"الجامعة العربية" والأمم المتحدة و"آسيان" والاتحاد الأوروبي... التأسيس والتأثير (1-2)
بين البيروقراطية والإجماع و"الفيتو" تختلف آلية اتخاذ القرار
المجلة
"الجامعة العربية" والأمم المتحدة و"آسيان" والاتحاد الأوروبي... التأسيس والتأثير (1-2)
لندن - "المجلة"
آخر تحديث
تستعرض "المجلة" تاريخ أربع منظمات رئيسة في العالم، هي جامعة الدول العربية، الأمم المتحدة، ورابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، والاتحاد الأوروبي. كيف تأسست كل واحدة؟ أعضاؤها؟ آلية اتخاذ القرارات؟ التأثير؟ الموازنة؟ المقر؟ هنا الحلقة الاولى من حلقتين.
ما الفروقات والتشابهات الرئيسة بين هذه المنظمات الإقليمية والدولية؟ وما تأثير كل واحدة منها؟ ولماذا بعضها مؤثر أكثر من الأخرى؟
أولا: جامعة الدول العربية
سنة التأسيس: تأسست الجامعة في 22 مارس/آذار 1945 بسبع دول مؤسسة هي مصر والسعودية والعراق وشرق الأردن (الأردن حاليا) ولبنان وسوريا واليمن.
مقر المنظمة: القاهرة، مصر. نص ميثاق الجامعة على أن يكون المقر الدائم في القاهرة، مع إمكانية نقله بقرار الأعضاء. بالفعل نُقل المقر مؤقتا إلى تونس بين 1979 و1990 إثر توقيع مصر اتفاقية كامب ديفيد، ثم عاد إلى القاهرة لاحقا.
عدد الموظفين: لا تفصح الجامعة العربية عن ميزانياتها ولا حجم جهازها الإداري. المساهمات الرسمية تُحدد عبر إجماع الدول الأعضاء، وفقا للتقييمات التوافقية والمستندة غالبا إلى قاعدة الحصة المعتمدة في الأمم المتحدة، ضمن نطاق 1–14 في المئة لكل دولة عربية.
لا يشترط ميثاق الجامعة العربية أن يكون الأمين العام مصريا ولا توجد جنسية محددة لمنصب الأمين العام. ومع ذلك جرى العُرف على اختيار أمين عام من مصر في معظم الأحيان
نظام التصويت: لكل دولة عضو صوت واحد في مجلس جامعة الدول العربية. تُتخذ القرارات بالأغلبية، لكن لا تكون ملزمة إلا لمن يقبلها من الدول. عمليا يؤدي ذلك إلى اعتماد الإجماع. فإذا اعترضت دولة على قرار ما، لا يُفرض عليها تنفيذه كما حدث مع العراق عندما غزا الكويت. مع أن هذا يعكس احترام سيادة الدول لكنه يحد من قدرة الجامعة على فرض قرارات جماعية.
وتيرة الاجتماعات والقرارات: يعقد القادة العرب قمة سنوية عادية (مع قمم استثنائية عند الضرورة) لوضع السياسات والتوجهات العامة. كما يجتمع مجلس وزراء الخارجية دوريا (عادة مرتين سنويا على الأقل) لمتابعة التنفيذ. تصدر عن هذه الاجتماعات قرارات مشتركة عديدة، لكن نظرا لآلية التصويت السابقة تظل معدلات الامتثال متفاوتة. بشكل عام، تعتمد القمم عدة قرارات وإعلانات سنويا (غالبا ما يصل عددها إلى العشرات في كل قمة)، إلا أن تنفيذها يعتمد على إرادة كل دولة.
أعلام الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية، مرفوعة في الشارع قبل انعقاد القمة العربية الـ34 في بغداد، العراق، 15 مايو 2025
مقر الدولة المضيفة للقمة: لا يفرض ميثاق الجامعة أن تكون الدولة المضيفة للقمة هي مقر المنظمة. مقر الجامعة ثابت في القاهرة بحسب الميثاق (مع استثناءات كما ذُكر)، أما رئاسة القمة فتكون سنوية وبالتناوب بين الدول الأعضاء بغض النظر عن موقع المقر. أي إن احتضان مقر الجامعة في مصر لا يمنحها امتيازا رسميا في استضافة جميع القمم أو التحكم بانعقادها. كما أن مقر الجامعة يمكن نقله إذا كان هناك توافق على ذلك.
جنسية الأمين العام: لا يشترط ميثاق الجامعة أن يكون مصريا ولا توجد جنسية محددة لمنصب الأمين العام. ومع ذلك جرى العُرف على اختيار أمين عام من مصر في معظم الأحيان. وكان الاستثناء البارز خلال فترة نقل المقر إلى تونس، حيث تولى تونسي المنصب (الشاذلي القليبي 1979–1990) عموما، اختيار الأمين العام يتم بقرار من مجلس الجامعة وبأغلبية ثلثي الأعضاء، ويمكن نظريا أن يكون من أي دولة عربية عضو إذا توافقت الدول على ذلك، لكن التقليد التاريخي رسخ حصة غير رسمية لمصر في هذا المنصب.
يقع مقر الأمم المتحدة على أرض دولية في نيويورك بناء على اتفاق مقر مع الحكومة الأميركية. كما تمتلك الأمم المتحدة مكاتب رئيسة إضافية في كل من جنيف وفيينا ونيروبي
ثانيا، منظمة الأمم المتحدة
سنة التأسيس: بعد الجامعة العربية أُنشئت الأمم المتحدة في أكتوبر/تشرين الأول 1945 عقب الحرب العالمية الثانية، ودخل ميثاقها حيز النفاذ في 24 أكتوبر 1945،ـ وهو اليوم الذي يُحتفل به سنويا كـ"يوم الأمم المتحدة". بدأتها 51 دولة مؤسسة ثم توسعت إلى193 دولة حاليا. أربع دول عربية شاركت في تأسيس الأمم المتحدة، وهي السعودية ومصر وسوريا ولبنان.
مقر المنظمة: نيويورك، الولايات المتحدة الأميركية. اختارت الدول المؤسسة نيويورك مقرا رئيسا للمنظمة عام 1946. يقع مقر الأمم المتحدة على أرض دولية في نيويورك بناء على اتفاق مقر مع الحكومة الأميركية. كما تمتلك الأمم المتحدة مكاتب رئيسة إضافية في كل من جنيف وفيينا ونيروبي، لكن مقرها الدائم والرمزي هو مبنى الأمم المتحدة على ضفاف نهر إيست في نيويورك. تجدر الإشارة إلى أن ميثاق الأمم المتحدة لم يحدد مدينة المقر في نصه. اختيار الموقع جاء بقرار الجمعية العامة والدول المؤسسة، وبالتالي لا يوجد التزام قانوني بأن تكون الدولة المضيفة مقر المنظمة، وإنما هو واقع نشأ بالتوافق آنذاك.
عدد الموظفين: تعمل الأمم المتحدة بجهاز إداري ضخم ينتشر حول العالم. يعمل في الأمانة العامة للأمم المتحدة وحدها أكثر من 40 ألف موظف في مقرات ومكاتب مختلفة. هؤلاء الموظفون الدوليون يشملون إداريين وخبراء وموظفي بعثات السلام وغيرهم، ويخضعون لقواعد الخدمة المدنية الدولية. هذا العدد الكبير (حوالي 35–40 ألفا) يتعلق بموظفي الأمانة العامة وحدها. وإذا أُضيف موظفو الوكالات والبرامج التابعة (مثل "يونيسيف" وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي وغيرهما) يتجاوز إجمالي عدد أسرة الأمم المتحدة ذلك بكثير.
خلال انعقاد الدورة الاستثنائية الطارئة للجمعية العامة للأمم المتحدة في الذكرى الثالثة للغزو الروسي لأوكرانيا، في مقر الأمم المتحدة في نيويورك، الولايات المتحدة، 24 فبراير 2025
نظام التصويت: تمتلك الأمم المتحدة هيكلا معقدا لصنع القرار:
في الجمعية العامة، لكل الدول الأعضاء لكل دولة صوت واحد. تُتخذ القرارات العادية بأغلبية بسيطة للحاضرين المصوتين، أما القرارات في المسائل الهامة، مثل السلم والأمن، وقبول أعضاء جدد، والميزانية، فتتطلب أغلبية الثلثين. لا يوجد حق نقض (فيتو) في الجمعية العامة، وقراراتها تكون على سبيل التوصية غير ملزمة، عدا الأمور الداخلية كاعتماد الميزانية.
في مجلس الأمن 15 دولة: (5 دائمة+ 10 منتخبة) لكل عضو صوت واحد، لكن القرارات المُلزمة في القضايا الموضوعية، تتطلب موافقة 9 أعضاء على الأقل بشرط عدم اعتراض أي من الأعضاء الخمسة الدائمين، إذ يتمتع الأعضاء الدائمون (الولايات المتحدة، روسيا، الصين، فرنسا، بريطانيا) بـحق النقض (فيتو) الذي يسمح بإفشال القرارات حتى لو أيدتها الأغلبية.
أما المسائل الإجرائية في المجلس فتُقر بأغلبية 9 أصوات دون حاجة لإجماع الدول الدائمة. هذه الآلية تجعل مجلس الأمن الجهاز الأقوى قرارا (قراراته ملزمة للدول ولكنها خاضعة لتوافق الكبار بسبب الفيتو).
وتيرة الاجتماعات والقرارات:
الجمعية العامة تنعقد في دورة سنوية رئيسة (من سبتمبر/أيلول حتى ديسمبر/كانون الأول كل عام) تعقد خلالها عشرات الجلسات وتناقش مئات البنود. وتُصدر الجمعية في كل دورة عددا كبيرا من القرارات (غالبا ما يتراوح بين 250 إلى 350 قرارا في الدورة العادية الواحدة)، تغطي طيفا واسعا من القضايا الدولية. هذه القرارات في معظمها توصيات غير ملزمة، لكنها تعكس إرادة المجتمع الدولي وتشكل إطارا للعمل المشترك.
مجلس الأمن في حالة انعقاد مستمر تقريبا على مدار السنة. يعقد المجلس اجتماعات دورية (أسبوعية وأحيانا يومية في الأزمات)، ويصدر حوالي 50 إلى 60 قرارا سنويا ذات صفة إلزامية. على سبيل المثال، اعتمد مجلس الأمن 54 قرارا في سنة 2022 وحدها، منها قرارات تخص نزاعات كسوريا واليمن وأخرى تجدد ولايات بعثات سلام. بالإضافة إلى ذلك، يصدر المجلس بيانات رئاسية وتصريحات صحافية تعكس مواقف توافقية لأعضائه. أما المجلس الاقتصادي والاجتماعي ومجلس حقوق الإنسان وغيرهما من الأجهزة فتجتمع عدة أسابيع في السنة وتصدر هي الأخرى مقررات وتوصيات عديدة في مجالات تخصصها.
لا تفرض الأمم المتحدة جنسية محددة على من يتولى منصب الأمين العام. وتنص المادة 97 من الميثاق على أن تعين الجمعية العامة الأمين العام بناء على توصية مجلس الأمن، دون أي اشتراط لجنسية المرشح
مقر الدولة المضيفة: لا يشترط ميثاق الأمم المتحدة أن تكون الدولة المضيفة هي مقر المنظمة بشكل حصري. فالميثاق ترك مسألة تحديد مقر المنظمة للجمعية العامة التي قررت بعد تأسيس الأمم المتحدة عقد المقر في الولايات المتحدة. وقد وُقع اتفاق المقر بين الأمم المتحدة والولايات المتحدة عام 1947 لتنظيم الوضع القانوني للمقر في نيويورك. وعليه، تستضيف الولايات المتحدة المقر الرئيس باعتبارها دولة عضو (وكبرى الدول المؤسِسة)، لكن من الناحية النظرية يمكن تغيير مكان المقر إذا قررت الدول الأعضاء ذلك (وإن كان الأمر غير مطروح عمليا). تجدر الإشارة إلى أن وضع المقر في نيويورك لا يمنح الولايات المتحدة سلطة على المنظمة، إذ يتمتع المقر بالحصانة والسيادة الدولية الخاصة بالأمم المتحدة. بالإضافة إلى نيويورك، توجد مكاتب رئيسة للأمم المتحدة في جنيف وفيينا ونيروبي وجميعها ضمن دول أعضاء مضيفة بموجب اتفاقات مقر محلية، مما يؤكد أن استضافة المقر أمر مرن يخضع لاعتبارات توافقية وليس شرطا قانونيا ثابتا.
جنسية الأمين العام: لا تفرض الأمم المتحدة جنسية محددة على من يتولى منصب الأمين العام. تنص المادة 97 من الميثاق ببساطة على أن تعين الجمعية العامة الأمين العام بناء على توصية مجلس الأمن، دون أي اشتراط لجنسية المرشح.
على مدى التاريخ، جاء الأمناء العامون من دول مختلفة (النرويج، السويد، بورما/ميانمار، النمسا، بيرو، مصر، كوريا الجنوبية، والبرتغال)، ولم تأت أي منهم من الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن. هناك عرف غير مكتوب بأن لا يُختار الأمين العام من جنسية إحدى الدول الكبرى دائمة المقعد لتجنب تركيز النفوذ، وكذلك يُراعى التناوب الجغرافي بين مناطق العالم. الأمناء العامون غالبا شخصيات دبلوماسية من دول متوسطة الحجم ذات سياسات خارجية محايدة. هذا التوازن غير ملزم قانونا لكنه مطبق سياسيا. بالمحصلة، يمكن لأي شخص من أي دولة عضو (كبيرها أو صغيرها) أن يرشح للمنصب إذا حاز توافق مجلس الأمن وتصويت الجمعية العامة، لكن الواقع العملي جعل المنصب يدور بين جنسيات متنوعة بعيدا عن جنسيات الدول العظمى.
ثالثا: رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)
سنة التأسيس: تأسست رابطة دول جنوب شرق آسيا في 8 أغسطس/آب 1967 بتوقيع إعلان بانكوك من قبل خمس دول مؤسسة هي إندونيسيا وماليزيا والفلبين وسنغافورة وتايلاند. وتوسعت المنظمة لاحقا ليصبح أعضاؤها 10 دول اعتبارا من أواخر التسعينات (بانضمام بروناي ثم فيتنام ولاوس وميانمار وكمبوديا).
مقر المنظمة: جاكرتا، إندونيسيا. اتفقت الدول الأعضاء عام 1976 على إنشاء أمانة دائمة للرابطة يكون مقرها في جاكرتا، وتم تكريس ذلك لاحقا في ميثاق "آسيان" (2008) الذي نص صراحة على أن مقر الأمانة العامة في جاكرتا. وتحتضن إندونيسيا ذلك المقر المركزي (مبنى أمانة "آسيان") الذي افتُتح في 2019 بدعم إندونيسي. لا يوجد نص يلزم بأن تكون دولة المقر هي دولة محددة بالاسم، لكن تم الاتفاق جماعيا على اختيار جاكرتا عاصمة أكبر دولة مؤسسة، كمقر دائم منذ السبعينات. ولم يتغير هذا الاختيار منذ ذلك الحين.
تتبع "آسيان" نهجا فريدا في صنع القرار يقوم على التوافق (Consensus) وعدم الأغلبية العددية
عدد الموظفين: يتميز هيكل أمانة "آسيان" بأنه صغير الحجم نسبيا قياسا بالمنظمات الأكبر (كالأمم المتحدة أو حتى الاتحاد الأوروبي). يبلغ عدد موظفي أمانة "آسيان" حوالي 300 إلى 350 موظفا فقط يشملون الأمين العام ونوابه وموظفين فنيين وإداريين من جميع الدول الأعضاء. هذا العدد المحدود يعكس حرص كل الدول الأعضاء على إبقاء الجهاز المركزي خفيفا، وكذلك الميزانية المتواضعة للرابطة. وبالرغم من ذلك، يجري تعزيز قدرات الأمانة بشكل مستمر (مثال ذلك تشييد مقر حديث في جاكرتا لتحسين كفاءة العمل).
نظام التصويت: تتبع "آسيان" نهجا فريدا في صنع القرار يقوم على التوافق (Consensus) وعدم الأغلبية العددية. ينص الميثاق (المادة 20) على أن القاعدة الأساسية لاتخاذ القرار في "آسيان" هي التشاور والتوافق الجماعي. بمعنى أن القرارات الرئيسة لا تُعتمد إلا بإجماع كافة الدول العشر أو على الأقل دون اعتراض صريح من أي دولة. لا تلجأ "آسيان" إلى التصويت الرسمي إلا نادرا جدا، وتفضل التسويات عبر الدبلوماسية الهادئة فيما يعرف بـ"أسلوب آسيان" الذي يعطي أولوية لتجنب الخلافات العلنية. في الحالات التي يتعذر فيها التوصل لإجماع كامل، يُترك الموضوع لمزيد من التشاور أو تؤجل القرارات، مع وجود آلية نص عليها الميثاق تتيح للقمة الآسيوية أن تقرر حلا في حالة عدم الإجماع، لكن هذه الآلية لم تُستخدم تقريبا.
صورة جماعية خلال القمة الـ 46 لرابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) في كوالالمبور في 26 مايو 2025
وتيرة الاجتماعات والقرارات:
قمة "آسيان": يلتقي قادة دول "آسيان" في قمتين رسميتين كل عام منذ دخول ميثاق "آسيان" حيز التنفيذ في 2008 . عادة تُعقد قمة في النصف الأول من العام وأخرى في النصف الثاني برئاسة الدولة التي تتولى الرئاسة الدورية السنوية. تشمل القمة اجتماعات مغلقة للقادة تليها اجتماعات موسعة بمشاركة شركاء الحوار (مثل قمة "آسيان +3" مع الصين واليابان وكوريا، وقمة شرق آسيا). تصدر عن كل قمة بيانات ختامية مشتركة تعكس توافق الدول الأعضاء حول قضايا سياسية وأمنية واقتصادية، إلى جانب خطط عمل واتفاقيات يتم توقيعها أحيانا في مجالات التعاون المختلفة.
اجتماعات وزارية ولجان فنية: إضافة إلى القمة، تعقد "آسيان" مئات الاجتماعات سنويا على مستويات وزارية وكبار المسؤولين واللجان الفنية. فعلى سبيل المثال، هناك اجتماعات دورية لوزراء الخارجية (مرتين سنويا على الأقل)، ووزراء الاقتصاد، والدفاع، وغيرهما، فضلا عن اجتماعات عشرات الفرق العاملة في مجالات تتراوح من البيئة إلى حقوق الإنسان. هذا العدد الضخم من الاجتماعات (يقدر بأكثر من 1000 اجتماع في العام بمختلف المستويات) يهدف إلى تنسيق السياسات وضمان تنفيذ الالتزامات. ومع أن "آسيان" لا تُصدر "قرارات ملزمة" بالمعنى القانوني مثل مجلس أمن الأمم المتحدة، إلا أنها تعتمد مئات من التوصيات وخطط العمل المشتركة سنويا عبر هذه الاجتماعات، ويتم تنفيذها طوعيا وفق مبدأ المسؤولية الجماعية واحترام سيادة الدول.
لا يمتلك الاتحاد الأوروبي مقرا مركزيا واحدا فقط. فمؤسساته الرئيسة موزعة بين عدة دول أوروبية حسب ما اتفقت عليه الحكومات الأعضاء
مقر الدولة المضيفة: ينص نظام "آسيان" على تثبيت مقر الأمانة في دولة معينة (إندونيسيا). لكنه لا يمنح الدولة المضيفة سلطة خاصة على المنظمة. فإندونيسيا تستضيف أمانة "آسيان" في جاكرتا بناء على اتفاق الأعضاء، لكن رئاسة "آسيان" وهيكلة اجتماعاتها دورية سنوية تنتقل بين الدول العشر بالتناوب وليست مرتبطة بدولة المقر. أي إن استضافة جاكرتا للمقر لا تعني أنها ترأس "آسيان" بشكل دائم أو تحتكر فعالياتها. لكل دولة عضو دور متساوٍ في ترؤس القمم واستضافة بعض الاجتماعات (كاجتماعات اللجان الفنية التي قد تُعقد في مختلف الدول). عليه، الدولة المضيفة للمقر (إندونيسيا) تؤدي فقط دور الدولة الراعية للأمانة من حيث توفير الدعم اللوجستي وتمثيل "آسيان" دبلوماسيا في جاكرتا، دون امتيازات سياسية إضافية داخل المنظمة.
جنسية الأمين العام: يتم توزيع منصب الأمين العام دوريا بين الجنسيات العشر. فبحسب ميثاق "آسيان"، يُعين الأمين العام من رعايا إحدى الدول الأعضاء بالتناوب الأبجدي لمدة غير قابلة للتجديد من 5 سنوات. ويتم اختيار الأمين العام بواسطة قمة القادة (بناء على ترشيح الدولة صاحبة الدور) ويُوافق عليه وزراء الخارجية. هذا يعني أنه على مدار كل 5 سنوات تنتقل الأمانة إلى قيادة جديدة من دولة مختلفة وفق ترتيب متفق عليه (على سبيل المثال: كان الأمين العام 2013–2017 من فيتنام، ثم 2018–2022 من بروناي، والآن 2023–2027 من كمبوديا وهكذا). الهدف من ذلك ضمان عدالة التمثيل الوطني وعدم احتكار جنسية واحدة للمنصب. الجدير بالذكر أن الأمناء العامين في "آسيان" يعملون كموظفين دوليين محايدين خلال توليهم المنصب رغم مجيئهم من دولهم، ويمثلون مصالح الرابطة ككل وليس مصالح دولهم فحسب.
رابعا، الاتحاد الأوروبي
سنة التأسيس: تتجذر أصول الاتحاد الأوروبي في معاهدة روما 1957 التي أنشأت الجماعة الاقتصادية الأوروبية بين ست دول مؤسسة. أما الاتحاد الأوروبي باسمه ونظامه الحالي فقد تأسس رسميا بموجب معاهدة ماستريخت 1992 التي دخلت حيز النفاذ في 1 نوفمبر/تشرين الثاني 1993. وقد تبلور "الاتحاد" عبر سلسلة معاهدات لاحقة (أبرزها معاهدة لشبونة في 2007) طورت هياكله وصلاحياته. لذا يمكن اعتبار عام 1993 ميلاد الاتحاد الأوروبي كمؤسسة سياسية موحدة، خلفا للجماعة الأوروبية التي بدأت عام 1957.
مقر المنظمة: لا يمتلك الاتحاد الأوروبي مقرا مركزيا واحدا فقط. فمؤسساته الرئيسة موزعة بين عدة دول أوروبية حسب ما اتفقت عليه الحكومات الأعضاء:
- بروكسل (بلجيكا): تُعتبر المركز الفعلي لـ"الاتحاد" حيث تستضيف المقر الرئيس لكل من المفوضية الأوروبية (الجهاز التنفيذي) ومجلس وزراء الاتحاد الأوروبي، المجلس الأوروبي واجتماعات وزراء الدول. (كما يقع في بروكسل المقر الرئيس لحلف شمال الأطلسي/ الناتو وكثير من مكاتب جماعات الضغط، مما أكسبها لقب "عاصمة أوروبا").
- ستراسبورغ (فرنسا): المقر الرسمي لبرلمان الاتحاد الأوروبي حيث تُعقد الجلسة العامة الرئيسة شهريا.
- لوكسمبورغ: تستضيف مقر محكمة العدل الأوروبية ومقر بنك الاستثمار الأوروبي وبعض إدارات المفوضية.
- فرانكفورت (ألمانيا): مقر البنك المركزي الأوروبي.
بالإضافة إلى ذلك توجد وكالات وهيئات أوروبية في مختلف الدول الأعضاء (مثلا وكالة الأدوية في أمستردام، الوكالة المصرفية في باريس... إلخ).
وهذه الترتيبات مثبتة في قرارات واتفاقات بين الدول. وبذلك، لا توجد دولة واحدة "مضيفة" للمقر على غرار المنظمات الأخرى. بل يُعتبر "الاتحاد" اتحادا فوق وطني متعدد المقرات داخل أراضيه. اختيار توزيع المراكز هذا جاء لتحقيق توازن سياسي وجغرافي بين الدول الكبرى.
نظام التصويت في "الاتحاد" هجين يجمع بين أغلبيات معقدة مدروسة لضمان التمثيل النسبي، وبين اشتراط الإجماع في المسائل الحساسة التي تلامس سيادة الدول
عدد الموظفين: يعمل لدى مؤسسات الاتحاد الأوروبي نحو 60 ألف موظف مدني دائم وغير دائم. يشمل ذلك موظفي المفوضية الأوروبية (32 ألفا) والأمانة العامة لمجلس الوزراء (ثلاثة آلاف) وموظفي البرلمان الأوروبي (سبعة آلاف) ومحكمة العدل وبقية الأجهزة، إضافة إلى وكالات "الاتحاد" المنتشرة. ورغم أن الرقم (60 ألفا) كبير، لكنه يُعتبر صغيرا نسبيا إذا قورن بعدد سكان "الاتحاد" (450 مليونا) وبحجم الإدارات الوطنية. إذ تفخر وثائق "الاتحاد" بأن الجهاز الإداري لخدمة نصف مليار أوروبي أقل عددا من موظفي وزارة المالية الفرنسية مثلا. ويعمل هؤلاء الموظفون من مختلف الجنسيات الأوروبية تحت لواء خدمة مدنية أوروبية مشتركة، ويخضعون لقواعد صارمة تضمن حيدتهم وكفاءتهم.
نظام التصويت: يتميز الاتحاد الأوروبي بتنوع أنظمة التصويت بحكم تعدد مؤسساته وطبيعة صلاحياتها:
- في المجلس الأوروبي (قمة القادة): تُتخذ القرارات الكبرى (كالتوجيهات السياسية العامة وتعديلات المعاهدات) بالتوافق بالإجماع بين رؤساء الدول والحكومات الـ27. يطلب الإجماع أيضا عند تعيينات المناصب العليا وبخصوص القضايا السيادية الحساسة.
- في مجلس وزراء الاتحاد الأوروبي (مجلس الاتحاد): وهو الهيئة التشريعية الرئيسة الممثلة لحكومات الدول، تختلف آلية التصويت باختلاف الموضوع. بموجب معاهدة لشبونة، معظم قرارات المجلس تُعتمد بأغلبية مؤهلة (QMV)، المحددة بأنها موافقة 55 في المئة على الأقل من الدول الأعضاء (15 دولة من 27 حاليا) بشرط أن تمثل هذه الدول 65 في المئة على الأقل من إجمالي سكان "الاتحاد". هذه الصيغة المزدوجة (الأغلبية المزدوجة للدول والسكان) تضمن تمرير القرارات بتأييد واسع. في المقابل، لا يمكن لثلاث دول كبرى فقط منع قرار إذا وافق عليه الباقون، إذ يجب لتشكيل أقلية معطلة أن تضم 4 دول على الأقل تمثل أكثر من 35 في المئة من السكان. هناك مجالات محدودة يشترط فيها الإجماع في مجلس الوزراء رغم وجود الـQMV، أبرزها السياسة الخارجية المشتركة، الضرائب، انضمام أعضاء جدد، وتعديل المعاهدات. في هذه المجالات يملك كل بلد حق الفيتو عمليا (مثلا أي عقوبات أو موقف خارجي موحد يتطلب إجماع كافة الدول). عموما، منذ الثمانينات و"الاتحاد" يوسع نطاق التصويت بالأغلبية لتسريع عملية صنع القرار، مع إبقاء الإجماع للمواضيع السيادية.
أعلام الاتحاد الأوروبي ترفرف خارج مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل، بلجيكا، 9 أبريل 2025
- في البرلمان الأوروبي: يتم التصويت بأغلبية بسيطة عادة على التشريعات بالاشتراك مع مجلس الوزراء (وفق آلية التشريع الاعتيادي). يمثل البرلمان إرادة شعوب "الاتحاد"، ولا يوجد فيه حق نقض لدولة معينة، بل الأغلبية هي المعيار (مع بعض الاستثناءات كالموافقة على تغييرات المعاهدات التي تتطلب أغلبية موصوفة أو حتى إجماع الدول في مصادقتها لاحقا).
- النتيجة الأخيرة: نظام التصويت في "الاتحاد" هجين يجمع بين أغلبيات معقدة مدروسة لضمان التمثيل النسبي (كما في الـQMV) وبين اشتراط الإجماع في المسائل الحساسة التي تلامس سيادة الدول. هذا التطور سمح لـ"الاتحاد" باتخاذ قرارات فعالة في معظم السياسات (كالتشريعات السوقية والبيئية وغيرها) دون أن تتمكن دولة واحدة من التعطيل، لكنه حافظ على مبدأ "الفيتو الوطني" في قضايا الأمن القومي والقضايا الخارجية.
وتيرة الاجتماعات والقرارات:
المجلس الأوروبي (قمة قادة "الاتحاد"): يُعقد بشكل منتظم أربع مرات سنويا (مرة كل فصل تقريبا) في بروكسل، بالإضافة إلى قمم استثنائية عند الضرورة. في هذه الاجتماعات يحدد القادة التوجهات الاستراتيجية العامة ويعالجون الأزمات الكبرى. تصدر عن كل قمة استنتاجات ختامية توافقية تعكس القرارات السياسية المتفق عليها.
مجلس وزراء الاتحاد الأوروبي: في حالة انعقاد مستمر تقريبا طوال العام عبر تشكيلاته المختلفة (مجلس الشؤون العامة، مجلس الاقتصاد والمالية، مجلس الزراعة… إلخ). يلتقي الوزراء المختصون من الدول الأعضاء شهريا تقريبا في كل مجال لصياغة التشريعات والسياسات المشتركة. كنتيجة لهذا الإيقاع المنتظم، يقوم المجلس (بالاشتراك مع البرلمان الأوروبي) باعتماد عدد كبير من القوانين واللوائح سنويا. في السنوات الأخيرة، يقر "الاتحاد" حوالي 80 توجيها و1200 لائحة و700 قرار سنويا في المتوسط تغطي مختلف المجالات من الاقتصاد والتجارة إلى البيئة والتنقل. هذه التشريعات ملزمة وتطبق مباشرة أو تُترجم إلى قوانين وطنية حسب نوعها. بالإضافة إلى ذلك، تصدر عن المجلس قرارات غير تشريعية وتوصيات في مجالات التنسيق العام.
الاتحاد الأوروبي كيان قائم على مبدأ المواطنة الأوروبية المشتركة، لذا يمكن لأي مواطن من أي دولة عضو أن يتقلد منصبا قياديا فيه إذا حصل على دعم الدول الأعضاء أو تم انتخابه برلمانياً
البرلمان الأوروبي: يعقد جلساته العامة في ستراسبورغ 12 مرة سنويا (جلسة واحدة كل شهر تقريبا) إضافة لجلسات إضافية ولجان برلمانية تجتمع في بروكسل بشكل متواصل لإعداد التشريعات ومراقبة بقية المؤسسات. البرلمان شريك كامل في العملية التشريعية لمعظم السياسات، ويصادق على مئات القوانين سنويا بالتعاون مع مجلس الوزراء. كما يصدر قرارات ومواقف سياسية تعبر عن رأي ممثلي الشعوب الأوروبية.
المفوضية الأوروبية: تنعقد كهيئة تنفيذية أسبوعيا وتتولى تنفيذ القرارات وإصدار اللوائح التنفيذية (آلاف القرارات الإجرائية سنويا في إطار تفويضها)
بالإجمال، عملية صناعة القرار في "الاتحاد" كثيفة ومستمرة، ما ينتج كماً كبيراً من القرارات والتشريعات كل عام تفوق بكثير ما تنتجه المنظمات الدولية التقليدية– وهو أمر تمليه طبيعة "الاتحاد" ككيان تكاملي له سلطات فوق وطنية واسعة.
مقر الدولة المضيفة: بخلاف الجامعة العربية لا يوجد مفهوم "الدولة المضيفة للمقر" في حالة الاتحاد الأوروبي كما هو الحال مع المنظمات الدولية الأخرى. فمقرات "الاتحاد" موزعة كما أسلفنا بين عدة دول أعضاء، بناء على اتفاقيات بين حكومات تلك الدول. مثلا تستضيف بلجيكا أكبر عدد من مؤسسات "الاتحاد" (المفوضية والمجلس ومعظم أعمال البرلمان)، وتستضيف فرنسا مقر البرلمان الرسمي، وتستضيف لوكسمبورغ المحكمة، وهكذا. وهذه الترتيبات منصوص عليها في بروتوكولات مرفقة بالمعاهدات الأوروبية وتعديل أي منها يتطلب إجماع كافة الدول الأعضاء. بالتالي يشارك أكثر من بلد في استضافة "مقار الاتحاد"، ولا يمكن لدولة واحدة ادعاء صفة الدولة "المقر". حتى إنه جغرافياً، يعتبر "الاتحاد" كل أوروبا مجاله ومقره، فاجتماعاته وقممه تتناوب بين البلدان (مثلا مجلس وزراء الداخلية قد ينعقد في دولة ترأس مجلس "الاتحاد" خلال فصل معين). وخلافا لمنظمات مثل الأمم المتحدة، لا يتمتع مقر مؤسسات "الاتحاد" بحصانة مطلقة عن الدولة المضيفة، بل يخضع لاتفاقات تستضيف بموجبها الدولة مؤسسة أوروبية معينة مع منحها الامتيازات الدبلوماسية اللازمة. عموما، النظام لا يشترط مقرا موحدا بل يقسمه لتحقيق توازن بين الأعضاء – وهو وضع فريد يعكس طبيعة "الاتحاد" كمنظومة تكاملية للدول أكثر منه منظمة دولية تقليدية.
جنسية الأمين العام: لا يوجد منصب أمين عام واحد للاتحاد الأوروبي يقابل نظراءه في المنظمات الأخرى. فالهيكل القيادي لـ"الاتحاد" موزع بين عدة مناصب عليا: رئيس المجلس الأوروبي (شخصية تُنتخب لفترة محددة لتمثيل قادة الدول في ترؤس القمم).
رئيس المفوضية الأوروبية (السلطة التنفيذية العليا)، الممثل السامي للسياسة الخارجية، بالإضافة إلى رئاسة البرلمان الأوروبي وغيرها. أي من هذه المناصب لا يخضع لقيد جنسية محددة سوى أن يكون المرشح مواطنا في إحدى دول "الاتحاد". في الواقع، جرت التقاليد السياسية على مراعاة التنوع الجغرافي عند توزيع المناصب الكبرى (مثلا عدم جمع أكثر من منصب رفيع بيد دولة واحدة في نفس الوقت)، ولكن لا يوجد شرط قانوني مكتوب بأن يحمل الرئيس جنسية دولة بعينها. فعلى سبيل المثال، تولى رئاسة المفوضية عبر التاريخ شخصيات من جنسيات مختلفة (ألمانية، فرنسية، إيطالية، لوكسمبورغية، برتغالية وغيرها) وفق التوافقات السياسية، وتولى رئاسة المجلس الأوروبي رؤساء من بلجيكا وبولندا حاليا (وهو منصب مستحدث في 2009). كذلك المناصب الأخرى موزعة بين غرب وشرق أوروبا وشمالها وجنوبها بالتناوب العرفي.
خلاصة القول: الاتحاد الأوروبي كيان قائم على مبدأ المواطنة الأوروبية المشتركة، لذا يمكن لأي مواطن من أي دولة عضو أن يتقلد منصبا قياديا فيه إذا حصل على دعم الدول الأعضاء أو تم انتخابه برلمانياً، دون أي قيود جنسية تفضيلية في النصوص التأسيسية.
غدا الحلقة الثانية: المقارنة العامة بين المنظمات الأربع