توم باراك و"لورانس العرب"

كلمات باراك ليست حنينا إلى القصص التي كان يقولها أجداده قبل هجرتهم من زحلة

توم باراك و"لورانس العرب"

استمع إلى المقال دقيقة

يثير سفير الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى تركيا ومبعوثه إلى سوريا ولبنان توم باراك ضجة كبيرة في كل تصريح أو تغريدة. كلماته تأتي من قاموس أميركي غير مألوف في الشرق الأوسط. فقد انتقد بشدة الحدود التي رسمها اتفاق سايكس–بيكو بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية. و"فرض الغرب لخرائط (في الشرق الأوسط) ورسمه الحدود بأقلام رصاص".

وقال توم باراك إن "عصر التدخل الغربي قد ولى إلى غير رجعة. أما المستقبل فهو للحلول التي تضعها المنطقة بنفسها". كما نعى سياسة "تغيير الأنظمة"، و"بناء الأمم" بعد الفشل في "خمس حروب خضناها".

أبدى باراك إعجابه بـ"الأموية السورية" والرئيس أحمد الشرع، وشبهه بالرئيس الأميركي المؤسس جورج واشنطن الذي حارب 12 سنة وصولا للاستقلال. كما شن حملة على "قوات سوريا الديمقراطية" حليفة أميركا في الحرب على الإرهاب. وحذر اللبنانيين من "خطر وجودي" إذا لم يتحركوا بـ"سرعة البرق" لأن مصيرهم سيكون هو العودة إلى خريطة "بلاد الشام". كما لمّح بكلام غير مباشر، عن وقوع الأردن في خريطة "سوريا الكبرى".

بعد كل تصريح، يصدر باراك توضيحا يصحح فيه كلماته الأولى. لكن من الخطأ التقليل من أهمية هذه العبارات التي تخرج من مبعوث ترمب عن دول رئيسة في الشرق الأوسط. وللتأكيد على ذلك، لا بد من الإشارة إلى تطورات وبيانات مواكبة لتصريحاته:

أولا، إن الرئيس ترمب نفسه قدم رؤيته إلى الشرق الأوسط في خطاب تأسيسي أدلى به في الرياض يوم 13 مايو/أيار، تحت عنوان: "رؤية الرئيس ترمب لمستقبل مزدهر في الشرق الأوسط". قال فيه: "دمر من يُسمون بناة الدول دولا أكثر بكثير مما بنوها"، وأضاف: "أنفق عليها الأميركيون تريليونات الدولارات" في العراق وأفغانستان دون فائدة، حيث انسحبت أميركا وفشلت في هذين البلدين، لأن "المتدخلين" الأميركيين "تدخلوا في مجتمعات لا يفهمونها"، وألقوا "محاضرات عن كيفية العيش".

في المقابل، مدح الحلول التي تأتي من المنطقة وقادتها، ذلك أن "ولادة الشرق الأوسط الحديث جاءت على يد شعوب المنطقة نفسها"، فكان "التحول العظيم". وطال المدح "الترمبي" الرئيس الشرع الذي لديه "ماض"، ثم رفع العقوبات عنه وعن "هيئة تحرير الشام" لإعطاء "سوريا فرصة".

تعيين ترمب لباراك المقيم في الديار التركية، مبعوثا لسوريا ولبنان انقلاب كبير ضد سياسات بريت ماكغورك الذي كانت تسميه أنقرة "لورانس العرب" الأميركي

ثانيا، باراك مثله مثل ستيف ويتكوف مبعوث ترمب لملفات إيران وغزة وأوكرانيا، رجل أعمال يرتبط بصداقة مباشرة مع الرئيس ترمب بعيدا عن بيروقراطية الخارجية والمؤسسات الأميركية. وفي الوقت الذي يتصاعد فيه دوره في  ملفات شرق أوسطية مهمة، فإن كبار موظفي الخارجية ذوي الخبرة التفاوضية والدبلوماسية، إما جرى تأجيل تعيينهم مثل جويل ريبورن الذي كان مقررا أن يتسلم منصب مساعد نائب وزير الخارجية، وإما تم إخراجهم من الخارجية ضمن "خطة إصلاح شاملة" يقوم بها وزير الخارجية ماركو روبيو. 

ثالثا، مكان إقامة باراك له مغزى كبير، فهو سفير ترمب في تركيا. أنقرة كانت لديها مشكلة كبيرة مع مسؤول الشرق الأوسط في البيت الأبيض السابق بريت ماكغورك، الذي كانت تسميه "لورانس العرب الأميركي"، في إشارة إلى أنه كان يريد إعادة رسم خرائط الشرق الأوسط بتأسيس كيان كردي شرق سوريا ضدها كما فعل "لورانس العرب" البريطاني الذي دعم الثورة العربية ضد الإمبراطورية العثمانية في بداية القرن الماضي.

لذلك فإن تعيين ترمب لباراك  المقيم في الديار التركية، انقلاب كبير ضد سياسات ماكغورك. بالفعل هذا ما بدا من تصريحاته (باراك) إزاء سوريا والأكراد ولبنان والخرائط وسايكس–بيكو. وما يعزز أهمية كلمات باراك، أن ترمب نفسه قال أكثر من مرة علنا إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان "صديقه"، بل إنه حث رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على التفاهم مع أردوغان إزاء سوريا بدلا من الصدام العسكري. 

كلمات باراك ليست حنينا إلى القصص التي كان يقولها أجداده قبل هجرتهم من زحلة التي كانت أحد أمصار الولايات العثمانية و"بلاد الشام" و"سوريا الكبرى"، قبل ولادة لبنان وسوريا وخرائط سايكس-بيكو

رابعا، إن سياسات أميركا في العقود السابقة في الشرق الأوسط تضمنت الكثير من التفاهمات الضمنية غير المعلنة لمراعاة حساسيات واعتبارات كل نظام تعاملت وظيفيا معه. مثلا، لا خلاف أن القوات السورية دخلت إلى لبنان في 1976 بموافقة أميركية، كما أن حافظ الأسد قضى على تمرد ميشال عون في 1990 بعد حصوله على ضوء أخضر أميركي مقابل مشاركته في "عاصفة الصحراء" والتفاوض مع إسرائيل، وكذلك الحال مع إخراج منظمة التحرير الفلسطينية ورئيسها ياسر عرفات من لبنان في 1982.

أسرار هذه التفاهمات بقيت حبيسة الأدراج والاعتبارات الخطابية، وسننشر لاحقا في "المجلة" سلسلة وثائق سرية سورية تعزز هذه المعلومات، حول موافقة أميركا على كثير من تحركات سوريا في لبنان قبل انتهاء عهد الوصاية بخروج جيشها في 2005.

كلمات باراك ليست حنينا إلى القصص التي كان يقولها أجداده قبل هجرتهم من زحلة التي كانت أحد أمصار الولايات العثمانية و"بلاد الشام" و"سوريا الكبرى"، قبل ولادة لبنان وسوريا وخرائط سايكس-بيكو. وأن تأتي في عهد ترمب الثاني، يعطيها وزنا اضافيا، فهي على الأقل ليست عبثية وصدفة، بل إنها تعكس تفكيرا جديا في أروقة البيت الأبيض. وقد يكون كثير منها قد قيل في غرف مغلقة بين قادة كبار. لكن حصولها رهن التوازنات ونجاحها أمر آخر لأن الكثير من المغامرات الأميركية انتهت إلى غير ما رمت إليه. ولا شك أن كون نفَس إدارة ترمب قصيرا ورغبتها بتدخل عسكري طويل لدعم آرائها غير موجودة، يجعلان تغريدات باراك خطيرة ومقلقة، ووقعها يتجاوز منصات التواصل الاجتماعي. 

font change