تصريحات ترمب تشعل جدلا واسعا في الهند

رويترز
رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي يتصافحان في البيت الأبيض في واشنطن، الولايات المتحدة، 13 فبراير 2025

تصريحات ترمب تشعل جدلا واسعا في الهند

يُعزى الفضل إلى رئيس الوزراء الهندي الراحل مانموهان سينغ في تهيئة الظروف الاقتصادية التي جعلت النموذج الاقتصادي السابق، الذي كانت الدولة تهيمن عليه، غير قابل للاستمرار. وقد أدى هذا التحول إلى الابتعاد عن نظام "التراخيص" سيئ السمعة، الذي يشير إلى الرقابة الحكومية الصارمة على الاقتصاد الهندي. ففي ظل هذا النظام، كان من الشائع غياب السلع الاستهلاكية عالية الجودة من الأسواق، كما كانت إجراءات الحصول على الائتمان المصرفي معقدة وتتطلب كسب ود أصحاب النفوذ.

قبل عام 1991، فرض الاقتصاد الخاضع لسيطرة الدولة على الدول التي تتعامل مع الهند بعضا من أشد التحديات الجمركية وغير الجمركية.

عندما أثار الرئيس الأميركي دونالد ترمب في تعليقاته الأخيرة قضية العوائق التجارية في الهند، بدا واضحا أن المحادثات الجارية بين الولايات المتحدة والهند للتوصل إلى اتفاقية تجارية ثنائية لا تسير على نحو جيد، وكان ترمب مستعدا لممارسة الضغط العلني على نيودلهي لتحقيق مكاسب تخدم مصالحه.

ففي 30 يوليو/تموز، اشتكى ترمب من أن تعاملات الولايات المتحدة مع الهند "ضئيلة نسبيا لأن تعريفاتها الجمركية مرتفعة للغاية، وهي من بين الأعلى في العالم، وتفرض عوائق تجارية غير نقدية تعد من الأشد صرامة وإزعاجا". ولا تعد استياءاته من النظام الجمركي في الهند جديدة، إذ سبق له خلال ولايته الرئاسية الأولى أن وصف الهند بأنها "ملكة التعريفات الجمركية"، وتنسجم تصريحاته الأخيرة مع هذا الاتهام.

وبالإضافة إلى توقعاته بزيادة واردات الهند من الولايات المتحدة وتهيئة بيئة عمل مرضية للشركات الأميركية، تلعب الجغرافيا السياسية اليوم دورا محوريا في الشراكة الاقتصادية بين البلدين.

مع الإصلاحات الاقتصادية التي أدخلها مانموهان سينغ عندما تولى منصب وزير المالية بين عامي 1991 و1996، عملت الهند، التي اتخذت منحى اقتصاديا أكثر انفتاحا، على تعميق شراكتها الاقتصادية مع الولايات المتحدة بشكل لافت. وقد توطدت هذه العلاقات في عهد سينغ رئيسا للوزراء بين عامي 2004 و2014 لتشمل مجموعة واسعة من القطاعات. وفي عام 2008، أبرم البلدان اتفاقية ثنائية للتعاون في الاستخدام السلمي للطاقة النووية، وهو إنجاز تاريخي عكس مستوى الثقة التي شكلت أساسا لتعزيز التعاون في مجالات حيوية أخرى مثل العلوم والتكنولوجيا والفضاء والدفاع.

الرد الرسمي الأولي للهند على القرار المفاجئ الذي اتخذه ترمب بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المئة على السلع الهندية جاء هادئا، مع تركيز ملحوظ على الإجراءات الروتينية

وقد استفادت الهند بشكل كبير من هذه العلاقة، إذ صدرت سلعا بقيمة عشرات المليارات من الدولارات، شملت الإلكترونيات والأدوية وخدمات تكنولوجيا المعلومات، إلى جانب إرسال متخصصين هنود للعمل والاستقرار في الولايات المتحدة. ومنذ عام 2014، جعل رئيس الوزراء ناريندرا مودي من دبلوماسية القيادة عرضا عاما يحظى بحضور جماهيري كبير، وغالبا ما تفاخر بـ"صداقته" مع ترمب.

غيتي
دوريات أمنية في شارع جنوب الكشمير، حيث سقطت طائرة مقاتلة مجهولة الهوية في 7 مايو 2025

الرد الرسمي الأولي للهند على القرار المفاجئ الذي اتخذه ترمب بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المئة على السلع الهندية جاء هادئا، مع تركيز ملحوظ على الإجراءات الروتينية، وتجاهل تصريحات ترمب المتشددة على الصعيد الجيوسياسي. ومن بين تلك التصريحات، تحذيره من فرض عقوبات على الهند بسبب شرائها النفط والمعدات العسكرية من روسيا، وهي خطوة تعكس أيضا موقف واشنطن المتشدد من الحرب الروسية-الأوكرانية.

يشكل ذلك اختبارا حقيقيا لعزم الهند على التمسك بما تسميه "الاستقلال الاستراتيجي"، أي حقها في اتخاذ قراراتها الدولية بمعزل عن الضغوط الخارجية. ووفقا لتقارير إعلامية، لم تحسم الهند بعد، وهي واحدة من أكبر مستوردي الطاقة الروسية، قرارها بشأن ما إذا كانت ستطلب من مصافيها الامتناع عن شراء النفط الروسي الأرخص سعرا. ورغم ذلك، يبدو من غير المرجح أن يتراجع ترمب عن موقفه المتشدد إزاء هذه المسألة، خاصة بعد تصريحه في 31 يوليو/تموز: "لا يهمني ما تفعله الهند مع روسيا. بإمكانهما معا هدم اقتصاداتهما المتهالكة، أنا ببساطة لا أبالي."

أبدى ترمب أيضا استعداده للتضييق على الهند بسبب دورها في مجموعة "بريكس"، التي تتيح لنيودلهي ممارسة "استقلالها الاستراتيجي"

وسواء كان الاقتصاد "متهالكا" أم لا، فقد أصابت تصريحات ترمب الهجومية الرأي العام الهندي بالصدمة، على الرغم من الرد الدبلوماسي الفاتر نسبيا.

وفي مواجهة قرار فرض الرسوم بنسبة 25 في المئة، أعلنت وزارة الخارجية الهندية أن "الحكومة اطلعت على بيان الرئيس الأميركي بشأن التجارة الثنائية، وهي تدرس تداعياته". وأشارت إلى أن البلدين انخرطا خلال الأشهر الماضية في مفاوضات تهدف إلى إبرام اتفاقية تجارية ثنائية عادلة ومتوازنة ومثمرة للطرفين. وأضافت الوزارة: "ما زلنا ملتزمين بتحقيق هذا الهدف"، مؤكدة أنها ستتخذ "كافة الخطوات اللازمة لضمان مصلحتنا الوطنية."

وتلمح تصريحات الحكومة إلى وجود خلافات مع الولايات المتحدة بشأن بعض القطاعات، لاسيما تلك التي تمس "مصالح مزارعينا ورواد الأعمال والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر."

أ.ف.ب
دولارات أميركية في أحد منافذ صرف العملات في نيودلهي في 31 يوليو 2025

وأبدى ترمب أيضا استعداده للتضييق على الهند بسبب دورها في مجموعة "بريكس"، التي تتيح لنيودلهي ممارسة "استقلالها الاستراتيجي."

تأسست المجموعة بعضوية كل من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، وتضم اليوم أحد عشر عضوا، مع اهتمام متزايد من عدد من دول الجنوب العالمي بالانضمام إليها. وقد أعرب ترمب عن استيائه من البريكس لمحاولتها تطوير منصات دفع مستقلة، وتشجيع أعضائها على اعتماد العملات الوطنية في التجارة البينية.

وفي مؤتمر صحافي، قال ترمب مبررا خطوة فرض التعريفات: "إنها مجموعة البريكس، وهي في الأساس مجموعة دول معادية للولايات المتحدة، والهند عضو فيها إن صح التعبير. فالبريكس ليست إلا هجوما على الدولار، ولن نسمح لأحد بمهاجمته. لذا، فالتعريفات تتعلق جزئيا بمجموعة البريكس، وجزئيا بالوضع التجاري."

الاقتصاد الهندي بات مرتبطا بشكل وثيق باقتصادات كبرى في الغرب وآسيا، وقد نما حجمه بأكثر من عشرة أضعاف منذ تسعينات القرن الماضي

وقد خلقت تعليقات ترمب المباشرة مشاكل للحكومة الهندية على جبهتين رئيستين. أولا، يجد المفاوضون التجاريون الهنود، المعروفون بصرامتهم، أنفسهم الآن تحت ضغط متزايد من نظرائهم الأميركيين بشأن توسيع وصول الصادرات الأميركية إلى السوق الهندية، ولا سيما في قطاعي الزراعة والألبان. ثانيا، يواجه "حزب بهاراتيا جاناتا" القومي الهندوسي الحاكم ضغوطا من المعارضة، بقيادة "حزب المؤتمر"، للرد علنا وبشكل مباشر على تصريحات ترمب. وهو منحدر زلق يدرك رئيس الوزراء ناريندرا مودي وحلفاؤه تبعاته الجيوسياسية والتجارية، ولا يرغبون في الانزلاق فيه.

أما زعيم المعارضة، راؤول غاندي، فقد اقتبس من تصريحات ترمب قائلا: "إن الاقتصاد الهندي متهالك. ومودي هو من قضى عليه". ومنذ المواجهة العسكرية بين الهند وباكستان في مايو/أيار الماضي، سببت تصريحات ترمب متاعب متزايدة لحكومة مودي، حيث كرر الرئيس الأميركي، بحسب وسائل الإعلام الهندية، ما يقرب من ثلاثين مرة، أنه استخدم نفوذه التجاري للتوصل إلى وقف لإطلاق النار بين الجانبين.

وقد حرصت القيادة الهندية، التي شعرت بالإهانة من تدخل طرف ثالث في نزاعاتها مع باكستان، على تصوير وقف إطلاق النار كنتاج لتفاهمات ثنائية مع إسلام آباد. وفي المقابل، أقرت باكستان بدور ترمب وأميركا في إنهاء الأعمال العدائية، ورحبت بالتدخل الأميركي. من جهتها، تطالب المعارضة الهندية الحكومة بتقديم تفسيرات أكثر وضوحا، لا سيما في ضوء إصرار ترمب على نسب الفضل لنفسه في تهدئة الأوضاع مرارا وتكرارا.

أ.ف.ب
عامل يقف على شاحنة محملة بالموز في سوق جملة في جالاندهار، الهند في 25 يوليو 2025

غير أن المخاطر التي تواجهها الهند تتجاوز بكثير التداعيات السياسية لتصريحات ترمب. فقد كانت الإصلاحات الاقتصادية التي أطلقها مانموهان سينغ عام 1991 استجابة يائسة لأزمة حادة في ميزان المدفوعات، بلغت حد إرسال نحو خمسين طنا من احتياطيات الذهب إلى الخارج لتأمين النقد الأجنبي.

وبنظرة شاملة إلى الوضع الراهن، نجد أن الاقتصاد الهندي بات مرتبطا بشكل وثيق باقتصادات كبرى في الغرب وآسيا، وقد نما حجمه بأكثر من عشرة أضعاف منذ تسعينات القرن الماضي، رغم أن الهند ما تزال من بين أفقر الدول من حيث نصيب الفرد. وتقدر احتياطياتها من النقد الأجنبي بنحو 698 مليار دولار أميركي، وفقا لأرقام البنك المركزي الهندي.

من ناحية أخرى، لعبت الولايات المتحدة دورا محوريا في مسار نمو الهند بعد عام 1991، وتربط البلدين اليوم "شراكة استراتيجية عالمية شاملة". فهل سيتمكن ترمب من تأمين وصول أوسع للمصدرين الأميركيين إلى السوق الهندية من خلال نفوذه المالي والتنظيمي والسياسي؟ ولعل اختيار ترمب لكلماته تأكيد على تصميمه على تحقيق هذا الهدف.

font change