سوريا بين مشهدين

سوريا بين مشهدين

استمع إلى المقال دقيقة

في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024 سقط نظام الأسدين، هرب بشار الأسد خارج البلاد، وانتهت حقبة سوداء من تاريخ المنطقة، وليس تاريخ سوريا فحسب.

سقوط نظام الأسدين ليس تفصيلا، ولا هو حدث عابر تنتهي مفاعيله بعد أيام وأسابيع، هو زلزال لن تنتهي هزاته الارتدادية في سوريا والمنطقة لأعوام، وحدهم الحالمون يتوقعون أن تنتقل سوريا من سوريا الأسد إلى سوريا دولة المواطنة (كما ذكر البيان الختامي لمؤتمر الحوار الوطني) بأسابيع أو حتى شهور.

بعد أسابيع من سقوط نظام الأسد، كتبت على صفحات "المجلة" أنه لا يمكننا أن نصف ما يواجه سوريا بـ"التحديات" بل "حقل ألغام" يكاد ينفجر فينا جميعا إن لم نستطع تفكيكه.

من إسرائيل إلى "داعش" وإيران، إلى الوضع الداخلي الاقتصادي والمعيشي والاجتماعي، وغياب عامل الثقة بين السوريين أنفسهم، وبين بعض السوريين والدولة، كلها ألغام بعضها بدأت السلطة بتفكيكه ونجحت، وبعضها فكك بدعم عربي ودولي، وتحديدا سعودي غير مسبوق كالعقوبات، وبعضها الآخر انفجر كتفجير "داعش" الإرهابي في كنيسة الدويلعة بريف دمشق قبل شهر، أو تم تفجيره عن بُعد كما حصل في السويداء مؤخراً، وقبلها في الساحل في مارس/آذار الماضي.

بالأمس كانت أحداث السويداء المؤلمة وعمليات القتل المستنكرة والمدانة، كيف ولماذا حصلت هذه الفاجعة، هل هو فخ وقعت فيه السلطة في دمشق، ستستمر تبعاته لفترة ليست قصيرة؟ كيف دخلت إسرائيل على خط المعارك، وإلى أي حد كانت إسرائيل تنوي التصعيد، لولا الضغط الذي مارسته المملكة العربية السعودية، والأردن وتركيا من خلال الولايات المتحدة لوقف جنون نتنياهو، قبل أن يزيد من حرائق المنطقة، التي ما زالت مشتعلة أساسا بسبب الحرب على غزة، كلها أمور ستتكشف تباعا.

كانت أحداث السويداء المؤلمة، وعمليات القتل المستنكرة والمدانة، كيف ولماذا حصلت هذه الفاجعة، هل هو فخ وقعت فيه السلطة في دمشق، ستستمر تبعاته لفترة ليست قصيرة؟

بينما كان الاقتتال على أشده، صدر بيان جماعي عن 10 دول عربية، إضافة إلى تركيا، أهم ما جاء فيه تأكيد هذه الدول على دعم أمن سوريا، ووحدتها واستقرارها وسيادتها، ورفض كل التدخلات الخارجية في شؤونها، وإدانة الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، التي تقوض جهود الحكومة السورية لبناء سوريا الجديدة، بما يحقق تطلعات وخيارات شعبها الشقيق. والتأكيد أن أمن سوريا واستقرارها، ركيزة للأمن والاستقرار الإقليميين وأولوية مشتركة، إضافة إلى دعوة المجتمع الدولي إلى دعم الحكومة السورية في عملية إعادة البناء.

بوساطة ورعاية أميركية، ودعم أردني وتركي، وبعض من دول الجوار كما ذكر، أعلن المبعوث الأميركي توم باراك الاتفاق بين الحكومتين السورية والإسرائيلية، وقف إطلاق النار في السويداء، وما هي إلا ساعات حتى أعلنت المملكة العربية السعودية، من خلال وزارة الاستثمار السعودية، عزمها تنظيم منتدى استثماري سعودي-سوري في العاصمة دمشق، في خطوة هي الأولى من نوعها، ليُعقد المنتدى الأول من نوعه بين البلدين بعد يومين من الإعلان عنه، ويتم توقيع 47 اتفاقية ومذكرة تفاهم، بقيمة تصل إلى 24 مليار ريال (نحو 6.4 مليار دولار).

هذا ليس سردا إخباريا، بل محاولة نقل صورة أوسع لما يحصل في سوريا اليوم، مشروعان متنافسان، مشروع الفوضى والحروب المتعددة، والتي تغذيها مرة إيران وفلول الأسد ومرة إسرائيل ومرة "داعش"، ومشروع استقرار سوريا وأمنها كـ"ركيزة للأمن والاستقرار الإقليميين" كما ذكر بيان الدول العربية وتركيا. وبين هذين المشروعين يبدو خيار السوريين بديهيا، ولكنه ليس كذلك.

ليس لأن بعض السوريين يريد تفتيت سوريا أو يرفض استقرارها، بل لأن السوريين اليوم لا يثقون ببعضهم بعضا، وكثير منهم ولأسباب قد تكون أيديولوجية، لا يثقون بحكومتهم، اليوم وأكثر من الشهور السابقة، على الدولة السورية أن تثبت أنها لجميع السوريين، لجان التحقيق والعدالة ضرورية لبناء الثقة، ولكننا نريد وقف التجاوزات بدل فتح التحقيق تلو التحقيق، بعد كل لغم ينفجر أو يُفجر بنا.

اليوم وأكثر من أي وقت مضى، على الدولة السورية أن تفتح مجال العمل السياسي، ليتعرف السوريون على بعضهم البعض، ليختلفوا ويتوافقوا بالسياسة، لا بالقتال والتخوين والتحريض.

اليوم وأكثر من كل يوم، نحن بحاجة الى أن تتعاطى الحكومة بشفافية مع الشعب، فهذا الشعب شريك في التحرير، ولا بد أن يكون شريكا في البناء.

font change