زيارة رئيس مالي إلى موسكو... تعاون نووي بعد خروج فرنسا

التوصل الى اتفاقيات محورية ترسخ الإطار القانوني للتعاون بين روسيا ومالي

إدواردو رامون
إدواردو رامون

زيارة رئيس مالي إلى موسكو... تعاون نووي بعد خروج فرنسا

في 22 يونيو/حزيران، وصل الرئيس الانتقالي لجمهورية مالي، الجنرال عاصمي غويتا، إلى موسكو على رأس وفد رفيع المستوى ضم أبرز قيادات البلاد، تلبية لدعوة رسمية من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

وأوضح بيان صادر عن مكتب الرئيس المالي أن "السلطات الروسية والسلك الدبلوماسي استقبلا الرئيس فور وصوله بمراسم تشريف تليق بمكانته". ومرّ موكب الرئيس من وسط موسكو، حيث وضع إكليلا من الزهور عند الشعلة الأبدية على قبر الجندي المجهول داخل حديقة ألكسندر قرب الكرملين، في خطوة تعكس، وفقا للبروتوكول الروسي، رمزية سياسية رفيعة، تؤكد أهمية الضيف لدى موسكو.

لم تكن هذه الزيارة رفيعة المستوى مجرد محطة لتوثيق التعاون بين باماكو وموسكو، بل تجاوزت بعدها الثنائي لتكتسب بعدا استراتيجيا يمتد إلى اتحاد دول الساحل، والمنطقة الأوسع، بل وربما القارة الأفريقية بأكملها.

امتدت الزيارة من 22 إلى 26 يونيو، وشهد يوم 23 عقد لقاء ثنائي بين الرئيسين بصيغة مباشرة وخاصة. وأسفرت المحادثات عن توقيع ثلاث اتفاقيات محورية ترسخ الإطار القانوني للتعاون بين روسيا ومالي:

  • اتفاقية حول أسس العلاقات بين الاتحاد الروسي وجمهورية مالي.
  • وثيقة لتأسيس لجنة حكومية مشتركة للتعاون التجاري والاقتصادي والعلمي والتقني.
  • اتفاقية بشأن الاستخدامات السلمية للطاقة النووية.

وقد وقع الاتفاقية الأخيرة كل من المدير العام لشركة "روساتوم" الحكومية ووزير الطاقة والموارد المائية في مالي.

بعد انقلاب في النيجر أطاح بالرئيس محمد بازوم، أصدر غويتا وقائد بوركينا فاسو إبراهيم تراوري بيانا مشتركا اعتبرا فيه أن أي تدخل أجنبي في النيجر سيعد إعلان حرب

من جانب آخر، شملت مجالات التعاون الاستراتيجي التي ناقشها الطرفان تطوير قطاع استخراج الذهب، وتنفيذ مشاريع مشتركة في الطاقة والزراعة. كما اجتمع وزير الدفاع الروسي أندريه بيلوسوف مع نظيره المالي، الجنرال ساديو كامارا، لبحث آليات تنفيذ الاتفاقيات العسكرية السابقة، وتعزيز الأمن والسيادة الوطنية.

وهذه هي الزيارة الثانية لعاصمي غويتا إلى روسيا بصفته رئيسا للدولة، بعد مشاركته في قمة روسيا- أفريقيا في سان بطرسبرغ في يوليو/تموز 2023.

ويعد غويتا من الشخصيات البارزة في المشهد السياسي الأفريقي الراهن، لا سيما في ظل التحولات الجيوسياسية المتسارعة. وهو مسلم سني من عرقية المالينكا وضابط محترف ينتمي إلى عائلة عسكرية، تلقى تدريبه العسكري في كل من مالي وفرنسا وألمانيا والغابون والولايات المتحدة. وشارك بصفته قائدا للقوات الخاصة في عمليات ضد الجماعات الإرهابية، ما أكسبه احتراما في صفوف القيادة والجنود على حد سواء.

أ.ف.ب
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يلتقي الرئيس الانتقالي لجمهورية مالي الجنرال عاصمي غويتا في الكرملين، موسكو في 23 يونيو 2025

في أغسطس/آب 2020، قاد غويتا انقلابا بصفته قائدا لكتيبة العمليات الخاصة ونائبا لرئيس الأركان، أطاح بالرئيس إبراهيم بوبكر كيتا، وتولى رئاسة "اللجنة الوطنية لإنقاذ الشعب"، التي أعلنته رئيسا للدولة. وفي سبتمبر/أيلول من العام نفسه، تولى منصب نائب الرئيس خلال الفترة الانتقالية.

وفي مايو/أيار 2021، أقال غويتا الرئيس باه نداو والحكومة، متهما إياهم بالتواطؤ مع النظام السابق. وأعلنت المحكمة الدستورية حينها تعيينه رئيسا مؤقتا، بينما كُلِّف المعارض شوغيل كوكالا مايغا بتشكيل الحكومة. وقد حظيت الانقلابات التي قادها غويتا بدعم شعبي واسع داخل مالي، ما عزز من شرعيته السياسية.

وعقب انسحاب فرنسا من عملية "برخان"، التي اعتبرت إخفاقا ذريعا في مكافحة الإرهاب في الساحل، لجأ غويتا إلى روسيا طلبا للدعم العسكري، وهو ما فتح الباب أمام دخول مجموعة "فاغنر" إلى مالي. وأدى ذلك إلى انسحاب تدريجي للقوات الفرنسية وإعادة رسم خريطة النفوذ في الإقليم.

وفي يوليو/تموز 2023، وبعد انقلاب في النيجر أطاح بالرئيس محمد بازوم، أصدر غويتا وقائد بوركينا فاسو إبراهيم تراوري بيانا مشتركا اعتبرا فيه أن أي تدخل أجنبي في النيجر سيعد إعلان حرب. وقد مثل هذا البيان نقطة الانطلاق لتحالف دول الساحل، الذي تزامن مع محادثات أجراها وفد روسي بقيادة نائب وزير الدفاع، الجنرال يونس بك يفكوروف، الذي أصبح لاحقا قائدا للفيلق الأفريقي، وهو الوحدة العسكرية الروسية الجامعة للقوات الروسية المنتشرة في القارة.

المؤشرات الأمنية والاقتصادية في مالي لا تزال تواجه تحديات خطيرة، مع استمرار منحنى التراجع. ولا تبدو مالي ولا حلفاؤها قادرين بمفردهم على مواجهة الجماعات المسلحة

وقد أعلن غويتا رسميا في سبتمبر/أيلول 2023 تشكيل تحالف الساحل، وفي يناير/كانون الثاني 2024 انسحب هذا التكتل من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، في خطوة أشير إليها كنهاية للتموضع الموالي للغرب في المنطقة.

وبحلول يوليو 2024، أعيدت هيكلة التحالف ليصبح "اتحاد دول الساحل"، وعين غويتا رئيسا له. وفي أكتوبر/تشرين الأول، رقي إلى رتبة فريق أول، وهي أعلى رتبة عسكرية في البلاد.

وفي مطلع عام 2024، وخلال عملية عسكرية في كيدال أنهت فعليا التشكيلات الطوارقية الذاتية، أعلن غويتا إنهاء العمل باتفاق الجزائر لعام 2015، مؤكدا وحدة الدولة المالية. وفي الخريف من العام نفسه، أقال رئيس الوزراء شوغيل مايغا وعين بدلا منه حليفه، المقدم عبد اللاي مايغا. وكانت عدة شخصيات معارضة بارزة قد بدأت بمغادرة البلاد، منذ 2022، من بينها الإمام المؤثر محمود ديكو.

أ.ف.ب
عاصمي غويتا خلال مراسم وضع إكليل من الزهور على قبر الجندي المجهول بالقرب من جدار الكرملين في موسكو في 23 يونيو

وفي أبريل/نيسان 2025، أوصى مؤتمر وطني قاطعته المعارضة بتمديد ولاية غويتا حتى عام 2030. وفي مايو، أصدر مجلس الوزراء قرارا بحل جميع الأحزاب السياسية، مبررا الخطوة بانتشار الفساد وتعاون هذه الأحزاب مع القوى الغربية.

ووفقا لتقرير صادر عن منظمة "أفروباروميتر"، تحظى سياسات غويتا بدعم شعبي واسع، رغم الانتقادات الموجهة إلى مسار تركز السلطة وتقييد بعض الحريات. على أن من المهم الإشارة إلى عاملين رئيسين:

  • أولا، جاء كثير من هذه الإجراءات في سياق مواجهة الاضطرابات الأمنية وتصاعد التهديد الإرهابي.
  • ثانيا، تختلف النظرة الأفريقية إلى الاستبداد عن المقاربات الأوروبية، إذ ترتبط القيادة القوية بالاستقرار وتحظى بقبول شعبي، فيما تربط الديمقراطية أحيانا بالفوضى.

ورغم الشعبية الظاهرة، فإن المؤشرات الأمنية والاقتصادية في مالي لا تزال تواجه تحديات خطيرة، مع استمرار منحنى التراجع. ولا تبدو مالي، ولا حلفاؤها في الساحل، قادرين بمفردهم على مواجهة الجماعات المسلحة المعارضة، لا سيما تلك المرتبطة بشبكات الإرهاب الدولية.

التحول في أدوار النفوذ جعل من روسيا ودول الساحل طرفا جديدا في معادلة التوازن الجيوسياسي، فاتخذت كل من هذه الدول موقفا يتحدى الغرب بشكل مباشر

وقد أسهم الحضور العسكري الروسي، وخاصة في مالي، في تقليص النفوذ الفرنسي والغربي، وطرد تلك القوى من ميادين الأمن، بل ومن بعض المجالات الاقتصادية. ومع انسحاب القوى الغربية، نشأ فراغ تطلب ملأه عبر شراكات جديدة، خاصة في مجالات الأمن والتعليم والتنمية.

ورغم انخراط قوى مثل تركيا، والصين، ودول الخليج في المجالات الاقتصادية، تبقى المسؤولية الرئيسة عن الأمن والتعليم على عاتق روسيا. وبذلك، تحولت منطقة الساحل إلى قاعدة أمامية للنفوذ الروسي، ومنصة محتملة للتوسع في القارة الأفريقية. كما أصبحت وسيلة لروسيا لمواجهة العزلة الدولية الناتجة عن حرب أوكرانيا، خاصة في المجال الاقتصادي.

هذا التحول في أدوار النفوذ جعل من روسيا ودول الساحل طرفا جديدا في معادلة التوازن الجيوسياسي، فاتخذت كل من هذه الدول موقفا يتحدى الغرب بشكل مباشر، حيث شكّلت استراتيجية موسكو في "تصدير الأمن" خيطا ناظما يربط بين هاتين المواجهتين المتوازيتين.

ومع ذلك، فإن بسط الأمن لا بد أن يقترن بتمكين النمو الاقتصادي. وفي هذا السياق، تبرز المبادرة الروسية للطاقة النووية السلمية لا كمشروع قابل للتنفيذ فحسب، بل كحل حيوي قادر على إحداث تحوّل جوهري.

فالعجز في الطاقة وارتفاع تكلفة الكهرباء يشكلان عقبتين تعيقان التنمية لا تقلان خطرا عن النزاعات المسلحة، إذ تمنعان تنويع الاقتصاد وتحدان من تدفق الاستثمارات خارج قطاع استخراج الموارد. وتبرز "روساتوم" بوصفها إحدى الجهات القليلة غير الخاضعة للعقوبات الغربية، والمحتفظة بقدرة تقنية تؤهلها لتنفيذ مشروع بهذا الحجم، كما أثبتت في مشاريع مماثلة في تركيا ومصر وبنغلاديش.

رويترز
الجنرال عاصمي غويتا يقف خلف رئيس النيجر محمدو إيسوفو خلال التقاط الصور بعد الاجتماع التشاوري للمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) في أكرا، غانا 15 سبتمبر 2020

ويمكن تأمين هذه البنية التحتية من خلال الفيلق الأفريقي الروسي بالتنسيق مع الجيوش المحلية، ضمن منظومة حماية المنشآت الحيوية في المنطقة.

إنه مشروع بعيد المدى ويحتاج التزاما كبيرا لا من روسيا ودول الساحل فحسب، بل أيضا من الهيئات الدولية المعنية، وفي مقدمتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ومع ذلك، فإن إنجاز هذا المشروع ليس مجرد خيار ما، بل يمثل حاجة مصيرية لا تحتمل التأجيل.

ولتحقيق مكاسب متبادلة، لا بد لروسيا ودول الساحل من الارتقاء من مجرد شراكة استراتيجية إلى تكامل فعلي بين الأجندتين الأمنية والاقتصادية. فالرهانات جسيمة، وإن غابت النتائج الملموسة، فقد تخسر روسيا موطئ قدمها في أفريقيا، فيما قد تنزلق منطقة الساحل إلى اضطرابات سياسية أو حتى تغييرات في بنية الأنظمة الحاكمة.

font change