لودفيغ دويتش أسير القاهرة الذي تجاهله دارسو الفنون

قدّم الشرق الساحر بأجوائه وألوانه

Pictures from History/Universal Images Group via Getty Images
Pictures from History/Universal Images Group via Getty Images
فرنسا/المغرب: "في المدرسة الدينية"، لوحة زيتية من عام 1900 للفنان لودفيغ دويتش (1855–1935)

لودفيغ دويتش أسير القاهرة الذي تجاهله دارسو الفنون

استطاع فنانون مستشرقون أن يصلوا إلى الطقوس الدينية الإسلامية ويصوروها في لوحاتهم، سواء في حركات الصلاة داخل المساجد أو في الحج إلى مكة والاحتفالات الدينية. وكان بعضهم يواجه خطر التعرض لردود الفعل من المتشددين الإسلاميين، الذين يرون تحريم الرسم، إذا ما أكتُشفوا وهم يتسللون إلى المساجد بقصد الرسم.

هناك فنانون تجاوزوا هذه الإشكالية باعتناقهم الإسلام، كما هو حال الفنان الفرنسي إيتيان دينيه (1861- 1929) الذي عاش جزءا من حياته في مدينة بوسعادة في الجزائر، حيث رسم بعض الطقوس الدينية الإسلامية مثل الحج والصلاة.

لا نعرف كيف استطاع الفنان النمساوي/ الفرنسي لودفيغ دويتش Ludwig Deutsch (1855- 1935) الوصول إلى أماكن عبادة المسلمين لتصويرها، إلا أننا نعرف أن هذا الوصول لم يكن مستحيلا. لذا وجدنا لوحات له تصور حركات الصلاة داخل المسجد، الأذان والركوع والسجود.

اهتمام عربي

رغم أهمية أعمال لودفيغ دويتش من حيث تصويره العديد من الملامح الشرقية الواقعية في زمنه، وبالذات في القاهرة، إلا أنه لم يلق الاهتمام المطلوب والمتناسب مع مكانته التاريخية، بخلاف فنانين آخرين من مثل دو لاكروا وإيتيان دينيه، اللذين حظيا بعدد من المعارض الاستعادية، مثل معرض دينيه الذي أقيم العام الماضي في "معهد العالم العربي" بباريس. صحيح أن فنانا مثل دو لاكروا قدم تجربة غنية في الفن عموما وفي استلهامه للأجواء الشرقية، مما منحه مكانة متميزة في الأوساط الفنية، لكن ذلك لا ينبغي أن يحد من الاهتمام بأعمال فنانين آخرين.

ربما، يشكل إصدار "معهد العالم العربي" بباريس كتابا عن لودفيغ دويتش، من تأليف المغربية لطيفة لبصير ضمن سلسلة "ألف كتاب وكتاب"، بداية الالتفات إلى أعمال هذا الفنان المفتون بالشرق، أو "أسير القاهرة"، كما لُقّب. إذ يُعدّ هذا الكتاب أول مؤلف عن هذا الفنان باللغة العربية على الأقل. وقد أشارت لبصير إلى تزايد الاهتمام بأعمال دويتش في السنوات الأخيرة، خاصة في المجموعة التي اقتناها شفيق جبر.

تنحو أعمال دويتش إلى التصوير الواقعي المتفحص كل تفاصيل الأمكنة والشخوص، من أشياء وألوان ومساحات، مما يبعدها عن الأجواء الرومانسية التي سبقت وصاحبت أبناء جيله من الفنانين

وُلد لودفيغ دويتش في النمسا، من عائلة مقربة من بلاط الإمبراطور النمساوي، ودرس في أكاديمية الفنون في فيينا قبل أن ينتقل إلى باريس ليقيم فيها حتى وفاته قبل تسعين عاما. زار القاهرة منذ 1883 أربع مرات، ورسم هناك ملامح عديدة لهذه المدينة التي كانت في بداية تشكلها لعصر جديد، لكنه جلب معه أيضا إلى مرسمه في باريس كل الأشياء والمواد والصور التي كانت تساعده في رسم اللوحات واستذكار فضاءاتها مثل التحف والمشربيات والبلاط والأحجار.

Chris J Ratcliffe/Getty Images for Sotheby's
(يمين) لوحة "صلاة الصباح" للفنان لودفيغ دويتش تُعرض ضمن 155 عملا من أعظم مجموعة لفن الاستشراق في مزاد سوثبيز، لندن، 11 اكتوبر 2019

صلاة الصبح

تنحو أعمال لودفيغ دويتش إلى التصوير الواقعي المتفحص كل تفاصيل الأمكنة والشخوص، من أشياء وألوان ومساحات، مما يبعدها عن الأجواء الرومانسية التي سبقت وصاحبت أبناء جيله من الفنانين الذين سافروا إلى الشرق أو تخيلوه في لوحاتهم كمجتمع إغوائي للقصص والحريم، متأثرين في ذلك بقصص "ألف ليلة وليلة" التي كان أنطوان غالان ترجمها إلى الفرنسية عام 1704.

تلاحظ لبصير في كتابها أن دويتش اهتم كثيرا بنقل الفضاء الإسلامي، فتقرأ عددا من لوحاته التي تصور هذا الفضاء مثل لوحة "ساعة آذان الصلاة" (1887) ولوحة "صلاة الصبح" (1902) التي "تُظهر رجلين في لحظات خشوع" وتأمل عميق. ولوحة أخرى تُظهر مسلما وهو يؤدي الصلاة، يلتقط فيها الفنان "مظهرا مهما في أداء الصلاة، ألا وهو الخشوع، بحيث يمثل هذا علامة مميزة لأداء الصلاة، ومن الصعوبة بمكان، تتبع كل المشاعر التي تمر منها الصلاة في ركوعها وسجودها وطقوسها".

Pictures from History/Universal Images Group via Getty Images
فرنسا/المغرب: "المدخّن"، لوحة زيتية على خشب من عام 1903 للفنان لودفيغ دويتش (1855–1935)

نجد في اللوحة "معالم المكان الإسلامي، من خلال هندسته العربية، والقرآن الموضوع فوق المقرأة، والزريبة بشكلها الفني المزخرف، الذي يكاد يماثل الجدار المزلج، وبتطابق الألوان التي تتماهى أيضا مع ألوان اللباس التقليدي الذي يرتديه المسلم في أثناء تأديته الصلاة، كل ذلك بألوان خافتة، يشع منها لون أصفر هادئ مقتصد في بريقه. كما يشكل الفضاء العام روح الشرق بالطريقة الهندسية التي عُرف عليها المستشرقون الفرنسيون، لكونهم كانوا الأقرب للقبض على روح الثقافة الإسلامية، ولذا كان واضحا تأثره بالمدرسة الفرنسية في هذا المنحى الذي بدا جليا في ريشته التي اقتنصت الروح العالية للشرق الإسلامي".

صور تقليدية

تقول لبصير إن دويتش قدم الشرق بدون رتوش، ولذلك وجدناه يصور ناسخ الرسائل في لوحة تظهر مستوى التعليم ومعرفة الناس بالقراءة والكتابة، كما يصور الجدران المهترئة والأبواب العتيقة ووجوه الناس الفقيرة. ونجد ضمن أعماله "العديد من الجماعات التي صوّر من خلالها روح القاهرة القديمة، بشكل أشبه بواقعية توثيقية واصفة، فهناك جماعة المصلين وجماعة الموسيقيين وجماعة الحراس والبائعين والتجار والعلماء والمثقفين والناس في نشاطهم اليومي، أو الاحتفالي أو الديني. وكذا الفضاءات القروية".

دويتش لا يختلف، في هذا المنحى، عن سابقيه في تقديم الشرق الساحر بأجوائه وألوانه وشخوصه، خصوصا إذا عرفنا أنه رسم بعض لوحاته استلهاما من أجواء الحريم، قبل أن يرى المرأة في واقعيتها

مع ذلك، لا تلاحظ لبصير أن دويتش في رسمه الأجواء الشرقية قلد من سبقه من الفنانين، من خلال الاهتمام برسم الملابس المزركشة الزاهية الألوان التي لا تلبسها سوى الطبقات الغنية الحاكمة أو القريبة منها كالفقهاء والقضاة ورجال الدين والدولة، كما أن الأمكنة المرسومة لا تبتعد، في معظمها، عن هذه الأجواء، فهي دائما بالقرب منها حتى حين يرسم حارسا لقصر بسلاحه وبدلته الرسمية.  ولذا يمكن اعتبار لوحات مثل "البقرة والجاموسة" و"بائعات البرتقال" و"بائع السحلب" استثناء في تصويرها جوانب من المجتمع العام غير الرسمي.

Alamy
"صباح العيد"، لوحة رسمها لودفيغ دويتش عام 1902، تجسد مشهدا من احتفالات عيد الفطر بأسلوب واقعي دقيق

لا يختلف لودفيغ دويتش، في هذا المنحى، عن سابقيه في تقديم الشرق الساحر بأجوائه وألوانه وشخوصه، خصوصا إذا عرفنا أنه رسم بعض لوحاته استلهاما من أجواء الحريم، قبل أن يرى المرأة في واقعيتها، زائرة للمقابر في يوم عيد الفطر، أو برفقة جاموستها. فهو يصبح مختلفا منذ أول زيارة للقاهرة، إذ "برز تأثير الشرق على أسلوبه وأصبحت لوحته أكثر إشراقا وإضاءة، والأكثر من ذلك أنه استطاع أن يبرز مهارته في نقل ملامح القاهرة كإثنوغرافي ماهر"، بحسب قول لطيفة لبصير.

تخلص لبصير إلى أن دويتش وجد في القاهرة ما جعل اسمه يقترن بهذه المدينة "حتى إنه كان يرتدي الملابس الشرقية آنذاك، ويضع عمامة على رأسه ويجلس الجلسات التي تميز العرب وهو يلعب الشطرنج، أو يقرأ أو يتابع ما يحدث في شوارع القاهرة، حتى إنه نقل كل ما يحدث بدقة متناهية غريبة، وكأنها صور فوتوغرافية، فتماهى مع الواقعية القصوى التي ظهرت في ما بعد، ولذا بدا التشكيك في كثير من الأحيان في فنية لوحاته، وذلك لمماثلتها القوية للواقع، ونقلها لمختلف التفاصيل بدقة متناهية".

Pictures from History/Universal Images Group via Getty Images
"لعبة الشطرنج"، لوحة زيتية على خشب رسمها لودفيغ دويتش عام 1896

يبقى السؤال في الكتابة عن هذا الفنان، ما إذا كان سيحظى في يوم ما باهتمام يليق بتجربته الفنية، والشرقية منها خاصة، من قبل المؤسسات الثقافية العربية؟ وهل سنشهد معارض لأعماله في مدن عربية أو أوروبية؟ فأعماله، كما أعمال الفنانين المفتونين بالشرق، تدل على حياة جمالية عاشتها هذه الأمكنة، وهي بحاجة دائمة للتذكير.

font change