روتغر كوبلاند الذي أعاد البصر إلى وجودنا الأعمى

مختارات واسعة من شعره تنقل إلى الفرنسية للمرة الأولى

روتغر كوبلاند الذي أعاد البصر إلى وجودنا الأعمى

"جميعنا اختبرنا تلك اللحظة الصافية من الحضور في العالم التي يتوقف فيها الزمن. جميعنا تقبلنا في تلك اللحظة أن نكون تلك العشبة الصغيرة، أو تلك الغيمة الأكثر زرقة من غيرها، بينما جسدنا بالقرب منا ساكن مثل حقيبة. لحظة نشعر فيها أن ابتسامة طيبة تغلف كل شيء، وربما نكون مبتسمين أيضا، كأننا أخيرا ذلك المكان الفارغ لشخص ما، كي يبقى".

بهذه الفقرة يفتح الشاعر البلجيكي غي غوفيت مقدمته للمختارات الواسعة من شعر روتغر كوبلاند، التي نقلها إلى الفرنسية بول غيلينغز، وصدرت حديثا في باريس عن دار "غاليمار" تحت عنوان "كيمياء الروح". فقرة تقول على أفضل وجه ذلك الشعور الذي ينتابنا لدى قراءة هذا الشاعر الهولندي الذي لا يزال شبه مجهول خارج وطنه، على الرغم من النصوص الشعرية الباهرة التي تركها خلفه، ودفعت غوفيت إلى الإقرار بأن "أحدا لم يتمكن أفضل منه من جعل تلك اللحظة الصافية ملموسة".

فرادة

من سيرة كوبلاند، يكتفي غوفيت بذكر ولادته عام 1934 في بلدة غور الهولندية، وممارسته الطب بين عامي 1981 و1995، ثم مزاولته تعليم الطب النفسي في جامعة غرونينغن، قبل رحيله عن هذه الدنيا في عام 2012. سيرة مقتضبة جدا لأن الأهم، في نظر غوفيت، هو عمل كوبلاند الشعري الذي أثمر 14 ديوانا كتبها خلال فترة خمسين عاما، قبل أن يجمعها عام 1999 في كتاب حظي إلى حد اليوم بطبعات عدة في هولندا. دواوين يكفي ذكر بعض عناوينها لتشكيل فكرة دقيقة عن الفرادة الشديدة لهذا الشاعر: "بين الماشية" (1966)، "أُرغُن الأمس الصغير" (1968)، "من يجد بَحَثَ بطريقة سيئة" (1972)، "مكان فارغ للبقاء" (1975)، "كل تلك الوعود الجميلة" (1978)، "هذا المنظر" (1982)، "قبل التواري وبعده" (1985)، "عن الرغبة في سيكارة" (2001)، "ما تركه الماء" (2004).

في هذه الدواوين، لا يرى غوفيت "ما يمكن أن يغوي الآنسات المغرمات بـ"الشعر"، ولا ذلك الجانب المنمق، الطنان، الغامض والشعري بشكل زائف، الذي نجده في كم من الدواوين القابلة للاستبدال في ما بينها، بل عالما بأكمله، مؤقتا، مهددا، مثيرا للشكوك، للكآبة، للأسئلة التي لا إجابات عنها، وصوتا من بين أكثر الأصوات زهدا، هو عبارة عن همس رقيق ومجرد من الأوهام"، يصبغه "حنين تشحب في مرآته كل أنواع البلاغة"، كما كتب الشاعر الفرنسي الكبير جان غروجان في مقدمته لمختارات كوبلاند الأولى التي نُقلت إلى الفرنسية وصدرت عام 1986 بعنوان "التفكير في الرحيل".

كوبلاند لا يقلص الواقع إلى حدود رؤيته، بل يسعى بكل بساطة إلى أن يكون حاضرا قدر المستطاع، وإلى ترك أشياء الحياة تعبره وتمسه في الصميم

في محاولة منه لتفسير هذا الصوت ووقعه البليغ على المصغي إليه، يكتب غوفيت: "كوبلاند، الذي لا يعتبر نفسه إلها، لا يقلص الواقع إلى حدود رؤيته، بل يسعى بكل بساطة إلى أن يكون حاضرا قدر المستطاع، وإلى ترك أشياء الحياة تعبره وتمسه في الصميم، من دون أن ينتظر منها أدنى عزاء، لعلمه أن "كل شيء يمضي/ مثلما يمضي هذا اليوم على/ البلد الذي أحبه"، و"كل ما نراه/ ليس سلفا سوى ذكريات". شاعر لا رومنطيقية في شعره، لا دموع ولا صراخ، يرى في الحب، والألم، والوحدة، والموت، حقائق لا رجعة فيها، وفي التمرد مجرد عبث: "هذه هي المأساة بأكملها: لا أحد يعود/ من الليل. ستنصاع أحلامنا/ للحقائق، لا العكس أبدا، لا العكس أبدا".

GettyImages
غي غوفيت

دهشة وقلق

لذلك، تتجاور في نصوصه الدهشة أمام روعة الطبيعة مع القلق والضيق الناتجين من مرور الزمن واستحالة عكس مجرى الأشياء، بينما يهجس هو داخلها في إظهار حبكة حيواتنا، بعواطفها وتمزقاتها، بمكامن عنفها وجمالها، من خلال "نسيج من الكلمات البسيطة"، معيدا إلى الحياة اليومية لغزها. ومع أنه لم يكف عن "التفكير في الرحيل/ في التواري"، وعن البحث عن "مكان فارغ للبقاء" والعيش بسلام، إلا أنه بقي في الوقت نفسه منفتحا، منصتا إلى ما لم يأت بعد، وسيأتي حتما، لأن "ما كان بالأمس، وما سيكون غدا/ معروف، منقسم منذ الأبد/ لكنه اليوم سر مثل يد/ بلا جسد تسدل الستار".

في اختصار، يرى غوفيت في شعر كوبلاند دعوة للبقاء في حالة حضور وانفتاح تصبح العزلة فيها إيجابية، لأنه مهما اشتدت هذه العزلة، يمكننا دائما في هذه الوضعية محاورة كل شيء، الاقتراب قدر الإمكان من لغز الكون، وإيجاد ذلك السلام الداخلي الذي يجعل الشاعر يقول: "أريد أن يكون جسدي بيتا عتيقا/ بنار وكحول ونوافذ ثقيلة".

أما لماذا يدعونا غوفيت إلى قراءة كوبلاند، الذي تجمعه به قرابة مثيرة في الكتابة، وأيضا في الغنائية غير المتكلفة، المنخرطة في الملموس الآني الذي يشكل، من بلجيكا إلى فنلندا، علامة مميزة لشعر شمال أوروبا، فلأن ذلك يوفر لنا فرصة لقاء "طبيب للروح في هذا القرن الذي لا رأس له"، وشاعر "يعيد بأبياته البسيطة البصر إلى الوجود الأعمى".

تتجاور في نصوصه الدهشة أمام روعة الطبيعة مع القلق والضيق الناتجين من مرور الزمن واستحالة عكس مجرى الأشياء، بينما يهجس هو داخلها في إظهار حبكة حيواتنا، بعواطفها وتمزقاتها

من جهتنا، نرى في شعر كوبلاند نشيدا متقشفا إلى حد أن الصمت يُسمَع داخله. شعر لا يقتحمنا، بل يصل إلى مسمعنا مثل "همس حيوي يسمي سلسلة من اللحظات"، بينما لا يسعى الصوت الذي بالكاد يرتفع داخله إلى قول معجزة الوجود، التي "تفلت من المشهد، وتركن عند زاوية الأشياء، أو في أسئلة تبقى معلقة"، بل الحاضر، العابر، دورة الفصول: "فلتنتشر كلماتي/ مثل الثلج (...)/ فلترحل في الربيع/ مثلما أتت، طبيعية/ ولتذوب وتهمس وتتوارى".

معانقة الامحاء

شعرٌ بإيقاع فريد، يهيئ المصغي إليه للترحيب بالغياب ومعانقة الامحاء: "في هذا العالم المتجرد تماما/ أخفض الأشرعة (...)/ أرسو هنا (...)/ أنتظر الريح (...)/ وأفكر في الرحيل/ في التواري". لذلك، تبدو قصائد كوبلاند آثار يأس رقيق، مسارات ثلجية، انعكاسات في طقس معتم، ألغازا مهجورة. قصائد بكلمات هزيلة، لكن رصينة بعناد، تخفق بإلحاح، تكبح جماح الواقع، قبل أن تستسلم لقوانينه. وربما لأنها كُتبت من أقرب مسافة من تجربة الحياة العادية، على طاولة المطبخ (العزيزة على قلب الشاعر) أو في الحديقة، تشكل خير ركيزة للإمساك، من دون قصد، بالأسرار التي تهزنا في علاقتنا بالكائنات والأشياء. إنها، بين رقة وكآبة، "كلمات تقول النفْس"، بحسب جان غروجان.

المدهش أيضا في هذه القصائد هو أنها تمنح قارئها الانطباع بأن صاحبها لم يسعَ فيها إلى قول ما يعرفه، بل انصرف عن ذلك لالتقاط ما يجهله. هكذا نشعر به داخلها يتقدم سطرا بعد سطر نحو ما كان مجهولا داخله، أو حوله، تاركا لها مهمة الكشف، شيئا فشيئا. بالتالي، من يخاطبنا فيها ليس الشاعر، بل كلماته.

GettyImages
جان غروجان

عام 1978، كتب كوبلاند في دفتر يومياته: "نعيش وفقا للتنبؤات، لرؤى مستقبلية، والسعادة هي العيش بمستقبل مفتوح، بينما الاكتئاب هو العيش بمستقبل مغلق. السعادة هي أيضا حنين إلى الماضي، بينما الاكتئاب هو غياب الحنين وتحول الماضي إلى سجن". لكن مع تطور كتابته الشعرية، انحرف في قصائده نحو الأشكال الأساسية للفكر والتجربة الإنسانية، حيث كل شيء يدور حول اللحظة الراهنة، المؤقتة، مع الحفاظ على الكآبة الرقيقة نفسها، والنفَس المميز الذي يعزز متعة قراءته. نفَس موسيقي تحمله بساطة في التعبير ناتجة من تصفية الشاعر لغته إلى أبعد حد، وهو ما يفسر جزئيا سهولة فهم شعره، التي تعود أيضا إلى كون الغامض أو الملغز فيه يكمن في البديهي لا في الاستثنائي.

نستشف أيضا في هذه القصائد طريقة كينونة خاصة، حضورا في العالم متنبها إلى أدنى تجليات الطبيعة والحياة، ودعوة إلى التحرر من روابطنا، "بلا غضب ولا ندم"

في معرض وصفه ثمار هذا الشعر، كتب جان غروجان أنها "مختزلة في جوهرها". وصف يتجلى صوابه بقوة لدى قراءة قصائد كوبلاند المنقولة حديثا إلى الفرنسية، ومن بينها القصيدة التالية: "الزمن – من الغريب، بل من الجميل الغريب ألا نعرف ما هو/ ومع ذلك، كم مما يعيش فينا أقدم منا/ كم من كل ذلك سيدوم بعدنا!". قصائد نستشف فيها إمعان صاحبها في التقاط عناصر ملموسة، حية أو جامدة، من الحياة اليومية: أشجار عرعر، نشيد شحرور، زورق على بطاقة بريدية قديمة، حذاء صغير... عناصر متواضعة، لكنها صالحة لقول الكون بأسره، وفي الوقت نفسه، نقل تجربة حياة فريدة.

نستشف أيضا في هذه القصائد طريقة كينونة خاصة، حضورا في العالم متنبها إلى أدنى تجليات الطبيعة والحياة، ودعوة إلى التحرر من روابطنا، "بلا غضب ولا ندم"، إلى التوقف عن البحث عن خط فرار، وتقبل أن نكون في الـ"هنا" و"الآن"، وإلى التغذي من تلك التفاصيل الصغيرة حولنا التي لا نراها أو نسمعها عادة، لأنه فقط حينها لا تعود دموعنا "دموعا، بل/ مطرا" يحيينا.

قبل حادث السيارة الذي كاد يودي بحياته عام 2005، ولم يشف منه تماما، انطلق كوبلاند في استكشاف الحدود الفاصلة بين الحياة والموت، بين عالم بوجودنا وعالم من دوننا. وقد بهره مشهد العالم كما يمكن أن يبدو بعد توارينا منه، وذلك إلى حد باتت رؤية الأشياء على هذا النحو، من منظور خلود يتجاوزنا، محرك كتابته الشعرية وبوصلتها في سنواته الأخيرة. رؤية يختصرها قوله البصير الذي حُفِر على نعشه غداة وفاته: "ليس الزمن هو الذي يمضي، ولا العالم، بل أنت وأنا".

font change