دروس قمة ميونيخ 1938 خيمت على قمة ألاسكا 2025. الأوروبيون والأوكرانيون كانوا قلقين من أن يكرر التاريخ نفسه، لذلك فعلوا كل ما يمكن القيام به كي لا يقدم دونالد ترمب لفلاديمير بوتين في أوكرانيا ما قدمه رئيسا وزراء بريطانيا وفرنسا لهتلر في تشيكوسلوفاكيا قبل تسعين سنة. هذا لم يحصل. بوتين ليس هتلر وروسيا الاتحادية ليست ألمانيا النازية. وأميركا الآن ليست أوروبا وقتذاك. لكن القيصر حقق الكثير من لقاء جاره على أرض أميركية.
انتهت قمة ألاسكا، من دون أي اتفاق رسمي أو إعلان وقف النار في أوكرانيا، كما كان يأمل ترمب. ولم تُعلن أي تفاهمات واضحة بشأن الحرب الروسية. وما إن انتهت القمة، حتى اتصل الرئيس الأميركي بقادة "حلف شمال الأطلسي" (الناتو) والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، معربا عن استعداده لتقديم "ضمانات أمنية" لكييف ودعوة زيلينسكي إلى واشنطن للمضي في ترتيبات عقد لقاء قمة ثلاثية.
واقع الحال أن ما لم يُقل في القمة قد يكون أكثر أهمية مما قيل. بداية، هي كانت بمثابة هدية كبيرة من ترمب إلى بوتين. سجادة حمراء وحفاوة في الاستقبال في قاعدة عسكرية أميركية مجاورة. بوتين كسر العزلة التي فرضت عليه منذ بدء حرب أوكرانيا في فبراير/شباط 2022. دولة عظمى تجاهلت مذكرة اعتقال أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية بحق الرئيس الروسي (واشنطن وموسكو لم توقعا اتفاقية تأسيس المحكمة). صحيح أن قمة ألاسكا لم تُسفر عن إعلان مشترك أو اتفاق مكتوب، إلا أن اللقاء نفسه يحمل أبعادا رمزية خطيرة. الصورة التي جمعت ترمب وبوتين، والتصريحات العامة التي ركّزت على ضرورة "وقف الحرب" دون تحديد المسؤولية تقرأها موسكو وعواصم أخرى، على أنها إعادة تأهيل دبلوماسي لرئيس غزا دولة جارة وانتهك القانون الدولي.
الأخطر بالنسبة إلى قادة أوروبيين أن قمة ألاسكا 2025 تعيد إلى الأذهان قمة ميونيخ 1938 بين رئيسي الوزراء البريطاني نيفيل تشامبرلين والفرنسي إدوار دالادييه مع أدولف هتلر
الأخطر بالنسبة إلى قادة أوروبيين، أن قمة ألاسكا 2025 تعيد إلى الأذهان قمة ميونيخ 1938 بين رئيسي الوزراء البريطاني نيفيل تشامبرلين والفرنسي إدوار دالادييه مع أدولف هتلر. طبعا كل الظروف تغيرت والدول الغربية تغيرت وسيد الكرملين الحالي ليس هتلر، بل إن موسكو حاربته، لكن الجامع بين القمتين، أمر رئيسي، وهو غياب الطرف المعني، أو الضحية. قمة ميونيخ تناولت مصير منطقة السوديت التابعة لتشيكوسلوفاكيا دون إشراك الحكومة التشيكية. حاولت لندن وباريس تجنب الحرب عبر تقديم تنازلات لهتلر، فكانت النتيجة اجتياح تشيكوسلوفاكيا بالكامل بعد أشهر من قمة ميونيخ ثم اندلاع الحرب العالمية الثانية.
مرة جديدة، بوتين ليس هتلر وروسيا ليست ألمانيا النازية. لكن وبعد ما يقرب من تسعين سنة، فإن الرئيس الروسي، الذي هاجمت قواته أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم ويسعى لإخضاع مناطق أخرى من شرق أوكرانيا ونزع سلاح كييف، يجد نفسه في موقف تفاوضي ندّي مع زعيم أميركي، دون أن يُطلب منه انسحاب عسكري أو تنازل، ودون أي شرط مسبق ولا حتى مشاركة الطرف الأوكراني المعني بالقرار.
قيل وكتب الكثير عن دروس ميونيخ، أحدها فشل "سياسة الاسترضاء". لكن القلق الأعمق لدى الدول الأوروبية الرئيسة من تكرار "سيناريو ميونيخ"
مستقبل أوكرانيا ومناطقها الشرقية وتبادل الأراضي وعضوية "الناتو" والضمانات الأمنية ونزع سلاح كييف، كانت أمورا على طاولة ترمب–بوتين لثلاث ساعات دون أوكرانيا، هو تكرار لأحد أخطر جوانب قمة ميونيخ لثلاثة أيام. فعندما تغيب الدولة المعنية عن طاولة المفاوضات، فإن ذلك يُعدّ اعترافا ضمنيا بشرعية الحرب المفروضة ويفتح شهية المهاجم والطرف المحاور، ويقرأ كل ذلك على أنه نقاط ضعف وشقوق في حلف الخصوم. ومهما قيل عن رغبة ترمب في "وقف الحرب"، فإن تهميش كييف لا يُمكن فهمه إلا بوصفه رسالة تهاون وقبول بالواقع الذي فرضه بوتين بالسلاح في قلب أوروبا.
قيل وكتب الكثير عن دروس ميونيخ، أحدها فشل "سياسة الاسترضاء". لكن القلق الأعمق لدى الدول الأوروبية الرئيسة من تكرار "سيناريو ميونيخ". هتلر لم يتراجع بعد ميونيخ، بل ازداد تصعيدا. يقول الأوروبيون إن بوتين، الذي لم يتوقف بعد حرب جورجيا في 2008 وضم القرم عام 2014 وتدخل في سوريا عام 2015، واصل الزحف على أوكرانيا في 2022. واليوم، تمنح قمة ألاسكا انطباعا بأن ترمب مستعد للتفاوض مع بوتين دون مقابل ومن دون حضور زيلينسكي. وليس هناك أمهر من بوتين في قراءة هذه الرسائل وترجمتها في ساحة القتال الأوروبية.
في 2025 عاد ترمب إلى واشنطن من قمة ألاسكا التي عقدت لـ"تحقيق السلام". وفي عام 1938، عاد تشامبرلين من ميونيخ إلى لندن معتقدا أنه "جلب السلام". لكن ما جلبه في الحقيقة كان وعدا مزقته حرب في أوروبا
بعد انتهاء قمة ألاسكا، تنفس كثيرون الصعداء، أنها لم تتضمن اتفاقا مجحفا بحق أوكرانيا يذكر باتفاق ميونيخ. لم تتضمن اتفاق "ترمب الثاني" وبوتين على تبادل الأراضي بغياب زيلينسكي الذي قال إن هذا الأمر يعود للشعب بموجب الدستور الأوكراني. استطرادا لم تتضمن استسلام "ترمب الأول" لطلبات بوتين، كما فعل في قمم سابقة بينهما في 2017 و2018، عندما تخلت أميركا عن دعم المعارضة السورية وسلمت مناطقها إلى "سوريا الروسية".
في 2025 عاد ترمب إلى واشنطن من قمة ألاسكا التي عقدت لـ"تحقيق السلام". وفي عام 1938، عاد تشامبرلين من ميونيخ إلى لندن معتقدا أنه "جلب السلام". لكن ما جلبه في الحقيقة كان وعدا مزقته حرب في أوروبا. واليوم، يتوخى ترمب "سلاما" يعزز طموحه بـ "جائزة نوبل"، ويمنح بوتين ما هو أثمن: سجادة حمراء على أرض أميركية وكسر البروتوكول باعطائه أسبقية في المؤتمر الصحافي ومدح موقفه في قضايا داخلية، وشرعية التفاوض على مستقبل أوكرانيا وأمن أوروبا.
قد لا تتكرر الحرب العالمية الثانية التي اشتعلت بعد قمة ميونيخ. لكن كي لا يتكرر التاريخ بمعنى أو آخر، فإن مفتاح البحث عن حل دائم في أوكرانيا، يتطلب وجود كييف إلى طاولة التفاوض وليس على الطاولة، ومساهمة الدول الأوروبية المنخرطة عسكريا وماليا في الحرب والمتأثرة بأي تفاهمات مستقبلية، بطريقة تتجاوز الاتصالات التنسيقية ما قبل القمة وما بعدها، والأهم التزام ترمب في لقاءاته مع بوتين بما وعد حلفاءه الغربيين. هذه بعض "دروس ميونيخ"