فتنة الأسطورة ومأساة الذاكرة في "صيف أرملة صاروفيم" لمازن حيدر

عن اختفاء الآثار وتحولات المكان خلال الحرب اللبنانية

غلاف الكتاب

فتنة الأسطورة ومأساة الذاكرة في "صيف أرملة صاروفيم" لمازن حيدر

ينتمي الروائي اللبناني مازن حيدر (من مواليد بيروت، 1979) إلى جيل من الكتاب الذين يعاينون الذاكرة والواقع من مسافة تأمل هادئة، ويقتربون من الحرب من زواياها الصامتة وآثارها الجانبية، وما تتركه من شروخ خفية في تفاصيل الحياة اليومية. في روايته "صيف أرملة صاروفيم"، تظهر الحرب كظل طويل يمر فوق الجدران والوجوه والخرائط القديمة. تمضي الرواية في اتجاه الكشف عن آثار العنف: ما تراكم من محو، وقلق، وأسئلة لا تجد جوابا مباشرا.

ضمن هذا المناخ، تتخذ الشخصيات مواقعها في الهامش، فتبدو ككائنات تحرس الأسرار أو تسعى إلى فهمها. من هنا، تطرح الرواية علاقتها بالتراث والهوية والذاكرة، داخل بنية سردية مشدودة، تتسع للتأويل وتنطوي على توتر داخلي دقيق.

تدور أحداث "صيف أرملة صاروفيم" (دار نوفل/ هاشيت أنطوان، بيروت 2025)، في قرية عين سرار الجبلية، خلال صيف عام 1989، في ذروة "حرب التحرير" التي كانت تشتعل في العاصمة بيروت. تشكل هذه القرية فضاء شبه معزول، لكنه مشحون بالتاريخ والقلق، حيث أن البطلة التي تحمل اسما غير شائع لأنثى، أسامة، تجد نفسها نازحة إلى منزل خالها، لتقيم فيه مؤقتا وتبدأ عملا كمعلمة لطفلين من نازحي الساحل. تتصاعد الحبكة بهدوء، عبر سلسلة من الإشارات الغامضة والرموز المحفورة على شواهد القبور، التي تقود إلى أسئلة حول اختفاء الآثار وتحولات المكان. وتظهر منذ البداية نبرة الغموض المحيط بالمكان، كما في هذا المقطع: "ها هو مزار المنعطف الأول لجهة البلدة. وها هو المزار الثاني، حاضنا شخص مار شربل تزينه الزهور البيضاء. شجرة السنديان المعمرة، عمود الكهرباء وإعلان المخيم الصيفي. هذه قلعة مار قرياقوس ونقطة ضبط الأمن المستحدثة... وها هي في نهاية المطاف لافتة عين سرار الزرقاء ترحب بكم!".

تمثل أرملة صاروفيم أكثر من مجرد حارسة للجبانة، فهي الممر الغامض بين الحياة والموت، بين المعرفة والجهل، وبين ماض نرغب في نسيانه وآخر يطاردنا باستمرار

يكشف هذا المشهد المناخ النفسي الذي تتحرك فيه الرواية: قرية تتنفس التوتر المرتقب، ومساحة زمنية مشبعة بالاحتمالات المؤجلة، حيث الماضي الثقيل يواصل حضوره على هيئة علامات مبهمة تنتظر من يفك شيفرتها.

XAVIER BARON / AFP
الحرب الأهلية اللبنانية

الجبانة بوصفها مكتبة سرية

تصل أسامة، بطلة الرواية، إلى القرية هاربة من بيروت المشتعلة بالحرب. ظنت أنها جاءت إلى الريف لتعلم توأمين في مدرسة صيفية مؤقتة، لكنها سرعان ما تجد نفسها وسط حكاية سرية محفورة على شواهد القبور، تحرسها امرأة غامضة تدعى أرملة صاروفيم. تشعر، منذ لحظة دخولها القرية، أن هناك شبكة من الأسرار المخبأة في الرموز، والكلمات، وتصرفات الناس، وحتى في صمت الحجر، تراد لها أن تكتشفها.

لكل شخصية في الرواية وظيفة روحية قبل أن تكون دورا دراميا: نزار، الفتى الودود الذي يعرف كل شيء ويخفي أكثر، ملحم، خال أسامة، يبدو في البداية مرشدا، لكنه يختفي تدريجيا خلف مكتبته ومخطوطاته. أما صادق، رجل "المديرية"، فهو اللسان الرسمي لرواية الحماية، لكنه يرتجف كلما ووجه بالسؤال الأخلاقي. التوأمان، ميلاد وجهاد، هما الجيل الجديد الذي يبحث عن المعنى وتفسير ما يحدث من حوله، لا عن الذهب.

تمثل أرملة صاروفيم أكثر من مجرد حارسة للجبانة، فهي الممر الغامض بين الحياة والموت، بين المعرفة والجهل، وبين ماض نرغب في نسيانه وآخر يطاردنا باستمرار. وصاروفيم، الذي تحمل اسمه، لم يكن مجرد رجل: نقش أسماء الراحلين بيده، وحمل أسرار القبور، وارتبط اختفاؤه بلغز القطع الأثرية من المتحف.

رواية تحثنا على البحث عن الحقيقة. لا تدين أحدا، لكنها تشير إلى أن السكوت تواطؤ، وأن التراث حين ينقل للحماية دون استشارة الناس، يمحى أكثر مما يحفظ

الجبانة هنا ليست مجرد مكان للموتى، بل مكتبة سرية أيضا. الشواهد تحمل أسماء الراحلين، نقوشا ملونة، حروفا غريبة، تواريخ مبعثرة، وعلامات كأنها تراتيل مدفونة. ومع الأطفال، تبدأ أسامة بحل هذه الأحاجي، وتكتشف شيئا فشيئا خريطة تقود إلى كنز ذهبي ورمزي في آن واحد: ذاكرة ضائعة، وتراث يراد له أن يمحى.

صندوق باندورا

من أبرز ثيمات الرواية سؤال ضياع الآثار. هل نقلت فعلا إلى قبرص في إطار معاهدة دولية؟ أم أنها نهبت تحت غطاء الحماية؟ هذه الثنائية تشكل البؤرة الأخلاقية للرواية. المسألة تتعلق بالآثار والمعنى في آن واحد: هل تنقذ التراث بالحماية؟ أم بتركه في موضعه الطبيعي مهما كان الخطر؟

XAVIER BARON / AFP

هنا يصبح المتحف المغلق، الذي ظل صاروفيم يفتحه ويغلقه كحاجب أمين، رمزا لصندوق باندورا: ما أن يفتح، حتى تنطلق منه الأسئلة لا الأجوبة.

الرواية من حيث البنية السردية مكونة من طبقات عدة، لكأنها رواية داخل رواية، وأحجية داخل الخيال. نقرأ قصة أسامة في الصيف، لكننا نقرأ أيضا الحكايات التي يرويها خالها عن القرية، والمخطوطات، والقصص التي كتبتها على الورق. هناك سرد، وتحت السرد حلم، وتحت الحلم سؤال. إنها رواية تحثنا على البحث عن الحقيقة. لا تدين أحدا، لكنها تشير إلى أن السكوت تواطؤ، وأن التراث حين ينقل للحماية دون استشارة الناس، يمحى أكثر مما يحفظ، "لم تكن أسامة تطمع بالمزيد من المعلومات، بل اعتراها إحساس بأن ما استفاض خالها بشرحه لها كان كافيا ليلجمها عن معاودة السؤال والاستيضاح. غير أن ما أجلته من استفسارات لم يكن ثانويا بل من صلب الموضوع. روى لها ملحم قصة حفظها عن ظهر قلب عن نقل مجموعة المتحف، قبل أن تستعلم منه عن كنوز ما برحت مدفونة في عين سرار. استسلمت لشرحه الطويل فلم تتمكن من سؤاله عن سبب اغتناء صاروفيم المفاجئ، أو عن صحة حيازته خريطة أرشدته إلى ما في جوف الأرض من ذهب أو من أموال".

في ضوء روايات لبنانية عن الحرب

يكتب مازن حيدر عن الحرب اللبنانية من هوامشها وصدوعها وشروخها الساكنة، كأنه يلتقط الصدى بعد تكسر الموجة الكبرى. وهنا تبرز خصوصية روايته حين نضعها في مقارنة مع روايات لبنانية أخرى تناولت الحرب الأهلية، مثل "شريد المنازل" لجبور الدويهي، و"حارث المياه" لهدى بركات، و"كوابيس بيروت" لغادة السمان.

ينتمي النص إلى تيار لبناني جديد في الرواية، يبتعد عن شعارات الحرب وعن الاكتفاء بذمها، ويسعى إلى تفكيك آثارها

ففي "كوابيس بيروت"، نرى الحرب كوحش خارجي يهاجم الجسد والمدينة معا. بيروت في تلك الرواية تتشظى مع كل قذيفة، والشخصيات تتآكل من الداخل، تساق إلى الخوف والجنون، وتكتب من قلب المعركة، من داخل النار. أما مازن حيدر فيضع شخصياته خارج الدائرة، على التلال، قرب الجبانة، أمام متحف مغلق. يضعها هناك، في الخلفية، كعطر باهت في قميص شخص غائب.

XAVIER BARON / AFP
الحرب الأهلية اللبنانية

بينما في رواية "شريد المنازل" للروائي جبور الدويهي ثمة تقابل بين جيلين يقرآن الحرب بعينين مختلفتين: أحدهما يريد النسيان، والثاني يصر على التذكر. مازن حيدر يستعيد هذا التوتر، لكن من جهة أخرى: هو يركز على روايتين للتاريخ، مبتعدا عن التصادم بين الأجيال. رواية رسمية تتحدث عن "نقل الآثار للحماية"، وأخرى شعبية تصر على أنها "سرقت". المسألة تتجاوز صراع الأجيال، وتمس جوهر المعنى ذاته.

أما الروائية هدى بركات، في روايتها "حارث المياه"، فتكتب الحرب كصوت داخلي. الشخصيات تتسكع في المدن المحطمة، تبحث عن هويتها الشخصية واللغوية والدينية وسط العنف. في المقابل، يقدم مازن حيدر نسخة مغايرة: الشخصيات هنا تنشغل بحفظ ما تبقى من الهوية، وتوجه طاقتها نحو صون ما لم يمح بعد.

حكاية صيف عادية

اللافت في الرواية أنها تطرح نفسها كحكاية صيف عادية، غير أن التفاصيل تكشف تدريجيا عن حضور الحرب في كل شيء: في الخرائط، والمتحف، والأسئلة، والمخطوطات، والذاكرة.

هنا، يصبح سؤال التراث، وسؤال الأثر، وسؤال الحماية، هو الواجهة الجديدة لسؤال الهوية. الأهم ليس في ربح الحرب، إنما في من أخفى القطع وحرك مصيرها في الخفاء. ومن كتب الرواية لا يظل وحده في الواجهة، إنما يبرز أيضا من اختار الصمت في تلك اللحظة.

وفي هذا المعنى، ينتمي النص إلى تيار لبناني جديد في الرواية، يبتعد عن شعارات الحرب وعن الاكتفاء بذمها، ويسعى إلى تفكيك آثارها وما خلفته على المستويات الثقافية والرمزية والأخلاقية.

font change

مقالات ذات صلة