سوريا وإسرائيل… سلام دافئ أم عابر؟ 

ترتيب أولويات المائدة التفاوضية ضرورة حيوية لتثبيت انتقال سوريا من محور إلى محور. 

سوريا وإسرائيل… سلام دافئ أم عابر؟ 

استمع إلى المقال دقيقة

كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن احتمالات السلام بين سوريا وإسرائيل، وكثرت معه التوقعات إزاء المدى الذي يمكن أن يذهب إليه الطرفان في المضمون والبعد الزمني، بل إن أحد الصحافيين الإسرائيليين ذهب إلى أن دمشق اقترحت مقايضة: طرابلس اللبنانية مقابل الجولان السورية.  

لا خلاف أن وسطاء كثرا ينقلون الرسائل بين دمشق وتل أبيب، وهي تتناول عناوين عدة، بينها: اتفاق فك الاشتباك بين سوريا وإسرائيل عام 1974، تبادل المعلومات الأمنية ضد الميليشيات والتهديدات الأمنية، ترسيم الحدود بين سوريا ولبنان ومستقبل مزارع شبعا، انضمام دمشق إلى "الاتفاقات الإبراهيمية".  

ماذا يعني كل بند؟   

اتفاق فك الاشتباك: بعد النكبة في 1948 جرى توقيع اتفاق الهدنة بين دمشق وتل أبيب وأقيمت جيوب عازلة، وتشرف حاليا على تنفيذه قوات أممية. وبعد حرب 1973 توسط وزير خارجية أميركا هنري كيسنجر وأنجز "اتفاق فك الاشتباك" ووقعه رئيسا أركان سوريا وإسرائيل في جنيف في 31 مايو/أيار 1974، وهو يعني عمليا "تحييد" جبهة الجولان من أي عمل عسكري مستقبلي، عبر إقامة منطقة عازلة بعمق عشرة كيلومترات ومنطقتين بالطرفين مخففتين من السلاح بعمق 20 كيلومترا، وأن يقوم 1250 عنصرا من "القوات الدولية لفك الاشتباك" (أندوف) بالتحقق من التزام الطرفين، أي عدم دخول سلاح وعناصر غير المسموح بها وفق بنود الاتفاق.  

وقتذاك، حاول كيسنجر نيابة عن تل أبيب إقناع حافظ الأسد بإضافة بند خطي يتضمن "منع نشاط العناصر غير السورية" أي المقاتلين الفلسطينيين، في الجولان. الأسد رفض، لكنه وافق على ذلك بتفاهم سري شفوي يفيد بمنع أي نشاط للفصائل الفلسطينية. وهذا ما حصل لعقود حيث سُجن كثيرون لأنهم حاولوا تنظيم عمل مسلح قرب الجولان.   

بعد 2011، انسحبت "أندوف" وحصلت فوضى سلاح قرب الجولان جنوبي سوريا وانتشرت فصائل سورية معارضة وميليشيات إيرانية و"حزب الله". وفي 2018 توسط الرئيسان دونالد ترمب وفلاديمير بوتين واتفقا على ضرورة "ضمان أمن إسرائيل". بالفعل، جرى توقيع اتفاق تضمن انسحاب "جميع العناصر غير السورية"، أي الميليشيات الإيرانية وسلاحها الثقيل إلى عمق 85 كلم من خطوط الجولان، مقابل عودة قوات الحكومة السورية وتخلي أميركا عن المعارضة السورية المسلحة في الجنوب.   

مع سقوط النظام في 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي، توغلت إسرائيل في المنطقة العازلة في الجولان وسيطرت على قمة في جبل الشيخ وتوغلت في مناطق عديدة باتجاه دمشق. كما قامت بقصف مناطق عدة في سوريا وشنت مئات الغارات ودمرت البنية العسكرية الاستراتيجية لسوريا. 

المطلوب تأكيد سيادة سوريا على مزارع شبعا وتلال كفرشوبا ورسم موقع "الخط الأزرق" التابع للأمم المتحدة، الذي يقسم حاليا قرية الغجر. عمليا المطلوب نزع الذرائع من "حزب الله" للإبقاء على سلاحه

مزارع شبعا: لدى قرار إسرائيل بالانسحاب من جنوب لبنان في منتصف 2000، جرى اجتماع سياسي في دمشق، تقرر بعده "خلق" ذريعة لـ"حزب الله" كي يبقي على سلاحه. "الذريعة" كانت أن مزارع شبعا لبنانية وأن "حزب الله" هو "حركة مقاومة لتحرير الأراضي المحتلة".    

إذن المطلوب من دمشق حاليا، يتعلق بمسألة السيادة على مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وموقع "الخط الأزرق" التابع للأمم المتحدة، الذي يقسم في وضعه الحالي قرية الغجر، أي أن تؤكد الحكومة السورية لبيروت خطيا أن الموقعين هما أراضٍ سورية تحتلها إسرائيل وتعيد الأمم المتحدة رسم "الخط الأزرق". عمليا المطلوب نزع الذرائع من "حزب الله".    

تبادل المعلومات الأمنية: في ضوء انتشار ميليشيات وتهريب السلاح والمخدرات عبر الحدود السورية، يطرح تأسيس آلية إقليمية تشمل سوريا وإسرائيل لمكافحة الإرهاب والفوضى وتحقيق الاستقرار الإقليمي.   

الاتفاقات الإبراهيمية: انضمت إليها البحرين والإمارات والمغرب والسودان في إدارة ترمب الأولى، ويطرح الرئيس الأميركي حاليا انضمام سوريا إلى هذه الاتفاقات، وأعلن البيت الأبيض هذا الطلب أكثر من مرة، واقترح عقد قمة مع قادة سوريا وإسرائيل لإعلان هذا بصورة جماعية.   

في حال أرادت تل أبيب انتشار قوات أميركية ضمن قوات "أندوف"، فأغلب الظن ستطلب دمشق وجود قوات عربية وتركية

ما هو الممكن؟     

إدارة ترمب ودول غربية تعتقد أنها "سلّفت" الحكومة السورية كثيرا: الاعتراف وفك العزلة ورفع العقوبات وتقديم المساعدات. وهي تريدها أن تمضي بسرعة نحو بناء علاقات مع إسرائيل والانضمام إلى "الاتفاقات الإبراهيمية" ضمن تصور إقليمي لشرق أوسط جديد.   

من الخطأ الاعتقاد أن دمشق قادرة على القفز إلى هذه الخطوة حاليا. الممكن هو بالفعل البدء بالخطوات العاجلة والضرورية، أي، توصل دمشق وتل أبيب إلى اتفاق "عدم اعتداء"، أي تجديد الالتزام بـ"اتفاق فك الاشتباك"، لكن هذا يتضمن فعلا انسحاب إسرائيل من المنطقة العازلة في الجولان والمناطق التي استولت عليها بعد 8 ديسمبر.    

ولا شك أن سهر "أندوف" على تطبيق جميع بنود "اتفاق فك الاشتباك" يوفر جميع الضمانات الأمنية التي تمنع وجود ميليشيات وعناصر غير منضبطة وما تقول عنه تل أبيب "تكرار سيناريو 7 أكتوبر" جنوب سوريا، إذ إن الاتفاق يحدد عدد العناصر والسلاح ونوعيته ومداه. وفي حال أرادت تل أبيب انتشار قوات أميركية ضمن قوات "أندوف"، فأغلب الظن ستطلب دمشق وجود قوات عربية وتركية. وهذا يذكّر بمفاوضات 1974، إذ إن كيسنجر اقترح نشر قوات أميركية ضمن "أندوف"، فردّ الأسد بطلب قوات سوفياتية.   

دمشق قادرة على ترسيم الحدود مع لبنان وتأكيد أن مزارع شبعا سورية ذلك أن لها مصلحة في ضبط الحدود ومنع تهريب السلاح والمخدرات. وأغلب الظن ستكون مستعدة للمشاركة في آلية إقليمية لمكافحة الإرهاب، خصوصا أن تركيا كانت قد اقترحت تأسيس كتلة تضم سوريا ودول الجوار، العراق والأردن ولبنان.   

انضمام سوريا إلى "الاتفاقات الإبراهيمية"، يطرح الفرق بينها وبين الدول العربية الأخرى التي وقّعت هذا الاتفاق. فالدول العربية الأربع ليست لديها أراض محتلة وليست مجاورة لإسرائيل

  

أما موضوع الانضمام إلى "الاتفاقات الإبراهيمية"، فإنه يطرح الفرق بين سوريا والدول الأخرى التي وقّعت هذا الاتفاق. فالدول العربية الأربع ليست لديها أراض محتلة وليست مجاورة لإسرائيل. صحيح أن سوريا مشغولة باستعادة سيادتها ووحدتها وتأسيس جيشها ومشروع الإعمار، لكن البدء بالانضمام إلى "الاتفاقات الإبراهيمية" سيعقد تنفيذ أولوياتها ولن يسهلها، أي إنه سيشكل تحديا لوحدة القوات العسكرية الناشئة.   

لا شك أن هذه البنود السورية-الإسرائيلية وسعي البعض لـ"سلام دافئ" يتعلق بالسعي إلى بناء نظام إقليمي جديد بعد النكسات الكبيرة التي تعرضت لها إيران ووكلاؤها منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. لكن استسهال "الاختراقات" يعطي ذرائع لإيران ببث الفوضى ويعطي مبررات لتركيا في "فرملة" اتجاهات سوريا الجديدة، فيكون "السلام عابرا". ترتيب أولويات المائدة التفاوضية بين دمشق وتل أبيب ضرورة حيوية لتثبيت انتقال سوريا من محور إلى محور.  

font change