قصص تقاوم النسيان في "ورد السياج" لليانة بدر

آمال بوطن يعاد تشييده في الواقع لا في الأحلام

قصص تقاوم النسيان في "ورد السياج" لليانة بدر

تذهب الكاتبة الفلسطينية ليانة بدر في روايتها الجديدة "ورد السياج" إلى الفلسطينيين في لبنان، حيث كان لهم وجود لافت في سبعينات القرن الماضي وصولا إلى عام 1982 وما تعرضوا له في صبرا وشاتيلا.

الرواية التي صدرت أخيرا عن دار "الثقافة الجديدة" في القاهرة، تواصل فيها الكاتبة الفلسطينية مشروعها الروائي والقصصي الذي تسرد فيه جوانب من التحولات الاجتماعية والسياسية التي رافقت تهجير الفلسطينيين من أرضهم منذ عام 1948 حتى الآن.

تبدأ الرواية بصوت ساردة عليمة تسكن في ضواحي رام الله، في وقت (2021) تتناول الأنباء فيه هروب معتقلين من سجون الاحتلال (وهي الواقعة المستلهمة من وقائع حقيقية جرت قبل سنوات قليلة)، حيث لاحظت، في ساعة غروب الشمس، عبور شاب من الزقاق القريب منها حاملا حقيبة قماشية على ظهره. وكانت تفكر بمصائر البلد ومعاناة ناسه مع "السجون والحواجز والأسوار والدوريات والعسس وأطباق التجسس والأسيجة". ومع هذا التأمل تستذكر شخوص حياة كانوا في القرب منها في لبنان ومخيماته، وإذ لا تظهر كساردة مشاركة في الأحداث، فإنها تشير إلى وجودها في بداية الرواية وخاتمتها. مع ظهور صوت هند كسارد مشارك في بداية الجزء الثاني من الرواية، لكن هذا الصوت يقتصر على صفحات قليلة فقط. مع أن الرواية تبدو للقارئ مكتوبة من وجهة نظر هند نفسها.

بين الزوج والحبيب

يتمحور السرد حول أربع شخصيات رئيسة، هند وفادي وعائشة وجورج، ومن خلالهم تتشعب بقية القصص والشخصيات. فهند الصحافية تأتي إلى لبنان من فلسطين، بعد أن درست في عمان، فتعمل في المكتب الإعلامي متحفزة، في ظنها "أنها ستغير العالم ووقاحة ظلمه وسكوته عن احتلال بلاد شعبها". هند المتزوجة من الطبيب أشرف تجد نفسها وهي تكتب قصص الفلسطينيات في لبنان، في تقارير صحافية، منجذبة للمصور الصحافي فادي الذي "صار ضوؤه يسطع في سماء وجودها". ورأت أن حياتها لا تكتمل إلا به، مع أنه مختلف عنها في كل شيء في المذهب والعائلة والبلد. فهو "المسيحي الذي يعلن ثوريته، والثوري الرصين الذي يحاكم الأشياء بعين المصور المتمرد"، و"اليساري الخارج عن تعصب أبناء بلدته، والعابث الممازح الضاحك بالرغم من كل المصائب التي تحيق بالجميع".

ما يبرز في هذه التدوينات قصص أرامل الشهداء وأمهاتهم وأطفالهم، إلى جانب إظهار السلوكيات الذكورية التي تحاول السيطرة على حياة النساء

علاقتها به تبدو في حال ارتباك، فإذ ترى زوجها أشرف، الطبيب المعروف الذي لا يهتم بسوى عيادته ومرضاه واسهاماته السياسية وتجده دائما بعيدا عنها، يبدو فادي ملازما لكل هواجسها ورغباتها، لكنه حب لا يلامس الجسد ويظل في إطار الوله المشكل بكلمات الإعجاب لا أكثر. أما عائشة فهي موظفة إدارية في مكتب إعلامي، تتعرف فيه على أحمد العشي، واسمه الحركي جورج حداد، الفدائي الذي حمل أسماء عدة. وهي تبدو في تفاصيل حياتها ملاصقة لحياة هند، فالاثنتان وصلة همز للعديد من العلاقات الاجتماعية والعملية التي تجمع بين بعض الفلسطينيين في لبنان.

GettyImages
بين 800 و1500 لاجئ فلسطيني قُتلوا في مجزرة صبرا وشاتيلا على يد قوات لبنانية مسيحية بين 14 و17 سبتمبر، بينما لم تتدخل القوات الإسرائيلية المحيطة بالمخيمَين. نساء يبكين وسط الأنقاض

غير هذه الشخصيات، ترصد هند الكثير من القصص التي تقرر تدوينها مع أولئك الذي هُجروا من فلسطين في سنوات مختلفة، لكن ما يبرز في هذه التدوينات قصص أرامل الشهداء وأمهاتهم وأطفالهم، إلى جانب إظهار السلوكيات الذكورية التي تحاول السيطرة على حياة النساء، كما يفعل جلال مع أخته مروة، إضافة إلى ما يواجهه بعضهن من تحرش ومضايقات بسبب فقدانهن الزوج أو خروجهن للعمل.

وهناك سمية التي تذهب إليها هند للكتابة عنها باعتبارها زوجة بطل أستُشهد، فتجدها تزوجت رجلا آخر "هو ما كان يرد علي ويترك ويجي عندي، وما بده يسمع إلا كلمة الرفيق مسؤوله. وأنا مش قادرة أعيش هون وحدي. عشان هيك طلبت الطلاق". ولا يُفهم قول الساردة إن سمية "لفظت كلمة (الرفيق) بإجلال"، مع أن السياق لا يوافق ذلك.

بين اليسار واليمين

من الشخصيات المسرودة، ضمن هذا المحور، رئيس التحرير ماجد، العاكف على مقالاته الفكرية عن الثورات، والذي يضيق بالتطرف قي كل أشكاله، ويرى هوة بين النظرية والتطبيق، وهو يشبه جورج الذي يرى أن الأيديولوجيات عمياء، لكنه لا يستطيع الجهر بذلك. كما أن ماجد ظل في المجلة يُظهر وجهة نظر التنظيم الذي يقف بين اليسار واليمين، حسب المصلحة.

ونحن نقرأ هذه الذاكرة المسرودة لجانب من الذاكرة الفلسطينية، نفهم ماذا يعني أن يفرح المنكوبون والمنفيون والمقموعون بهروب معتقلين أو بعصيان احتلال

إلى جانب الشخوص والمجتمع، هناك سرد للمكان الذي صارت معالمه تاريخية، ويكفي ذكر أحدها لنستذكر حوادث وقصصا لا تنتهي. وما يلفت في هذه الأمكنة، بداية، هو تعدد الأسماء لشارع واحد مثل "الطريق الجديدة" و"الفاكهاني" و"الشارع الأخير". وفي محيطهم وبجوارهم سنتعرف الى المكتب الإعلامي الذي تعمل فيه هند ويقع خلف مبنى جامعة بيروت العربية. وهناك مقرات ومكاتب مثل مجلة "الهدف" واتحاد الكتاب الفلسطينيين ومكاتب أخرى لفصائل وصحف فلسطينية. ومن هذه الأمكنة يتسع السرد ليشمل كل لبنان، سواء في الجنوب حيث المواجهات مع الغزاة، أو في بيروت التي لم يصدق أحد أن وسطها "صار مجرد أكوام من الأنقاض التي تحكمها بنادق القناصة وجيوش المرتزقة المتدفقة من شتى المطارح".

AFP
عناصر الأمن الإسرائيلي يبحثون عن أدلة خارج سجن جلبوع بعد فرار ستة أسرى فلسطينيين عبر نفق تحت مغسلة، شمال إسرائيل، 6 سبتمبر 2021

وما يصفه الإعلام بالحرب الأهلية، سيتجاوز هذا التشخيص عندما يظهرها السرد في شبه لوحة استذكارية لحروب لا تُنسى "حروب بين الشرقية والغربية، بين الحارات المختلفة ومحازبيها، بين القوى الوطنية والتقدمية وبين الانعزالية واليمينية، بين الكتائب والأحرار وقوات أبو أرز وأبو فلان... وعلتان، بين جيش التحرير وفصائل المقاومة والتنظيمات الشيوعية اللبنانية والصاعقة وجبهة التحرير الفلسطينية وتلك التي يسمونها بالاسم ذاته لكنهم ينتهون بوصفها بـ العربية، بين السنة والموارنة والأرمن والدروز والشيعة وقوات أمل وتنظيم فتح، وبين فتح والفصائل الفلسطينية اليسارية".

القلب الضائع

هل كانت هذه الحروب مقدمة لما حدث في صبرا وشاتيلا، قبل الحدث أو بعده أو خلاله؟ يمكن القارئ أن يختار الجواب الذي يناسبه، لكن ما لا يمكن إغفاله هو تفاصيل ما حدث، حيث القسوة كانت في أوجها، والتوحش في أشده. ولم يعد هناك أي التفات لقياس كمية الدم المسفوح، أو فرز الأجساد بحسب العدد أو النوع أو العمر.

لذا، ونحن نقرأ هذه الذاكرة المسرودة لجانب من الذاكرة الفلسطينية، نفهم ماذا يعني أن يفرح المنكوبون والمنفيون والمقموعون بهروب معتقلين أو بعصيان احتلال.

فحين هرب المعتقلون، اهتم بهم الناس ولم يُبلغوا عنهم، كما طُلب منهم، وكانت "البلاد كلها ترمقهم بعين العطف والمحبة". فهم "القلب الضائع لمن استشهد أولاده" وقرة أعين "العجائز الذين يواصلون تلاوة الدعوات والابتهالات من أجل حمايتهم. هؤلاء الذين أفلحوا في الهرب عبر نفق تحت أرضي حفروه بملاعق وعيدان صغيرة صاروا مدار رجاء الشبان والشابات الذين يقدسون صورة الوطن والفداء، وغاية كل من رأوهم متراسا أخيرا للأمل والبحث عن الحرية".

هكذا، لا تختلف رواية ليانة بدر في هواجسها عن كل هواجس الأدب الفلسطيني الحديث الذي يقاوم النسيان، من خلال حفر قصصه على جدران الذاكرة، آملا في وطن يعاد تشييده في الواقع وليس في الأحلام والأمنيات فقط.

font change