الأسد وجنبلاط في وثائق "المجلة"... قراءة نقدية في السرد السوري للحرب اللبنانية

المجلة
المجلة

الأسد وجنبلاط في وثائق "المجلة"... قراءة نقدية في السرد السوري للحرب اللبنانية

في الذكرى الخمسين لانطلاق الحرب الأهلية اللبنانية، نشرت مجلة "المجلة" سلسلة وثائقية مؤلفة من ست حلقات بعنوان "الأسد وجنبلاط"، تتناول لقاءات جمعت بين الرئيس السوري حافظ الأسد وزعيم "الحركة الوطنية اللبنانية" كمال جنبلاط بين عامي 1972 و1976. وقد رُوّج لهذه الوثائق بوصفها مواد "أرشيفية سرية" تُنشر للمرة الأولى، وتُلقي الضوء على طبيعة العلاقة بين الرجلين، وعلى مواقف الأسد من الحرب اللبنانية خلال مراحلها الأولى. غير أن القراءة المتأنّية لتلك الحلقات تكشف، لا عن مادة تاريخية موضوعية أو موثّقة، بل عن سردية سياسية موجهة تُعيد إنتاج خطاب النظام السوري كما أراده أن يُفهم، لا كما جرى فعليًا.

قبل الخوض في تحليل مضامين الوثائق، من المهم التوقف عند الإشكال المنهجي المرتبط باستخدام الأرشيف الحكومي، خصوصًا الصادر عن أنظمة سلطوية. ففي مثل هذه السياقات، يُستخدم الأرشيف ليس لتدوين الذاكرة، بل لضبطها وتوجيهها. الوثيقة هنا لا تعبّر عن ملاحظة بيروقراطية باردة أو تقاطعات لحظية لصنّاع القرار، بل هي في كثير من الأحيان إعادة إنتاج لاحقة للحدث، مكتوبة بعيون المنتصر أو الرقيب الأمني، بما يخدم الخطاب الرسمي. وعليه، فإن أي تعامل مع هذا النوع من الوثائق يتطلب حذرًا منهجيًا ومساءلة مزدوجة: لمضمون الوثيقة، ولمؤسسة الأرشفة نفسها.

تبدأ سلسلة "المجلة" من لقاء جرى في يناير/كانون الثاني 1972 بين الأسد وجنبلاط، يُصوّر فيه الأخير كشخص مندفع، غاضب، غير متزن، يفتح الملفات بحدة ويخلط بين التحليل العاطفي والاستراتيجية الواقعية. في المقابل، يظهر حافظ الأسد كرجل الدولة المتروّي، الحكيم، الذي يصغي ويُربك محاوره بالصمت والتأني. هذا التمهيد السردي ليس بريئًا، بل يمهّد لخلق تضاد بين زعيم لبناني متهور ونظام إقليمي عقلاني، ويبرّر لاحقًا التدخل السوري في لبنان عام 1976 بوصفه ضرورة لوقف انزلاق هذا البلد إلى الفوضى، لا كجزء من خطة سورية منظمة لاحتواء القرار اللبناني وتصفية خصوم الداخل.

تأخذ الوثائق منحى شخصانيًا شديد الرمزية حين تنتقل إلى توثيق العلاقة المتدهورة بين الأسد وجنبلاط

وتبلغ هذه المقاربة ذروتها في الحلقة الثانية التي تتناول مجزرة عين الرمانة، حيث تغيب تمامًا أي إشارة إلى مسؤولية النظام السوري عن تدهور الوضع، أو لدوره في تسليح فصائل، أو إدارته لحلفاء محليين قبل دخول قوات الردع في 1976. بل تعرض سوريا كراعية متوازنة، تحاول لجم الانهيار عبر وساطات من شخصيات مثل عبد الحليم خدام، في حين يبقى الشعب اللبناني وممثلوه مجرد "فاعلين متنازعين" يحتاجون إلى وصاية خارجية.

اللافت أن هذا النمط السردي يستمر حتى عند تناول أكثر المراحل دموية في الحرب. ففي الحلقة الثالثة، التي تتطرق إلى "السبت الأسود" ومجزرة الدامور، يتم توصيف العنف كمجرد "تصعيد أمني" أو "تدهور ميداني"، دون إحالة القصة إلى الضحايا، أو توثيق لتفاصيل المجازر، أو أي اعتراف بمسؤولية طرف محدد. اللغة هنا مُحايدة عمدًا إلى حد التواطؤ، تُسطّح العنف وتحيله إلى نتيجة طبيعية لانقسام داخلي، وتُعيد تأطيره كتحوّل تكتيكي لا كمأساة إنسانية. فمن المستحيل على أي باحث في الحرب الأهلية اللبنانية وفي حرب السنتين التي امتدت بين 1975-1977 أن يغفل ذكر دور منظمة "الصاعقة" وزعيمها زهير محسن، الذي جهد لتنفيذ أوامر حافظ الأسد لدرجة المشاركة في التخطيط والتنفيذ لعملية اغتيال كمال جنبلاط نفسه. في حين أن الوثائق المستعملة في السلسلة لا تتضمن ذكر "الصاعقة" أو لمحسن، يبقى من واجب الباحث أن يؤطر كلام الأسد وأن لا يترك مجالاً للوثائق الحكومية "البعثية" في السيطرة على السردية التاريخية.

خاص "المجلة"
الرئيس السوري السابق حافظ الأسد وزعيم الحزب التقدمي الاشتراكي كمال جنبلاط

وتأخذ الوثائق منحى شخصانيًا شديد الرمزية حين تنتقل إلى توثيق العلاقة المتدهورة بين الأسد وجنبلاط. ففي الحلقات الأخيرة، يُقدم الأسد مرة أخرى بوصفه القائد الصبور الذي استوعب كثيرًا من "تجاوزات" جنبلاط قبل أن "يصغر احترامه له"، فيما يبدو كمبرر مسبق لحدث لم يذكر صراحة: اغتيال كمال جنبلاط في مارس/آذار 1977. لا يُقال ذلك نصًا، لكن القراءة بين السطور، والسياق النفسي للعرض، يتيحان تبريرًا غير مباشر للجريمة بوصفها نتيجة منطقية لسلوك جنبلاط نفسه، لا كفعل اغتيال سياسي مكتمل الأركان. وضمن إطار اغتيال جنبلاط المبرر بحسب الوثائق إهمال لتبعات الاغتيال على الواقع الدرزي والماروني في جبل لبنان، فمن المفيد التذكير بعمليات الثأر التي قام بها الدروز ضد الموارنة في قرى الشوف وعاليه ولكن لربما الأهم شرح دور الأسد في تلك المجازر. جنبلاط الذي قتل في قرية دير دوريت الشوفية على مقربة من مدينة بعقلين، وصل خبر اغتياله إلى كافة أنحاء الجبل وبلمحة بصر وقعت مجزرة بدا كأنها معدة مسبقاً وأدت إلى إحداث شرخ عميق في الجبل وبين أهله.

لا يمكن رفض هذه الوثائق كليًا. فهي تُظهر، تموضع دمشق الفعلي ومقاربتها تجاه لبنان، وتقدّم مادة أولية قد تُستثمر في مشاريع بحثية أوسع، شريطة أن تُوضع ضمن سياق نقدي

ومن بين الثغرات البنيوية في السلسلة، تغييب شبه كامل لكل الفاعلين اللبنانيين الآخرين. لا ذِكر لحزب "الكتائب" أو لـ"الجبهة اللبنانية"، لا حضور للفلسطينيين أو للحركة الوطنية بتياراتها غير الجنبلاطية، ولا أي إشارة لمواقف البطريركية المارونية أو لقيادات اليسار. كأن الحرب الأهلية كلها كانت نتيجة حوار ثنائي بين الأسد وجنبلاط. هذا الإقصاء البنيوي لا يعكس فقط تحريفًا للوقائع، بل أيضًا يعيد إنتاج نظرة النظام السوري إلى لبنان كمجال نفوذ يجب إخضاعه، لا كدولة مستقلة بتعددها وتوازناتها الداخلية.

إلى ذلك، يفتقر المشروع التحريري للسلسلة إلى الحد الأدنى من المعايير الأكاديمية: لا وثائق أصلية مرفقة، لا إشارات إلى مصادر أو أرشيف، لا مراجعات مستقلة، ولا حتى تعليق من متخصصين في تاريخ الحرب اللبنانية أو السياسات السورية. اللغة موحدة، والأسلوب متجانس، ما يرجّح أن الحلقات صيغت بطريقة تحريرية واحدة، لا أنها نُشرت كما هي من مصدر أرشيفي خام.

أ.ب
مقاتل مسلم يصوب بندقيته باتجاه قوات مسيحية على الجانب الآخر من الخط الأخضر، في بيروت، لبنان، 4 يناير 1982

اللافت أيضًا أن "المجلة" لا تُخضع الوثائق لأي تأطير قانوني أو تحليلي. فلا حديث عن شرعية التدخل السوري، ولا عن أثره على السيادة اللبنانية، ولا عن ارتدادات الوجود العسكري السوري على المشهد السياسي بعد "الطائف". كل ذلك غائب، في مقابل تكريس قراءة رسمية تعتبر الأسد ضابط إيقاع المنطقة، حتى عندما يُقوّض المؤسسات الدستورية في بلد جار.

النتيجة أن الوثيقة، كما قُدّمت، لا تعمل كأداة تأريخ، بل كأداة حُكم. هي بلاغ سياسي مموّه، يستخدم سرد اللقاءات بوصفها مادة لإعادة تثبيت مشروعية النظام، لا لفهم لحظة معقدة في تاريخ الإقليم.

لكن رغم كل ذلك، لا يمكن رفض هذه الوثائق كليًا. فهي تُظهر، وإن من موقع السلطة، تموضع دمشق الفعلي ومقاربتها تجاه لبنان، وتقدّم مادة أولية قد تُستثمر في مشاريع بحثية أوسع، شريطة أن تُوضع ضمن سياق نقدي، وتُقارن بأرشيف مقابل، وشهادات معاصرة، ومصادر متعددة.

فقط في هذه الحالة، يمكن تحويل هذه الوثائق من أدوات تبرير إلى أدوات فهم، ومن نصوص دعائية إلى مادة للنقاش التاريخي المفتوح، الذي لا يخدم الماضي فقط، بل يساعد في قراءة ما تبقّى من النظام السوري في حاضر لبنان وذاكرته.

ختاما وعلى سبيل الوقاية والتلقيح ضد الأيديولوجيا، يحتاج الباحث والقارئ في تاريخ نظام "البعث" الأسدي أن يسترشد بمقولة أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة توماس جيفرسون بأن "التاريخ، بشكل عام، لا يُعلّمنا سوى ما هو شكل الحكم السيئ". وفي حالة حافظ الأسد وتاريخه الدموي يمكننا الجزم المطلق بصحة هذا القول.

font change

مقالات ذات صلة