نحو رؤية عربية موحدة للأمن الإقليمي

من الضروري التمييز بين "نظام الأمن الإقليمي" و"البنية الأمنية الإقليمية"

أ.ف.ب
أ.ف.ب
أعلام الدول المشاركة في إحدى قمم مجلس التعاون الخليجي

نحو رؤية عربية موحدة للأمن الإقليمي

لعقود طويلة، تعمل إسرائيل على إعادة تشكيل الشرق الأوسط بما يخدم مصالحها، ولكنها كانت تحاول فرض ذلك عبر الهيمنة وليس التعاون. ومعروف أن الهيمنة تعني تجاهل مصالح جيرانها، بينما يفترض التعاون التوصل إلى توازن في المصالح بين جميع الأطراف الإقليمية. النموذج الأول يمكن فرضه، لكنه غير مستدام على المدى الطويل. أما النموذج الثاني، فليس من السهل تحقيقه، سوى أنه– إن تحقق– فسيعمّر ويكون مستداما.

ولعلّ في أفعال إسرائيل منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 شاهدا حيا على هذه السياسة. فقد رفعت العدوان العسكري إلى مستوى جديد، وارتكبت ضد الشعب الفلسطيني جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وإبادة جماعية، وفق تقارير منظمات حقوق الإنسان الدولية وتصريحات الخبراء. وفي لبنان، نفذت اغتيالات مستهدفة، ودمرت قرى وأحياء بأكملها. وهي ترفض الانسحاب من الأراضي التي احتلتها مؤخرا، في انتهاك للاتفاق الذي توسطت فيه الولايات المتحدة. كما دمرت الأصول العسكرية السورية بطريقة جعلت البلاد عاجزة عن الدفاع عن نفسها، واحتلت المزيد من الأراضي في وقت أعلنت فيه دمشق مرارا أنها لا ترغب في الدخول في أي مواجهات عسكرية مع أي طرف، ولن تسمح باستخدام أراضيها لشن هجمات ضد جيرانها. وأخيرا، استغلت إسرائيل ضعف إيران الجديد لمهاجمتها دون استفزاز. لقد قامت إسرائيل بهذه الأفعال جميعها من دون أدنى اعتبار لأرواح المدنيين الأبرياء أو القانون الدولي، ومن غير رؤية واضحة لنهاية اللعبة، اللهم إلا الهيمنة على المنطقة بأي ثمن.

يبدو أن أحد الأهداف الأساسية لرئيس الوزراء نتنياهو خلال زيارته الأخيرة إلى واشنطن كان استغلال ما يعتبره "إنجازات" إسرائيل في غزة ولبنان وسوريا وإيران، لإقناع الرئيس ترمب بأن الظروف باتت مواتية لإعادة تشكيل الشرق الأوسط بما يتماشى مع المصالح الإسرائيلية والأميركية على حد سواء.

يتمثل الهدف الاستراتيجي طويل الأمد للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، الذي تتوافق عليه إدارتا الحزبين الجمهوري والديمقراطي، في تقليص حضورها العسكري بالمنطقة لصالح توجيه مواردها بفاعلية أكبر نحو مواجهة الصين، التي تُعد الآن التحدي الأكبر للاستراتيجية الأميركية. ولتحقيق هذا الهدف، تسعى واشنطن إلى التخلي عن دورها كضامن أول لأمن الشرق الأوسط عبر إنشاء إطار بديل قادر على منع التصعيد العسكري والحفاظ على الاستقرار الإقليمي من دون تدخل أميركي مباشر.

يبدو أن أحد الأهداف الأساسية لرئيس الوزراء نتنياهو خلال زيارته الأخيرة إلى واشنطن كان استغلال ما يعتبره "إنجازات" إسرائيل في غزة ولبنان وسوريا وإيران، لإقناع الرئيس ترمب بأن الظروف باتت مواتية لإعادة تشكيل الشرق الأوسط بما يتماشى مع المصالح الإسرائيلية

هنا تبرز أهمية المقترح الذي قدمه نتنياهو للرئيس ترمب، والذي يمكن تلخيصه في التالي: الطريقة الأكثر فاعلية لمعالجة المخاوف الأميركية تتمثل في إنشاء هيكل أمني إقليمي يدمج إسرائيل بالكامل، عسكريا وسياسيا واقتصاديا، في الشرق الأوسط. وهو ما يعني، عمليا، قبول الهيمنة الإسرائيلية في الشؤون الإقليمية.

استند هذا المفهوم إلى تأسيس منتدى النقب، الذي ارتكزت فكرته الأساسية على بناء تحالف سياسي-عسكري بين إسرائيل وعدة دول عربية، على غرار حلف شمال الأطلسي، بهدف رئيس هو مواجهة إيران. وبدأ هذا التوجه بخطوة أولى تمثلت في تنسيق أنظمة الدفاع الجوي بين الدول الأعضاء.

ومن اللافت أن المملكة العربية السعودية اختارت عدم الانضمام إلى منتدى النقب، وقد توقفت المبادرة فعليا منذ عام 2023. وفي ظل التصعيد العسكري الإسرائيلي المتزايد في غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا، واشتداد المواجهة مع إيران، تبدو احتمالات إحياء المنتدى أبعد من أي وقت مضى.

أ.ف.ب
الدمار الذي لحق بسجن إيفين بعد غارات جوية إسرائيلية في طهران الشهر الماضي، في الأول من يوليو

والأرجح أن يكون نتنياهو قد طرح جملة من الحجج لإقناع الرئيس ترمب بدعم رؤية إسرائيل لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، منها:

  •  في ضوء ما حققته إسرائيل في إيران وسوريا ولبنان وغزة– أي الإضعاف الشديد لإيران ووكلائها الإقليميين، بما في ذلك نظام الأسد و"حزب الله" و"حماس"– باتت الظروف مواتية لإعادة صياغة المنطقة بطريقة تخدم المصالح الأميركية والإسرائيلية على حد سواء.
  •  يُعد إنشاء هيكل أمني إقليمي يتماشى مع الأولويات الإسرائيلية، مع مراعاة المخاوف الاستراتيجية الأميركية أيضا، محوريا لهذه الرؤية.
  •  ومن بين العناصر الحاسمة إحداث تغيير في النظام الإيراني، أو على الأقل فرض قيود صارمة على برنامجه النووي، وهو ما لن تقبله طهران على الأغلب، وبالتالي سيستلزم ضغطا عسكريا مستمرا.
  •  يُعد توسيع اتفاقات إبراهيم لتشمل المملكة العربية السعودية وسوريا ولبنان هدفا رئيسا آخر.
  •  في حال تبني الولايات المتحدة لهذا الإطار الذي تقوده إسرائيل، سيتصدر ترمب المشهد كـ"صانع سلام" مطلق، مما قد يمهد الطريق لنيل جائزة نوبل للسلام التي يتوق إليها بوضوح.

ورغم أن رؤية نتنياهو قد تنطوي على جاذبية قوية لترمب، فإنها تحمل في طياتها أيضا مخاطر قد يتردد في تبنيها، في الوقت الراهن على الأقل. فأولويات ترمب المباشرة قصيرة الأجل وهي تأمين وقف إطلاق النار في غزة، وتحقيق عودة الرهائن الإسرائيليين، والتوصل إلى اتفاق مع إيران يراعي مشاعر جزء كبير من قاعدته الانتخابية، التي تحاذر التورط العسكري الأميركي، ولا سيما في الشرق الأوسط.

ولكن ذلك لا يجب أن يعني أن ترمب لن يُقدم مرة أخرى على اتخاذ إجراء عسكري نيابة عن إسرائيل. وإذا وافقت واشنطن على المخطط الإقليمي لإسرائيل، فإنها تكون بذلك قد أذنت فعليا بهيمنة إسرائيلية على الشرق الأوسط، ما سينطوي على مخاطر بعيدة الأمد على المصالح العربية. فنظام أمني إقليمي يقوم على هيمنة دولة واحدة على باقي الدول يزرع في طياته بذور صراعات وعدم استقرار مستقبلي.

في حال تبني الولايات المتحدة لهذا الإطار الذي تقوده إسرائيل، سيتصدر ترمب المشهد كـ"صانع سلام" مطلق، مما قد يمهد الطريق لنيل جائزة نوبل للسلام التي يتوق إليها بوضوح

أجل، قد تكون إسرائيل بالفعل القوة العسكرية الأبرز في المنطقة، وقد يكون مجتمعها الأكثر تقدما تكنولوجياً. ومع ذلك، ولأسباب تاريخية وثقافية، لا يمكنها تحقيق هيمنة دائمة، فمن شأن أي محاولة للقيام بذلك بالقوة أن تقوض أهداف الولايات المتحدة في بناء ترتيب أمني مستدام يعزز التوازن الإقليمي والسلام طويل الأمد.

ينبغي للدول العربية أن تعمل على ثني واشنطن عن تأييد المشروع الإسرائيلي من خلال تسليط الضوء على عيوبه الجسيمة– وفي مقدمتها تداعياته البعيدة الأمد على السلام والاستقرار الإقليميين. وعليها أن تطرح مسارا بديلا يركّز على معالجة الأزمات العاجلة التي تنخرط فيها الولايات المتحدة مباشرة: تثبيت وقف دائم لإطلاق النار في غزة، وتسهيل إطلاق سراح الرهائن، وإعادة إعمار القطاع، وتثبيت الأوضاع في لبنان وسوريا. ويدخل في ذلك ضرورة الضغط على إسرائيل لوقف تدخلها العسكري المتواصل. وقد تجد العواصم العربية فرصة ثمينة للاستثمار وهي امتعاض واشنطن المتزايد كما يبدو من التصرفات الإسرائيلية الأخيرة في سوريا وجنوب لبنان.

ومن الضروري التمييز بين "نظام الأمن الإقليمي" و"البنية الأمنية الإقليمية"، والدعوة بقوة إلى الثانية. فالنظام الأول، المتماهي مع الرؤية الإسرائيلية، يشير إلى إطار رسمي ومؤسسي، على غرار منتدى النقب، تُنشئه مجموعة محددة من الدول لمعالجة التحديات الأمنية المشتركة من خلال آليات جماعية. في المقابل، تُعد البنية الأمنية نظاما أوسع وأكثر مرونة من العلاقات والمعايير والمؤسسات– الرسمية وغير الرسمية– التي تدعم الاستقرار الإقليمي بشكل جماعي.

أ.ف.ب
محاولة من أفراد من الطائفة الدرزية السورية عبور السياج الشائك الفاصل بين سوريا ومرتفعات الجولان وسط إطلاق القوات الإسرائيلية الغاز المسيل للدموع لتفريقهم، بالقرب من مجدل شمس في 16 يوليو

ولا بد من تحرك عاجل لوقف العمليات العسكرية في سوريا ولبنان عبر ترتيبات مؤقتة تشمل انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها مؤخرا.

كما يجب على الدول العربية أن تعمل على منع أي تصعيد عسكري إضافي مع إيران، والدفع، بدلا من ذلك، نحو استئناف المفاوضات.

ولا يمكن ترسيخ أسس نظام أمني إقليمي مستدام وشامل، يخدم مصالح القوى الإقليمية والولايات المتحدة على حد سواء، قبل معالجة هذه الملفات العاجلة.

وربما الأهم من كل ذلك، أن على الدول العربية أن تتحرك سريعا لتطوير رؤية عربية موحدة للأمن الإقليمي. فطرح مفهوم عربي متماسك للأمن أمام واشنطن يُعد شرطا أساسيا لإقناعها بالنظر في نهج تقوده الدول العربية لصياغة مستقبل المنطقة.

ولا ينبغي التقليل من حجم التحديات التي تعترض بلورة مثل هذه الرؤية. ومع ذلك، فإن الفشل في هذا المسعى سيترك الساحة لإسرائيل وتركيا وحتى إيران، لتحديد أجندة الأمن الإقليمي. وإذا تحقق هذا السيناريو، فإن الدول العربية ستكون قد أضاعت فرصتها في لعب أي دور فعلي في صياغة مستقبلها.

مفهوم عربي مشترك للأمن الإقليمي

كمساهمة في صياغة مفهوم عربي مشترك للأمن الإقليمي، يمكن للمقترحات الأولية التالية أن تشكل أساسا لنقاش أوسع:

هناك حاجة ملحة إلى إنشاء إطار إقليمي للمعايير والسلوك. وينبغي أن تدعم هذه المعايير جهود حل النزاعات على مختلف المستويات، وأن ترتكز على مبادئ ميثاق الأمم المتحدة– وفي طليعتها حق الشعوب في تقرير مصيرها، وعدم استخدام القوة، واحترام سيادة الدول واستقلالها وسلامة أراضيها، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.

ويجب أن تكون العملية شاملة، تضم جميع دول المنطقة، وأن لا تكون موجهة ضد أي دولة بعينها.

كما ينبغي أن يتسم النهج بالمرونة والتدرج والواقعية. ويعني ذلك الانطلاق من بنية أمنية إقليمية، تتطور بمرور الوقت نحو نظام أكثر رسمية. ويجب أن تتمتع الدول بحرية الانضمام بوتيرتها الخاصة. ليست كل قضية– سواء تعلقت بالمياه، أو البيئة، أو الحد من التسلح ونزع السلاح، أو إجراءات بناء الثقة، أو التعاون الاقتصادي، أو التبادل الثقافي– بحاجة إلى مشاركة الجميع منذ البداية. ويجب إتاحة المجال للدول كي تنخرط في مناقشات حول قضايا بعينها متى وجدت في ذلك مصلحة.

ومن المتعيّن أن يتّسم أي نظام أمني إقليمي محتمل بالشمول والتكامل، بحيث يغطي مختلف الأبعاد السياسية والعسكرية، فضلاً عن الجوانب الاقتصادية والثقافية والإنسانية.

إن إنشاء إطار فعّال للحد من التسلح ونزع السلاح خطوة أساسية في هذا السياق، ولا سيما إقامة منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل. وعلى القدر ذاته من الأهمية، يبرز الاستحقاق المتمثّل في قيام دولة فلسطينية ذات سيادة وقابلة للحياة، باعتبارها ركيزة لا غنى عنها لأي ترتيبات إقليمية مستدامة.

ومن الناحية العملية، لا تتطلب صياغة مفهوم عربي مشترك للأمن الإقليمي إجماعا فوريا من جميع الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية. ففي البداية، يمكن لمجموعة صغيرة من الدول أن تتولى قيادة هذه العملية.

وينبغي أن تتمثل الخطوة التالية في إطلاق مشاورات مع تركيا. فالتوصل إلى تفاهم مشترك مع أنقرة– ولاحقا مع طهران– سيساعد على إيجاد التوازن الاستراتيجي اللازم لإشراك إسرائيل.

ولضمان السلام والاستقرار الدائمين في الشرق الأوسط، يجب على إسرائيل التخلي عن أية طموحات للهيمنة الإقليمية.

وفي نهاية المطاف، من الأفضل للدول العربية أن تعمل في ظل غياب نظام أمني إقليمي رسمي، من أن تدعم نظاما يكرس الهيمنة الإسرائيلية. فهذا التحفظ من شأنه أن يبقي الباب مفتوحا أمام مساهمة الدول العربية مستقبلا في بناء بنية أمنية شاملة ومتكاملة توازن بين مصالح الأطراف الإقليمية الفاعلة جميعها.

font change