لجنة برلمانية خاصة بالمسألة الكردية.. هل تحدث "الطفرة السياسية" في تركيا؟

تشكيل "برلمان مصغر"، بدلا من البرلمان الأصلي؟

أ.ف.ب
أ.ف.ب
تجمع جماهيري لمشاهدة بث بيان متلفز للزعيم المسجون ومؤسس حزب العمال الكردستاني التركي عبد الله أوجلان في مدينة القامشلي ذات الأغلبية الكردية في شمال شرق سوريا في 9 يوليو

لجنة برلمانية خاصة بالمسألة الكردية.. هل تحدث "الطفرة السياسية" في تركيا؟

تتمركز الحياة السياسية والثقافية والمدنية في تركيا حالياً حول "اللجنة البرلمانية الخاصة بالمسألة الكردية"، التي من المزمع تشكيلها خلال أسابيع قليلة، قبل نهاية الدورة البرلمانية الحالية. فاللجنة، وإن لم تأخذ لنفسها اسماً رسمياً حتى الآن، فإنّ توقيتها وتفاعلاتها مع مختلف القوى السياسية وآليات تشكيلها والتصريحات الصادرة عن المساهمين فيها، تؤكد هويتها هذه. وهي بهذا ستكون مركزاً ومنصة للجدل والفعل السياسي في البلاد طوال شهور كثيرة قادمة، لطالما ستحدد آليات تفكيك المسألة الأهم و"الأخطر" في تاريخ الدولة التركية الحديثة، وستحدد المستقبل المنظور للقوى السياسية في تركيا، الحاكمة والمعارضة.

تشكيل اللجنة يأتي كاستجابة سياسية واضحة من قِبل السلطة والأحزاب السياسية في البلاد على المبادرة التي أطلقها "حزب العمال الكردستاني" منذ عدة أسابيع، مقرراً حلّ نفسه وإنهاء الكفاح المسلح. فالرئيس أردوغان وشريكه في السلطة عبر "تحالف الجمهور" زعيم حزب "الحركة القومية التركية" دولت بهجلي قد صرحا أكثر من مرة بأن إنهاء "الكردستاني" للنشاط المسلح سيفتح الباب واسعاً أمام سياسات وتشريعات أكثر انفتاحاً و"ديمقراطية" تجاه قضايا البلاد، قاصدين دون ذكر المسألة الكردية.

زعيم "العمال الكردستاني" عبد الله أوجلان ظهر في مقطع مصور في التاسع من شهر يوليو الحالي، أعلن فيه "نهاية الصراع المسلح مع الدولة التركية"، داعياً للتحول إلى سياسات ديمقراطية قانونية. مضيفاً في كلمته "أؤمن بقوة السياسة والسلم الاجتماعي، لا بقوة السلاح، وأدعوكم إلى تطبيق هذا المبدأ. تؤكد التطورات الأخيرة في المنطقة بوضوح أهمية وإلحاح هذه الخطوة التاريخية التي اتخذناها. يجب اعتبار ما تم تحقيقه ذا قيمة تاريخية عالية" وحث البرلمان التركي على تشكيل لجنة للإشراف على نزع السلاح وإدارة عملية سلام أوسع نطاقاً

خلافات داخلية

حسب المجريات، يبدو أن رئيس البرلمان التركي نعمان كورتولموش مخول من قِبل التحالف الحاكم بالإشراف على تشكيل وآليات عمل ومهام هذه اللجنة، بناء على أُطر مُسبقة حُددت له. إذ أجرى اجتماعاً مطولاً مع نواب رؤساء المجموعات البرلمانية الخمس الرئيسة بهذا الخصوص. لم يصدر أي بيان رسمي عن الاجتماع، لكن تسريبات صحافية من قِبل قادة حزب "ديمقراطية الشعوب" المؤيد للأكراد قالت: "كان اجتماعاً إيجابياً، وإن كانت ثمة خلافات واضحة".

تحركات رئيس البرلمان تأتي عقب تصريحات متتالية من رئيس "الحركة القومية التركية" دولت بهجلي، يؤكد فيها ضرورة الاستعجال في تهيئة الأرضية لإنجاح عملية "تخلي (حزب العمال الكردستاني) عن العمل المسلح". فرئيس البرلمان عاد واجتمع مع رؤساء البرلمان السابقين، وحصل على استشارتهم ورأيهم بشأن هذه اللجنة. كذلك اقترح رئيس البرلمان إجراء اجتماعات مع قوى المجتمع المدني والاقتصاديين والنُخب الثقافية والمعرفية، في مدن ديار بكر ووآن (ذات الأغلية الكردية) ومدينة إسطنبول.

نائب رئيس مجموعة "حزب الشعب الجمهوري" المعارض جوقان جونيدن، حدد ثلاثة شروط مبدئية لمشاركة حزبه في تشكيل اللجنة ومقترحاتها ودورها. فحزب "الشعب" لا يريد لأعضاء هذه اللجنة أن يزيدوا على 40 شخصية، وإن كانت ثمة مشاركة من شخصيات من خارج البرلمان فسيكونون مستشارين، لا يحق لهم الاقتراح أو التصويت على قرارات اللجنة. كذلك يرى حزب "الشعب الجمهوري" أن قرارات أو حتى مقترحات اللجنة يجب أن تكون بالتصويت، ولا يُعرض منها ما لا يحصل على الأغلبية من أعضاء اللجنة.

مجموع ما يسعى إليه التحالف الحاكم، حسب رأي حزب "الشعب" المعارض، إنما هو تشكيل "برلمان مصغر"، بدلا من البرلمان الأصلي، بضوابطه وقوانينه وشروطه الموضوعية

يختلف ذلك تماماً عما يعرضه التحالف الحاكم، إذ ترى "الحركة القومية" بقيادة بهجلي أن اللجنة من المفترض أن تكون مؤلفة من 100 عضو، تتضمن أعضاء من خارج البرلمان، يكونون ذوي دور ورأي في كل تفاصيل اللجنة، وإن لم يكونوا أعضاء أصليين. فيما يسعى الرئيس أردوغان وحزب "العدالة والتنمية" أن تكون مخرجات وتوصيات وقرارات اللجنة توافقية، وليست حسب آلية الإقرار بالتصويت.

تعتقد المعارضة التركية أن ذلك سيكون بمثابة "فخ سياسي". فمجموع ما يسعى إليه التحالف الحاكم، حسب رأي حزب "الشعب" المعارض، إنما هو تشكيل "برلمان مصغر"، بدلا من البرلمان الأصلي، بضوابطه وقوانينه وشروطه الموضوعية. فهذه اللجنة، ودائماً حسب حزب "الشعب"، إنما ستسعى لبلورة "صفقة سياسية"، تحت يافطة زيادة الفضاء الديمقراطي تجاه المواطنين الأكراد. فالرئيس أردوغان سيصر في المحصلة على أن مجموع القرارات والتشريعات التي ستقترحها اللجنة ستحتاج إلى تغيير الدستور، أو إقرار دستور جديد، وتالياً فتح الباب مجدداً أمام إمكانية ترشحه للانتخابات البرلمانية المزمع إجراؤها عام 2028، أو قبلها، وهو ما يمنعه الدستور الحالي.

غيتي
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يلقي كلمة خلال اجتماع المجموعة البرلمانية لحزبه في أنقرة، تركيا في 9 يوليو

ترفض قوى المعارضة ذلك تماماً، وأصدرت بياناً واضحاً يقول إن أي سعي لذلك سيدفعها للانسحاب من اللجنة، ما سيخفض مستوى شرعيتها ودورها في إحداث تحول نوعي تجاه المسألة الأكثر حساسية في البلاد. هذا الموقف الذي يسعى "تحالف الجمهور" الحاكم إلى وصفه كسلوك يمنع إخراج البلاد من الصراع المسلح.

ماذا يريد الأكراد من اللجنة

يوافق حزب "الشعوب الديمقراطية" (المؤيد للأكراد) حزبي السلطة فيما يخص "توسيع فضاء اللجنة"، لأنها تعرف أن الأحزاب السياسية لن تقر قوانين وتشريعات لصالح زيادة حقوق الكُرد في تركيا دون مقايضة، مثل سعي حزب "العدالة والتنمية" لإعادة ترشيح الرئيس أردوغان في الانتخابات القادمة، أو تطلع حزب "الشعب" للمحافظة على "القيم الجمهورية والعلمانية" في حال تغيير الدستور.

لكن حزب "الشعوب الديمقراطية" يوافق حزب "الشعب" المعارض فيما خص ضرورة تشكيل اللجنة حسب قانون برلماني، يُحدد هويتها ومهامها وآلية عملها، تجاوزاً لأي ارتباك قد يحدث مستقبلاً. فـ"الشعوب الديمقراطية" يريد للرئيس أردوغان والتحالف الحاكم أن يكون محكوماً بقانون وإقرار واضح بهوية اللجنة كجهة مُقترحة ومبادرة لوضع تشريعات خاصة بزيادة حقوق الكُرد في تركيا.

يريد الأكراد توسيع حقوق الكرد في مجالات التعليم والثقافة والفضاء العام. فما هو حاصل راهناً هو ساعتان اختياريتان باللغة الكردية لطلبة المرحلة الابتدائية

الرئيس المشارك لحزب "الإنسان والحرية" (PIA) أحمد كايا، وهو أحد التيارات السياسية الكردية المقربة من "العمال الكردستاني" سياسياً ضمن تركيا، قدم رؤية سياسية اعتبرها المراقبون بمثابة الاستراتيجية السياسية غير المُعلنة لـ"العمال الكردستاني". إذ رأى كايا أن تطلع السلطة التركية على مسألة وضع "العمال الكردستاني" للسلاح وكأنه مسار استسلام عسكري دون أي مقابل سياسي، لن يفتح المجال إلا أمام مزيد من الاختناقات السياسية والأزمات الأهلية داخل البلاد، لأنه لن يُنهي الكفاح الكردي من أجل الحقوق العادلة، وإن كان سيغير وجهه وأسلوبه، وهو ما سيجر الدولة والمجتمع إلى مزيد من الحالة الأمنية والعسكرة السياسية، وسيكون ذلك على حساب التنمية والتحديث السياسي والسلم الاجتماعي.

يقيّم كايا النهج والخطوات التي تتخذها الدولة حتى الوقت الراهن، مصنفاً إياها كأفعال غير كافية وغير آمنة، إذ لا تستند إلى مصارحة تاريخية أو رؤية تحديثية لبنية الدولة، تُعييد تقييم ما حدث، وهو ما يهدد "الفرصة التاريخية" جذريا. فكل تفصيل يوحي بأن القسر التاريخي مستمر. فما يعنيه شعار "تركيا بلا إرهاب"، الذي تتخذه السلطة عنواناً لما يحدث، هو إخراج الأكراد من الفضاء السياسي والسيادي مجدداً، وقبولهم فقط كـ"أتراك".

رويترز
عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون، ظهر في فيديو مصور مع أعضاء من الحزب مسجونين معه في جزيرة إمرالي السجنية في تركيا، في 9 يوليو

المطالب التي يتطلع إليها الكُرد من خلال اللجنة موزعة على ثلاثة مستويات، سياسية وثقافية واجتماعية. سياسياً عبر إعادة بلورة تعريف الكيان وهوية المواطنين في تركيا دستورياً. فتركيا المستقبلية لا يُمكن لها أن تبقى دولة قومية مطلقة ومغلقة مثلما هي في الدستور الراهن، والمواطنون داخلها "أتراك فحسب". فهذا الجذر سمح بكل التشريعات والقوانين والسياسات القومية التي صدرت في تركيا طوال قرن كامل.

كذلك يريد الأكراد من اللجنة أن توسع حقوق الكرد في مجالات التعليم والثقافة والفضاء العام. فما هو حاصل راهناً هو ساعتان اختياريتان باللغة الكردية لطلبة المرحلة الابتدائية، ومعها قناة فضائية حكومية تبث سياسات ورؤية السلطة للمجال السياسي والاجتماعي الكردي. لكن الكرد يتطلعون لإقرار اللغة الكردية كلغة رسمية إلى جانب اللغة التركية، ولو في المناطق ذات الأغلبية الكردية فحسب، ومثلها إقرار الكردية كلغة للتعليم والقضاء والثقافة العامة في مناطقهم.

ويريدون أن تكون توصيات اللجنة في ذلك السياق، لخلق مساواة رمزية وتنموية بين الأكراد والأتراك ضمن البلاد، وتزيد من الاندماج السياسي للكرد، وتخفف من الهواجس التركية من إمكانية انفصال الكرد في أي وقت.

حيرة سياسية

يشرح الباحث والكاتب رمضان دنيز التموضع السياسي الراهن لزعيم حزب "العمال الكردستاني" المُعتقل عبد الله أوجلان وحزب "الشعوب الديمقراطية"، ومعهما باقي الساسة والنُخب والقوى المجتمعية الكردية في تركيا، مصنفاً إياهم إلى تيارين رئيسين، يرى كل واحد منهما إمكانية "بلورة حلول ما للقضية الكردية" في تركيا حسب رؤيته وعلاقته وفهمه للقوى السياسية الداخلية التركية وتطلعاتها المستقبلية.

ثمة أقلية ثقافية ومدنية كردية، متوزعة في مُدن دياربكر ووآن وإسطنبول، تفضل النزوع الليبرالي لشخصية مثل رئيس بلدية إسطنبول المعتقل أكرم إمام أوغلو

ويضيف الباحث دنيز في حديث مطول مع "المجلة" قائلاً: "النُخب السياسية اليسارية/القومية الكُردية في تُركيا، المُلتفة بشكل غير مُعلن حول حزب "العمال الكردستاني" وكفاحه التاريخي، تعبت تماماً من لعب دور المعارض الدائم. خلال العقدين الماضيين، تحديدا منذ عام 2015، حينما اعترضت هذه النخبة على تغيير الدستور التركي والقبول بتحول أردوغان من رئيس للوزراء إلى رئيس للجمهورية، تم تحطيمها بكل الأفعال الممكنة، واُعتقل قادتها وعشرات الآلاف من مناصريها، وحُرمت بلدياتها من خيرات الدولة، وتم استبعاد رؤساء بلدياتها من مناصبهم، ومُنعت من تطوير مؤسساتها وزيادة فاعليتها في الأوساط الكردية، ووُسمت بكل نعوت (الإرهاب). طوال هذا الوقت، لم تحصل من حزب المعارضة الرئيس تقديم أي خطاب أو رؤية واضحة مختلفة ولو نسبياً عما تقدمه السلطة. حتى حينما ساهمت في إسقاط الحزب الحاكم في أهم وأكبر بلديات البلاد طوال الأعوام الماضية، وكانت سبباً لصعود حزب "الشعب الجمهوري"، لم يمارس هذا الأخير سياسات وبرامج أكثر انفتاحاً على الكرد وثقافتهم وحقوقهم الأساسية. لأجل ذلك، يُمكن للمرء أن يفهم مقولة أوجلان للوفد الزائر له أواخر شهر أبريل/نيسان المنصرم (يقود دولت بهجلي سياسة قومية ثورية)، وشكره للرئيس أردوغان، وفعلهم لكل شيء في سبيل نجاح هذا المشروع من التحالف الحاكم. فالمستبطن في وعي هذه النُخبة راهناً هو الاعتقاد الجازم بأن العملية الراهنة مُقادة من قِبل الدولة العميقة في البلاد، وأنها السبيل الوحيد لإحداث نقلة نوعية في النضال الكردي، عبر تشريعات واضحة من قِبل هذه اللجنة، ولو بالحد الأدنى، وتنهي الكفاح المسلح بشرف".

رويترز
امرأة تحمل صورة للزعيم الكردي المسجون عبد الله أوجلان خلال احتفالات عيد النوروز في ديار بكر، جنوب شرق تركيا، 21 مارس

ويتابع الباحث المختص رمضان دنيز حديثه مع "المجلة" مضيفاً: "دون شك، ثمة أقلية ثقافية ومدنية كردية، متوزعة بالذات في مُدن دياربكر ووآن وإسطنبول، تفضل النزوع الليبرالي لشخصية مثل رئيس بلدية إسطنبول المعتقل والمرشح الأوفر حظاً في الانتخابات الرئاسية القادمة أكرم إمام أوغلو، على أي استخدام سياسي مؤقت لزعيم الحركة القومية دولت بهجلي، ومثله الرئيس أردوغان. فهم يعتقدون أن المسألة الكردية هي في المحصلة جزء من الهوية الديمقراطية لتركيا، ومسار الاتفاق الراهن سيؤدي في المحصلة إلى تكريس الوضع السلطوي للحاكمين، وتالياً زيادة المركزية السلطوية وهيمنتها العامة على البلاد، دون الحاجة إلى أية مؤسسات أو تشريعات ضابطة، وإن كانت صادرة عن البرلمان. فالحل الوحيد للمسألة الكردية، حسبهم، كامن في كسر جمود السلطوية الفردية المسيطرة راهناً على البلاد، وليس في التواطؤ المستهدف مع الحاكمين. خصوصاً وأن الأخيرين لم يقولوا أي شيء عما يتطلعون إليه بالنسبة للمسألة الكردية، ولو في مجال الحقوق الثقافية".  

font change