مستقرة، كما أن واجبها يحتم عليها الوقوف إلى جانبه، وهي التي عاشت معه قصة حب عارمة قبل أن يحدث له ما حدث.

أهوال وجراح

فيليب هو ابن سيدة فرنسية وأب تونسي مجهول، لم يأخذ منه سوى ملامحه الغائبة. كان مهتما بأخبار الحروب منذ طفولته، ليلتحق بعدها بالجيش الفرنسي الذي يرسله في مهمات عديدة خارج البلد، آخرها إلى أفغانستان. وهناك يتعرض مع رفاقه إلى كمين من جماعة طالبان""، يُحال بعده على التقاعد بسبب إصابته. إلا أن الحرب وآثارها تظل تلاحقه وتؤرق لياليه، فيعاني من تشنجات عصبية، يضرب خلالها رأسه بالحائط حتى يدميه "قبل أن ينهار أرضا ويتكوم على نفسه دون حركة، مثل حيوان حبيس يستسلم بعد أن يضرب قضبان قفصه للخروج محدثا جلبة كبيرة”.

فهو يظن أنه بتصرفه هذا سيوقف الأصوات التي تعج داخل رأسه، وهي أصوات الحرب أو الانفجارات التي واجهها في غفلة منه. "مضت الأيام التي تلت عودته مثقلة بالصمت. أكلمه فلا يجيب إلا بنعم ولا، وأحيانا لا يتكلم. ينظر إلي بعينين فارغتين. قضى الوقت نائما لا يستيقظ إلا ليعاود النوم. لم يغادر غرفة النوم لأيام. كثيرا ما استيقظت وسط الليل على صوت لهاثه. كان فيليب يستيقظ مذعورا، يلهث كأن هناك من يلاحقه، يضغط على أذنيه ويصيح: هذا فخ، إنهم يهاجموننا، أسمع صوت الرصاص".

كان فيليب يستيقظ مذعورا، يلهث كأن هناك من يلاحقه، يضغط على أذنيه ويصيح: هذا فخ، إنهم يهاجموننا، أسمع صوت الرصاص

تصور الرواية فظاعة آثار الحروب وما تخلفه من جراح في النفس البشرية، حيث يصبح الشخص الذي شارك فيها أو تعرض لأهوالها مجروحا ومشوها من الداخل، فيتصرف على غير ما كان عليه. أو كأن صدمات الحروب تنكأ جراحا قديمة، فهواجس فيليب حول علاقة أمه بأبيه المجهول تنبعث من جديد، وتنعكس على سلوكه مع زوجته ناديا التي يشك أن لها علاقات برجال آخرين. كما أن اختفاء الأب يصبح موضع سؤال ملح، حتى إنه حاول أن ينقل سكنه إلى مكان آخر عله يجده. فقدانه لأبيه لم تعوضه أمه التي لم تتصرف معه كأم أو تعامله كابن، فهي لا تحب سوى نفسها، وبدا أنها اضطرت لتؤدي دور الأم "في مسرحية حياتها المزدحمة بالوجوه والعشاق".

طبخ المتوسط

تسرد ناديا لحظات الحب الحميمية مع فيليب، خاصة في بداية قدومها من تونس، وتستذكر بيتهم في "راس أنجلة" في بنزرت التونسية، قبل أن تأخذها أمها مع أختها ليندا وأخيها نوفل بعيدا عن والدهما. ثم حصولها حين كبرت على منحة تفرغ من فرنسا لكتابة كتاب عن مطبخ بلدان المتوسط، يحتوي على ثلاث وستين وصفة من واحد وعشرين بلدا. وحين تقوم بإعداد الكتاب وتصوير الوصفات في شقة تستأجرها مع مصور، يهاجمهما عدد من الملثمين ويعتدون عليهما، لأنهما كانا يعيشان قصة "شبيهة بالحب". وإذ صارت بعدها تشعر بأنها مراقبة طيلة الوقت وفي كل مكان، أصبح أمر لجوئها إلى فرنسا ملحا، وهو ما حصل.

AP Photo/Rahmat Gul
مقاتلو طالبان يلتقطون صورة في منطقة وزير أكبر خان بالعاصمة كابول، أفغانستان، 18 آب 2021

في فرنسا، هناك الكثير من القصص المتشعبة عن حياة المهاجرين ودورهم في تعمير هذا البلد وازدواجية حياتهم بين تعاليم دينهم وتصرفاتهم اليومية، إلى جانب سجالات حوارية تزيد أحيانا على سبع صفحات، كما هو الحوار (ص 51 - 59) حول الفرق بين دبي وفرنسا والهجرة والعنصرية ومشاكل الاندماج.

الجدة والعرب

من خلال صوت فيليب نتعرف الى جوانب أخرى من طفولته وحياته، وإن كانت ناديا سردت بعضا منها، وبالذات حين كان زملاؤه ينادونه برأس الخروف بسبب شعره المجعد، ويقولون له "أيها العربي عد إلى بلادك واركب جملا".

تصور الرواية فظاعة آثار الحروب وما تخلفه من جراح في النفس البشرية، حيث يصبح الشخص الذي شارك فيها أو تعرض لأهوالها مجروحا ومشوها من الداخل

وهو يُفصل أكثر عن طفولته، فيعود إلى جدته التي كانت تمنعه أن يلعب مع العرب أو "ريبي" كما يسمونهم، لكنه لم يستمع إليها، إذ كان يشعر بأنه "عربي متنكر في شكل فرنسي، أو فرنسي يخفي عربيا بداخله"، كما صار محمد أو "ميمو" أعز أصدقائه.

أما عن الآثار التي تركتها الحرب في نفسه، فلا تخرج عما وصفته ناديا، سوى أنها جاءت هذه المرة بصوته: "منذ عودتي من كابيسا والكوابيس تهاجمني كل ليلة، مثل سرب طيور تتفرق مذعورة وتنتشر في السماء بعد طلقة صياد، فأستيقظ متعرقا كأنني ركضت عشرة كيلومترات دفعة واحدة. أهرب من الكوابيس، لكن ذكريات معاركنا في أفغانستان تستيقظ بدورها وتحوم مثل عصافير سوداء داخل عقلي، قبل أن تنقض علي وتنقر رأسي بمناقيرها الحادة، بينما تدوي أصوات المدافع والرصاص عنيفة وحقيقية في ذهني".

ويبرر ذهابه إلى أفغانستان بأنهم ذهبوا "لدعم الأمن والاستقرار، لنقل السلطة إلى الدولة وتدريب قواتها المسلحة"، ومن أجل "حماية الأفغان من طالبان"، متسائلا: "لماذا ينصبون لنا الكمين تلو الكمين ويريدون قتلنا؟".

الروائية التونسية إيناس العباسي

وإذ يستعيد آلامه، يقرر فيليب أن يهجر العالم "بأخبار حروبه وسلامه الوهمي"، وأن يلقي التلفاز في النهر، وألا يجدد الاشتراك في الإنترنت، وأن يربي أطفاله على حب الطبيعة "بعيدا من كل التلوث الذي نتنفسه، الأخبار والإعلانات".

يعمد سرد الرواية إلى خطين رئيسين يتعلقان بحياة ناديا وفيليب، أما ما عداهما فتبدو حيوات مجاورة كحياة ليندا في الفجيرة ودبي، وعشاقها الذين يأتون ويمضون "وتغيرهم مثلما تغير لون صبغة شعرها".

font change