الشرع والبيت الأبيض... و"المفتاح السعودي"

سوريا، للمرة الأولى منذ سنوات، تدخل المشهد الدولي من بوابة الفعل

الشرع والبيت الأبيض... و"المفتاح السعودي"

استمع إلى المقال دقيقة

مسارٌ لا يشبه البيانات الدبلوماسية، بل يشبه إعادة كتابة الجغرافيا. صورة واحدة تغيّر معادلة. رئيس سوري يطرق باب البيت الأبيض، لا كزائرٍ عابر، بل كدولة تعود إلى المشهد. المعادلات تتغير، والتحالفات تنقلب، والمنطقة تستعدّ لنسخة جديدة من "سوريا الأميركية" بعد تأرجح طويل بين "سوريا الروسية" و"سوريا الإيرانية".

في تاريخ الدول، هناك صور تغيّر موقعا سياسيا أكثر مما تغيّره معارك كبيرة. صورة رئيس سوري يدخل البيت الأبيض رسميا، ليست زيارة بروتوكولية إلى "قاعة الزوار"، بل إعلان بأن دمشق التي وُضِعت على هامش النظام الدولي طوال عقدٍ كامل، تعود إلى صدارة الطاولة.

يوم الاثنين، يلتقي الرئيس أحمد الشرع الرئيس الأميركي دونالد ترمب في البيت الأبيض. توقع سوريا اتفاق الانضمام إلى التحالف الدولي ضد "داعش". الحدث، في ذاته، يكفي لاهتزاز خرائط وإرباك تحالفات. لكنه في جوهره خطوة تتجاوز مكافحة الإرهاب، إلى إعادة صياغة التوازن الإقليمي برمّته، إنه إعلان الانتقال من ضفة إلى أخرى.

من لقاء الشرع الأول مع ترمب في الرياض في 14 مايو/أيار الماضي، إلى لقائهما الثاني على هامش اجتماعات الأمم المتحدة في نيويورك في سبتمبر/أيلول، كان واضحا أن الجسور تُبنى بصمت. دمشق التي اعتادت قاموس "محور الممانعة" و"الفيتو الروسي"، تنتقل إلى ضفة أخرى، والتحالف المباشر مع واشنطن. غير أن اللقاء في البيت الأبيض ليس امتدادا طبيعيا لتلك المحطات، بل الانتقال من "الهامش الدبلوماسي" إلى "المظلة الأميركية". وواشنطن، التي لا تمنح اعترافا مجانيا، تعرف تماما معنى أن تصافح سوريا على العلن.

لماذا الآن؟ لأن الولايات المتحدة تعرف عمق الزلزال الذي هز سوريا وانتقلت تردداته في الإقليم. نظام الأسد انتهى. إيران انسحبت. "حزب الله" حوصر. ميليشيات "هلال إيران" تلاشت. وشبكات الكبتاغون تبخرت. أيضا، اكتشفت واشنطن أن "داعش" لم يُهزم، بل تكيّف. التنظيم الذي خسر المدن، جعل الصحراء مقره، وتسلّل عبر الحدود كـ"شبح أمني" لا يحتاج إلى رايات. خلايا صغيرة، ضربات متناثرة، عودة للاغتيالات، واستثمار في الفراغات التي خلّفتها قوى متصارعة.

الأميركيون الذين ركزوا على الساحة العراقية، عادوا ليكتشفوا أن الانسحاب من الجغرافيا لا يعني الانسحاب من الخطر. المنطقة إذا لم تذهب إليها تأتي إليك. لذلك، لم تعد واشنطن تبحث عن شريك يثقل تركتها، بل عن دولة قادرة على ضبط الأرض. والمفارقة أن دمشق التي صُنّفت طوال سنوات جزءا من الأزمة، تُستدعى اليوم جزءا من الحل.

 

أدرك الشرع أن السعودية "مفتاح سوريا إلى العالم". القفزة الكبرى جاءت من الرياض. ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان قاد أكثر التحولات جرأة في المنطقة


دمشق أيضا وصلت إلى لحظة الحقيقة. طرق الشرع باب موسكو. زار الكرملين. بوتين لا يستطيع فكّ الحصار الاقتصادي أو إعادة الحياة إلى الدولة. لا يستطيع لجم نتنياهو وغاراته وتوغلاته. لا يستطيع ضبط شهية أردوغان وطموحاته. الداخل السوري مثقل بأزمة معيشية، خدمات منهارة، وجغرافيا ممزقة. التمسك بتحالف واحد لم يعد خيارا استراتيجيا، بل عبء مكلف. الانفتاح على واشنطن ليس انقلابا على "المحور" فحسب، بل قراءة باردة لمعادلات القوة. لا اقتصاد بلا منافذ دولية، ولا شرعية دائمة بلا اعتراف دولي، ولا أمن مستداما بلا منظومة إقليمية تتجاوز حدود الحلفاء والميليشيات.

لكن اللحظة الحاسمة ليست سورية–أميركية فقط، بل عربية. بعد سقوط النظام ووصول الشرع إلى "قصر الشعب"، كان السؤال: من يعيد سوريا إلى الإقليم؟ أدرك الشرع أن السعودية "مفتاح سوريا إلى العالم". القفزة الكبرى جاءت من الرياض. ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان قاد أكثر التحولات جرأة في المنطقة. أعادت الرياض هندسة منطق الأمن العربي. لا يمكن ترك المشرق تحت تهديد ميليشيات عابرة للحدود أو لقوى دولية تتصارع بالوكالة. إعمار سوريا هو وصفة استقرار. دخول دمشق في تحالف دولي بقيادة واشنطن هو تثبيت لمعادلة جديدة. الدولة فوق الفوضى، والمؤسسات فوق السلاح المنفلت، والحدود فوق النفوذ العابر، والعلاجات بدل المخدرات، والشراكات بدل الشبكات.

 لا يمكن لدمشق أن تربح واشنطن وتخسر موسكو أو أنقرة، ولا أن تفتح أبواب الغرب وتترك الحلفاء التقليديين يشعرون بالخيانة. لذلك، ستكون الهندسة الدقيقة لعلاقات متوازنة التحدي الأكبر في "اليوم التالي"

لهذا، يمكن القول إن إطلالة الشرع من باب البيت الأبيض، ما كانت لتتم دون "المفتاح السعودي". الدبلوماسية الصامتة، القنوات الخلفية، التفاهمات التي بُنيت بعيدا عن ضجيج الإعلام، والخطاب الجديد الذي يوازن بين الواقعية والشرعية، كلها هيأت اللحظة. السعودية تريد سوريا مستقرة لا ممزقة، عربية لا تابعا، دولة لا ساحة. وواشنطن تنصت. وربما للمرة الأولى، تنصت بجدية.

لكن الطريق أمام دمشق ليس مفروشا بالحرير. الأميركيون سيطالبون بالتزامات سياسية وإنسانية. التحالف ضد "داعش"، حل عقدة المقاتلين الأجانب، ممرات مساعدات، ملفات معتقلين، و"الكيماوي" وآليات الرقابة،  وتسريع مسار تفاوضي لترتيبات أمنية مع إسرائيل ثم سياسية وركوب قطار السلام.

القيادة السورية التي تخوض هذا التحول، تدرك أن أي خطوة تُحسب عليها داخليا وخارجيا. لا يمكن لدمشق أن تربح واشنطن وتخسر موسكو أو أنقرة، ولا أن تفتح أبواب الغرب وتترك الحلفاء التقليديين يشعرون بالخيانة. لذلك، ستكون الهندسة الدقيقة لعلاقات متوازنة هي التحدي الأكبر في "اليوم التالي".

المؤكد أن سوريا، للمرة الأولى منذ سنوات، تدخل المشهد الدولي من بوابة الفعل لا من بوابة الملف. توقّع، تفاوض، وتجلس كشريك لا كقضية. وهذا وحده، حتى قبل نتائج الزيارة، كافٍ لإعادة حساب المنطقة من جديد

أما موسكو فستقرأ الزيارة كإشارة مقلقة. واشنطن تعود إلى الملعب السوري لا بالصواريخ ولا بالعقوبات، بل عبر الباب السياسي والإغراءات والتحالفات. وإيران، التي أدمنت أن سوريا امتداد لجغرافيا نفوذها، تدرك أن سوريا الجديدة والمنطقة تفلتان من قبضتها وتمضيان إلى الخيار الآخر. تعرف طهران أيضا، أن التحالفات التي تُبنى فوق ركام الحروب يمكن أن تتبدل عندما تستعيد الدول عافيتها.

المفارقة أن الحرب التي مزقت سوريا، هي نفسها التي جعلتها اليوم رقما صعبا. لا استقرار للإقليم من دونها، ولا مواجهة للإرهاب من دون جيشها، ولا خرائط طاقة ولا حدود ولا لاجئين من دون ممراتها. وهذه الحقيقة هي التي تدخل مع الشرع إلى البيت الأبيض. ليست زيارة "استعادة صورة"، بل زيارة "استعادة كلمة". كسر العزلة والنهل من الاندماج.

هل يطلق الشرع رحلة  الذهاب إلى"سوريا الأميركية"؟ ربما. هل هي خطوة تكتيكية مؤقتة تبحث عن توازن بين اللاعبين الكبار؟ ربما. لكن المؤكد أن سوريا، للمرة الأولى منذ سنوات، تدخل المشهد الدولي من بوابة الفعل لا من بوابة الملف. توقّع، تفاوض، وتجلس كشريك لا كقضية. وهذا وحده، حتى قبل نتائج الزيارة، كافٍ لإعادة حساب المنطقة من جديد.

في السياسة، لا تعني الصور كل شيء. لكنها أحيانا تكون بداية كل شيء. صورة الشرع في البيت الأبيض، واحدة منها.

font change