كأس العالم للرياضات الإلكترونية… استثمار سعودي في المستقبل

لا مكان للهواة أو المبتدئين

جيسون ليون
جيسون ليون

كأس العالم للرياضات الإلكترونية… استثمار سعودي في المستقبل

في محاولة لتلخيص شغفه بالسينما، وصف المخرج الأميركي روبرت ألتمان ذات يوم صناعة الأفلام بـ"فرصة لعيش أكثر من حياة". الفرصة التي سنحت لألتمان لعيش أكثر من حياة عبر أعماله السينمائية سنحت لغيره في أجيال تالية، ليس عبر كاميرات السينما وسحر قاعاتها، بل من خلال صندوق سحري من زمن آخر قادر على تحويل صاحبه في لحظة إلى مدرب فريقه المفضل في كرة القدم، أو إلى سائق أسرع السيارات الرياضية في مضمار السباق ، أو إلى مصارع مفتول العضلات في حلبة القتال، أو حتى إلى جندي في فرقة عمليات خاصة خلف خطوط العدو. إنها الألعاب الإلكترونية، معشوقة الأبناء، والمتهم الأول في نظر جيل سابق من الآباء ربما لم يخطر على باله أن تجتمع تلك الألعاب يوما ما في بطولة عالمية يصل مجموع جوائزها الى عشرات الملايين من الدولارات، ويتنافس فيها محترفون من كل دول العالم بحثا عن المجد والثروة، تماما كأبطال الرياضة ونجوم الدورات الأولمبية.

صيف الرياض الحار بطبيعته، يزداد حرارة هذا العام عندما تستضيف العاصمة السعودية النسخة الثانية من بطولة كأس العالم للرياضات الإلكترونية. وعلى مدار سبعة أسابيع يتنافس ألفا لاعب محترف من مائة دولة يمثلون مائتين من أفضل فرق العالم من أجل الفوز في بطولات تشمل أربعا وعشرين لعبة إلكترونية مختلفة لا مكان فيها للهواة أو المبتدئين. تتنوع الألعاب في نسخة هذا العام من البطولة ما بين ألعاب محاكاة الرياضة وفي مقدمها "إف سي ٢٥" لعبة هذا الموسم من كرة القدم التي ورثت لعبة "فيفا" التاريخية بعد انتهاء التعاون بين الشركة المطورة والاتحاد الدولي لكرة القدم، مرورا بالألعاب القتالية مثل كلاسيكيات المصارعة وفنون القتال التي تستلهم شخصياتها من إبداعات فن"المانغا" الياباني مثل "تيكن" و"فيتال فيوري"، وانتهاء بألعاب قتالية من نوع آخر تعتمد على استخدام الأسلحة الافتراضية والتصويب والاستراتيجيات العسكرية مثل سلسلتي "كاونتر سترايك" و"كول أوف ديوتي"، وهي ألعاب متعددة الإصدارات احتفظت بمكانها في قائمة الأكثر مبيعا لأجيال.

يبدو الأمر كأننا أمام أولمبياد من نوع خاص يخاطب جيل المستقبل، لكن التنافسية في قاعات اللعب ليست سوى بعد واحد من أبعاد عدة تجعل بطولة كهذه ظاهرة تعد بالكثير على مستويات عدة. لكن متابع عالم الرياضة في السنوات الأخيرة لن يكون غريبا عن موجات من الاستثمار السعودي في عدد من ألوان الرياضة التقليدية، من الغولف إلى كرة القدم. وبينما تتنوع الأهداف بين الترويج للسياحة في المملكة، وتحسين جودة الحياة ورفع قاعدة الممارسين للرياضة محليا فضلا عن تطوير البنية التحتية من خلال استضافة كبرى البطولات العالمية، يبقى الجانب الاقتصادي العامل المحرك خلف كل هذه الاستثمارات التي تمثل جزءا من المشروع السعودي لتنويع مصادر الدخل، والذي يستهدف وصول مساهمة الرياضة في الناتج المحلي الإجمالي إلى 2.5.%.

الاهتمام السعودي بقطاع الألعاب الإلكترونية من الصعب أن يكون مستغربا بعد نظرة سريعة على الأرقام والحجم الذي وصلت إليه هذه الصناعة

رؤية السعودية للاستثمار في الرياضة تجاوزت حدود الملاعب الخضراء ومضامير السباقات إلى قاعات الألعاب الإلكترونية، واهتمام المملكة بهذا القطاع تجلى في إطلاق ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الاستراتيجيا الوطنية للألعاب الإلكترونية في عام ٢٠٢٢، بهدف تحويل السعودية إلى مركز عالمي في هذا القطاع بحلول عام ٢٠٣٠، وتحقيق أثر اقتصادي يساهم في الناتج المحلي الإجمالي بنحو ٥٠ مليار ريال بشكل مباشر وغير مباشر ويوفر ٣٩ ألف فرصة عمل للشباب السعودي في القطاع نفسه.

هذا الاهتمام كان من الطبيعي أن يترجم سريعا إلى أن تصبح المملكة مهدا لكأس العالم للرياضات الإلكترونية في شكلها المجمع، التي وصلت سريعا الى نسب مشاهدة مبهرة تجاوزت بحسب المنظمين النصف مليار مشاهد في نسختها الأولى عام ٢٠٢٤ وبإجمالي تجاوز ٢٥٠ مليون ساعة مشاهدة. وتأمل كأس العالم أن تتجاوز هذا الرقم صيف هذا العام، مدعومة بحملة ترويجية تصدر واجهتها أسطورة كرة القدم البرتغالي كريستيانو رونالدو، لاعب "النصر" السعودي والشخصية الأعلى متابعة عالميا على "إنستغرام" بقاعدة متابعين تتجاوز ٦٦٠ مليون متابع، والذي أعلن سفيرا للبطولة في الشهر الماضي.

الاهتمام السعودي بقطاع الألعاب الإلكترونية من الصعب أن يكون مستغربا بعد نظرة سريعة على الأرقام والحجم الذي وصلت إليه هذه الصناعة. قيمة قطاع الألعاب الإلكترونية عالميا وصلت إلى ما يزيد على ١٨٠ مليار دولار أميركي بحسب تقرير صدر العام الماضي لشركة "دينتسو" اليابانية العملاقة في مجال التسويق والإعلام.

الاتحاد السعودي الرياضات الإلكترونية
فريق فالكون الفائز بأول نسخة من كأس العالم للرياضات الإلكترونية، في الرياض 24 أغسطس 2024

ولوضع هذا الرقم في سياق المقارنة تقول الشركة إنه يتجاوز بثلاثة أضعاف على الأقل مجموع قيمة قطاعي الموسيق ىوالسينما مجتمعين حول العالم. هذه الأرقام على ضخامة حجمها، مرشحة للزيادة بشكل مضطرد. حيث تتوقع شركة Pwc الاستشارية نموا في إيرادات قطاع الألعاب عالميا يقترب من 8% سنويا حتى عام 2027.

وفي ظل حالة من غياب اليقين الاقتصادي التي تحيط بعدد من القطاعات التقليدية التي تتأثر بالتطورات السياسية وتقلبات رأس المال، يمثل قطاع الألعاب الإلكترونية فرصة لتحقيق نمو شبه مضمون في ظل اتساع القاعدة وانضمام شرائح عمرية ومجتمعية جديدة لهذا العالم في كل عام، ومرونة اثبتتها هذه الصناعة في أصعب الظروف عندما كانت من القطاعات النادرة التي حققت نموا خلال جائحة كورونا، التي ربما تكون قد لفتت أنظار العالم الى هامش النمو الذي يمكن الألعاب الإلكترونية تحقيقه في وقت ضربت فيه قطاعات كاملة في عالم الترفيه بشكل لا تزال تحاول التعافي منه حتى اللحظة.

المناظر الطبيعية التي أبرزها الجزء الخامس من لعبة "فورزا هورايزون" كانت بمثابة حملة غير مدفوعة الأجر للترويج للسياحة في المكسيك حيث تدور أحداث اللعبة. أما الاحتفاء الذي نالته عودة لعبة "فيتال فيوري" القتالية هذا العام -بدعم سعودي- بعد غياب إصداراتها لما يقرب من ربع قرن، فقد أعاد الى الأذهان قوة هذه الألعاب وتأثيرها 

المستقبل يبدو مفتوحا على المزيد من النمو في قطاع الألعاب الإلكترونية، كما وكيفا. فالتطور الكبير في إنتاج الألعاب، وجودة القصص والإخراج، والتقنيات العالية التي تضاف إلى منصات الألعاب خاصة مع تطور الذكاء الاصطناعي، كلها عوامل وسعت الشريحة المستهدفة، بعد نجاح الألعاب الإلكترونية في الحفاظ على ارتباط الأجيال التي قد يبدو للوهلة الأولى أنها تخطت مرحلة الهوس بتلك الألعاب.

إذ تذكر "دينتسو" في تقريرها أن متوسط عمر مستخدمي الألعاب الإلكترونية ارتفع إلى ٣٧ عاما في عام ٢٠٢٤، من ٣٣ عاما في  2015، ليقترب عدد من يمكن وصفهم بمستخدمي الألعاب الإلكترونية إلى ما يقترب من مليارين ونصف المليار شخص حول العالم.

هذا الإقبال صنع من تلك الألعاب منصة تسويقية للعلامات التجارية حيث تصل نسبة مشاهدة الإعلان بين المستخدمين إلى ٩٩٪ حسبما تذكر الشركة اليابانية، مما يضيف الى هذا القطاع عامل جذب للرعاة، تماما كما يحدث في بطولات الرياضة الكبرى أو المهرجانات الفنية. وفي بلد مثل السعودية يشكل الشباب غالبية ساحقة بين تعداد سكانه، يبدو طموح المملكة بأن تصبح ليس فقط مركزا لإقامة البطولات الكبرى بل أيضا لتطوير الألعاب الإلكترونية الرائدة عالميا، طموحا أكثر من مشروع، قياسا بتطور كبير شمل نواحي قطاع الترفيه في المملكة، واهتمام أصيل من شباب هذا البلد ينعكس في كون فريق "فالكونز" السعودي، حامل لقب النسخة الأولى من كأس العالم للرياضات الإلكترونية في العام الماضي، الذي نال بتتويجه بها جائزة مالية وصلت إلى سبعة ملايين دولار.

الاتحاد السعودي الرياضات الإلكترونية
تمثال ضخم لكأس العالم للرياضات الإلكترونية، التي تقام في العاصمة السعودية الرياض

ما يجعل الاستثمار في قطاع الألعاب الإلكترونية أمرا يستحق الانتباه، ليس فقط ما يتعلق بالجوانب الاقتصادية والترفيهية والتسويقية. فقيمة هذه الألعاب تتضح في كونها منتجا ثقافيا يمكن من خلاله الترويج لثقافة البلد ومعالمه السياحية وتقدمه التكنولوجي. الشخصيات التي قدمتها منصات الألعاب اليابانية مثلا في الثمانينات والتسعينات مثل "سوبر ماريو" و القنفذ السريع "سونيك" وغيرها، تحولت إلى رموز ثقافية للتفوق التكنولوجي الياباني تجاوزت عالم الألعاب لتصبح في حد ذاتها منتجات ثقافية نافست في شباك تذاكر السينما أبطال مجلات "الكوميكس" الأميركية الخارقين، وتحولت علامات تجارية في حد ذاتها.

والمناظر الطبيعية التي أبرزها الجزء الخامس من لعبة "فورزا هورايزون"، كانت بمثابة حملة غير مدفوعة الأجر للترويج للسياحة في المكسيك حيث تدور أحداث اللعبة. أما الاحتفاء الذي نالته عودة لعبة "فيتال فيوري" القتالية هذا العام -بدعم سعودي- بعد غياب إصداراتها لما يقرب من ربع قرن، فقد أعاد الى الأذهان قوة هذه الألعاب وتأثيرها في الخيال الجمعي للشباب حول العالم.

تواصل الأرقام إثبات أن الاستثمار في هذا القطاع لم يعد مغامرة بقدر ما هو محاولة لضمان مقعد الى طاولة اقتصاد المستقبل

ولن يكون مستغربا في السنوات المقبلة أن نشاهد ألعابا إلكترونية تتخذ من تضاريس السعودية الطبيعية المتنوعة ومعالمها التاريخية مسرحا، خاصة في ظل سعي أعلنته الاستراتيجيا الوطنية للألعاب الألكترونية لإنتاج أكثر من 30 لعبة منافسة عالميا في أستوديوهات المملكة، والوصول إلى أفضل ثلاث دول في عدد اللاعبين المحترفين للرياضات الإلكترونية.

الاتحاد السعودي الرياضات الإلكترونية
القاعة التي تستقبل البطولات والفعاليات المخصصة للجمهور، على هامش بطولة كأس العالم للرياضات الإلكترونية، في الرياض 9 يوليو 2025

تعود كأس العالم للرياضات الإلكترونية في نسختها الثانية في لحظة أصبحت فيها الرياض بالفعل وجهة ترفيهية إقليمية كبرى، بينما تؤصل قوة المنافسة ونسب المشاهدة وقيمة الجوائز مكانة السعودية كمعقل لهذا النوع من الرياضات الذي فرض نفسه على هيئات الرياضة التقليدية الباحثة عن تعظيم إيراداتها والوصول الى شرائح جديدة من الجيل الشاب، إلى حد اقتناع اللجنة الأولمبية الدولية بإقامة النسخة الأولى من الألعاب الأولمبية للرياضات الإلكترونية في الرياض عام ٢٠٢٧، التي ربما تؤصل لمكانة سعودية في هذا العالم توازي المكانة التي تتمتع بها اليونان كمهد للألعاب الأولمبية تنطلق منها شعلتها كل أربع سنوات.

وبينما يترقب عشاق ألعاب الفيديو جديد أبطالهم الذين يتابعونهم باستمرار على منصات البث المباشر في كأس العالم بالرياض، تواصل الأرقام إثبات أن الاستثمار في هذا القطاع لم يعد مغامرة بقدر ما هو محاولة لضمان مقعد الى طاولة اقتصاد المستقبل.

font change