السلطة الفلسطينية تستعد للاعترافات الدولية وتسعى لتفعيلها

ا ف ب
ا ف ب
رئيس الوزراء الفلسطيني محمد مصطفى يتحدث اثناء مؤتمر صحافي في رام الله في 21 يوليو للدعوة الى وقف الحرب الاسرائيلية على رام الله

السلطة الفلسطينية تستعد للاعترافات الدولية وتسعى لتفعيلها

رام الله -تواجه السلطة الفلسطينية استحقاقا دبلوماسيا وسياسيا محوريا مع اقتراب اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول المقبل، حيث رهنت عدة دول اعترافها بدولة فلسطين بتنفيذ إصلاحات سياسية، وإدارية، وأمنية، واضحة.

وفي هذا السياق اتخذت السلطة خطوات ملموسة مهمة لإظهار جديتها والتزامها بمسار الإصلاح الداخلي، منها تعيين محمد مصطفى رئيسا للوزراء في أبريل/نيسان 2024 وهو شخصية تحظى بالاحترام ولديه خبرة اقتصادية وإدارية كبيرة، واختيار حسين الشيخ نائبا للرئيس في خطوة تعكس حرصها على ضمان الاستقرار السياسي، إلى جانب إصدار الرئيس محمود عباس مرسوما بإجراء انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني قبل نهاية عام 2025، ما يعكس رغبة السلطة في تجديد شرعيتها الوطنية بالإضافة إلى قيامها بتعيين قيادات جديدة للأجهزة الأمنية بهدف تعزيز كفاءتها.

ورغم هذه الخطوات، تصطدم جهود الإصلاح الفلسطينية بتحديات كبيرة أبرزها القيود الإسرائيلية والانقسام الداخلي، مما يعرقل تنظيم انتخابات شاملة خصوصا في القدس وغزة. وبينما تؤكد السلطة أن الإصلاحات تنبع من قناعة وطنية بعيدا عن أي إذعان أو استجابة مباشرة لشروط خارجية، يبقى تحقيق الاعتراف الدولي بدولة فلسطين مرهونا بمدى التزامها الفعلي بتنفيذ هذه الإصلاحات بصورة مقنعة وجادة وتقديم نموذج حكم فعّال وقادر على استقطاب الدعم السياسي والمالي الدولي والعربي.

نبيل أبو ردينة، المتحدث باسم الرئاسة الفلسطينية وعضو اللجنة المركزية لحركة "فتح"، أكد في حديث لـ"المجلة"، أن الاعترافات الدولية المتزايدة بدولة فلسطين ما كانت لتتحقق لولا الجهود السعودية المدعومة من فرنسا ومصر والأردن، معتبرا أن هذه الخطوات تمثل تحولا استراتيجيا يؤكد شرعية خيار حل الدولتين.

"لنكن واقعيين، لولا جهود وإصرار المملكة العربية السعودية مدعومة ومؤيدة بالموقف الفرنسي والمصري والأردني لم يحدث مثل هذا الاعتراف بدولة فلسطين، وقيمة هذه الاعترافات كبيرة جدا وتثبت حق الشعب الفلسطيني في أن خيار حل الدولتين لا يزال قائما وبأن الرواية الإسرائيلية التي تبنتها دول قليلة ومحدودة غير صحيحة". قال أبو ردينة لـ"المجلة" مشيرا إلى أن الدورة المقبلة للجمعية العامة للأمم المتحدة قد تشهد موجة اعترافات جديدة، مع تحرك نحو عشرين دولة للاعتراف بدولة فلسطين، وهو ما وصفه بـ"تسونامي دبلوماسي غير مسبوق".

وشدد أبو ردينة على أن السلطة الفلسطينية ترى في هذه الاعترافات دعما لشرعيتها وإثباتا لحقها في إدارة قطاع غزة في اليوم التالي لوقف الحرب، رغم استمرار رفض إسرائيل لأي دور للسلطة هناك، فيما أشار لتعهد الرئيس محمود عباس بتنفيذ برنامج إصلاحي نال دعم وثقة الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي واللجنة الوزارية السداسية التي تترأسها السعودية، والتي أطلعت المجتمع الدولي على تفاصيله وأعلنت دعمها المطلق له، حيث يتضمن إجراء انتخابات عامة في أقرب وقت وترسيخ مبدأ الدولة الواحدة والقانون الواحد والسلاح الشرعي الواحد، وهو برنامج يحظى أيضا بإجماع عربي ودولي، مشيرا إلى أن إسرائيل تضع عراقيل أمام الإصلاحات التي تقوم بها السلطة الفلسطينية.

"نحن اليوم أمام لحظة فارقة، حيث يشهد العالم موجة اعترافات دبلوماسية غير مسبوقة بدولة فلسطين، وهو ما يعكس إجماعا دوليا متزايدا على ضرورة إنهاء الاحتلال وتمكين الشعب الفلسطيني من نيل حقوقه المشروعة"، بحسب ما أكد أبو ردينة لـ"المجلة".

وتعترف حاليا 149 دولة بدولة بفلسطين، حيث اعترفت 10 دول إضافية بفلسطين منذ 2024، منها أيرلندا، والنرويج، وإسبانيا، وأرمينيا، فيما استخدمت الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) ضد انضمام فلسطين كعضو كامل في الأمم المتحدة.

وحدة من حرس الحدود الاسرائيليين تراقب عملية هدم مبنى في بلدة جويدرة في الضفة الغربية في 4 اغسطس أ ف ب

محمد أبو الرب المتحدث باسم الحكومة الفلسطينية ومدير مكتب الاتصال الحكومي قال لـ"المجلة" إن الحكومة الفلسطينية برئاسة محمد مصطفى أنجزت منذ تسلمها مهامها مطلع أبريل/نيسان 2024 أكثر من 60 خطوة إصلاحية في المجالات المالية والإدارية، ولا تزال تواصل تنفيذ المزيد من الإجراءات بشكل يومي بهدف تطوير منظومة العمل المؤسسي وتحقيق نتائج ملموسة على أرض الواقع، مشيرا إلى أن تلك الإصلاحات قد حظيت بإشادة واضحة من الاتحاد الأوروبي، الذي أعرب عن تقديره للخطوات الإصلاحية التي اتُّخذت حتى الآن.

تعترف حاليا 149 دولة بدولة بفلسطين، حيث اعترفت 10 دول إضافية بفلسطين منذ 2024، فيما استخدمت الولايات المتحدة حق النقض ضد انضمام فلسطين كعضو كامل في الأمم المتحدة

وأكد أبو الرب أن مسار الإصلاح يمثل مصلحة فلسطينية بالدرجة الأولى، إذ يسعى إلى ترشيق الأداء المؤسسي، وترشيد وتقنين النفقات العامة، إلى جانب تحسين مستوى الخدمات المقدمة للمواطنين، بما يعزز قدرة الحكومة على مواجهة التحديات الناجمة عن الأزمة المالية المستمرة منذ توليها المسؤولية.
من جهته أكد السفير أحمد الديك، المستشار السياسي لوزيرة الخارجية الفلسطينية، لـ"المجلة"، أن الإصلاحات الجارية حاليا تنبع من حاجة حقيقية للمجتمع الفلسطيني، وتتماشى مع تطلعاته نحو بناء مؤسسات قوية وليست مجرد استجابة للضغوط الدولية، بل تمثل خطوة جوهرية لترسيخ الانتقال من مؤسسات السلطة إلى مؤسسات الدولة، بهدف تعزيز الشخصية السيادية لدولة فلسطين على الساحة الدولية، وصولا إلى نيل العضوية الكاملة في الأمم المتحدة.
وأوضح الديك أن الجهات المختصة تعمل على استكمال جميع الإصلاحات المطلوبة، بحيث تُتوَّج بإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية شاملة، تتيح بسط الولاية السياسية والقانونية على كامل الأراضي الفلسطينية، بما يشمل قطاع غزة والضفة الغربية.
ولم يمارس الاتحاد الأوروبي ضغوطا كبيرة على السلطة الفلسطينية لإجراء انتخابات تشريعية، إدراكا منه أن مثل هذا المطلب سيضعه في مواجهة مباشرة مع الحكومة الإسرائيلية، التي ترفض بشكل قاطع السماح بإجراء انتخابات تشمل نحو 350 ألف مواطن فلسطيني في القدس الشرقية، وقد سعى الاتحاد الأوروبي إلى تفادي هذا التصادم، مفضلا إبقاء الملف بعيدا عن دائرة المواجهة مع إسرائيل، فيما تركزت معظم مطالب الإصلاح الدولية الموجهة إلى السلطة الفلسطينية، منذ تأسيسها عام 1994 وحتى اليوم، على ضرورة الحد من تركّز الصلاحيات السياسية والمالية والأمنية في يد رئيس السلطة، سواء في عهد الراحل ياسر عرفات أو في عهد الرئيس الحالي محمود عباس، وقد تكللت تلك الجهود في استحداث منصب رئيس الوزراء عام 2003، واستحداث منصب نائب للرئيس عباس عام 2025 لضمان استمرارية السلطة. 
المحلل السياسي غسان الخطيب قال لـ"المجلة" إن الدول التي تطالب السلطة الفلسطينية بالإصلاح تدرك في الوقت ذاته حجم التحديات والقيود التي تواجهها السلطة، خاصة في ظل الضغوط الإسرائيلية والإجراءات المفروضة عليها، مما يجعل هامش الإصلاح المتاح محدودا للغاية، مشيرا إلى أن السلطة الفلسطينية، في ظل الظروف الراهنة، غير قادرة فعليا على تنظيم الانتخابات أو تطوير مستوى الخدمات بشكل جذري، فيما تأتي معظم المطالب الدولية مرتبطة بالحفاظ على استمرارية السلطة ومنع انهيارها كمطلب تعيين نائب للرئيس الذي يعتبر إجراءً احترازيا لتأمين انتقال سلس للسلطة في حال شغور منصب الرئيس، في ظل غياب آليات واضحة للخلافة.

يتمسك تيار نافذ بمواقف تعتبر أن الإصلاحات، خصوصا ما يتعلق بتنظيم الانتخابات التشريعية والرئاسية، تهدد مصالحه وتقلص من فرصه في الوصول إلى السلطة

وأوضح الخطيب أن هنالك ثقة لدى الاتحاد الأوروبي بأن القيادة الفلسطينية ستلتزم بتنفيذ الإصلاحات التي تعهد بها الرئيس عباس في رسالته إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مشيرا إلى أن المطالب الإصلاحية المطروحة اليوم ترتبط أساسا بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، وليست مجرد شروط للحصول على دعم مالي.
وفي خضم هذه المطالب الإصلاحية يبرز الرئيس محمود عباس بوصفه أكثر القادة الفلسطينيين التزاما بتنفيذ الإصلاحات المطلوبة داخل السلطة الفلسطينية، إذ أكد مرارا في رسائله واتصالاته مع القادة الدوليين، لا سيما في رسالته إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتاريخ 9 يونيو/حزيران، وفي محادثاته مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، عزمه على المضي قدما في هذا المسار، حيث يُعد تعهده بإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية خلال عام واحد في الأراضي الفلسطينية أبرز التزام رسمي وعلني بتنفيذ الإصلاحات السياسية والإدارية المنشودة، غير أن هذا التوجه يواجه معارضة من داخل القيادة الفلسطينية ذاتها. إذ يتمسك تيار نافذ بمواقف تعتبر أن الإصلاحات، خصوصا ما يتعلق بتنظيم الانتخابات التشريعية والرئاسية، تهدد مصالحه وتقلص من فرصه في الوصول إلى السلطة، لذلك يسعى هذا التيار إلى الالتفاف عليها كاستبدال الانتخابات التشريعية والرئاسية التي تعهد بها الرئيس عباس بانتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني قبل نهاية العام الجاري، وهي انتخابات لا تخضع لإشراف لجنة الانتخابات المركزية الفلسطينية التي تحظى بثقة ومصداقية محلية ودولية.
من جهته، قال ناصر القدوة، ممثل منظمة التحرير الفلسطينية السابق لدى الأمم المتحدة لـ"المجلة"، إن كندا ربطت بشكل واضح بين الاعتراف بالدولة الفلسطينية وتنفيذ إصلاحات ملموسة في بنية السلطة، مشيرا إلى أن الإصلاحات التي تعهد بها الرئيس محمود عباس، وفي مقدمتها إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية خلال عام، لن تتحقق على أرض الواقع، إذ تم استبدالها بانتخابات المجلس الوطني لمنظمة التحرير المقررة قبل نهاية العام الجاري.
وأشار القدوة إلى أن الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية يجب أن لا يبقى شعارا سياسيا وضرورة استثماره بشكل عملي وواضح في السياسات الدولية وتحويله إلى خطوة استراتيجية تفرض التزامات على الدول التي تتخذ هذا القرار، موضحا أن اعتراف دول مثل فرنسا بدولة فلسطينية على حدود عام 1967 يفرض عليها تبني موقف ثابت من قضايا الاستيطان ورفض محاولات الضم الإسرائيلي، ويقوّض فكرة أن قيام الدولة الفلسطينية مرهون بالموافقة الإسرائيلية.

ا ف ب
رافعة اسرائيلية تهدم مبنى في قرية جويدرة جنوب رام الله في الضفة الغربية المحتلة في 4 اغسطس

ودعا القدوة إلى تكثيف الحوار مع الدول التي لا زالت تتخذ مسارا معاكسا من الاعتراف بالدولة الفلسطينية مثل جمهورية التشيك وسلوفاكيا والمجر ورومانيا لضمان تثبيت اعترافها بدولة فلسطين على أسس واضحة وصلبة.

تمثل الخطوات الإصلاحية التي شرعت فيها السلطة الفلسطينية مؤخرا، خطوات إيجابية ومبشرة باتجاه الإصلاح الداخلي، وتعكس رغبة السلطة الحقيقية في الاستجابة للمطالب الدولية والعربية

"المجلة" اطلعت على مدار أسبوع عن كثب على مجريات الاستعدادات في مقر الرئاسة الفلسطينية في رام الله (المقاطعة)، وكذلك في رئاسة الوزراء ووزارة الخارجية، حيث تجري تحضيرات مكثفة لهذا الحدث الدبلوماسي البارز تشمل تشكيل فرق عمل متخصصة، وعقد اجتماعات موسعة مع الكوادر الدبلوماسية الأجنبية المعتمدة لدى السلطة الفلسطينية، إلى جانب الفرق الفنية والقانونية الفلسطينية، وعقد اجتماعات مع ممثلي الدول العربية بعد منتصف الشهر الجاري لحشد الدعم والتأييد العربي لهذا الاستحقاق الهام.
ويعتقد الفلسطينيون أن تحقيق مزيد من الاعترافات الدولية بدولة فلسطين يشكل نافذة أمل تفتحها اعترافات العالم بحقهم في تقرير مصيرهم وطوق نجاة لأملهم المتجدد بإمكانية تطبيق حل الدولتين، رغم الواقع الصعب الذي تفرضه سياسات الحكومة الإسرائيلية اليمينية، التي تعمل بشكل منهجي على تقويض هذا الحل وجعله مستحيلا، سواء عبر التوسع الاستيطاني المتسارع، أو من خلال عزل التجمعات الفلسطينية في كانتونات منفصلة بالضفة الغربية، فضلا عن تدمير مقومات الحياة في قطاع غزة. 
وفي ظل موجة الاعترافات المرتقبة بالدولة الفلسطينية، يطرح الفلسطينيون تساؤلات حول مدى جدية هذه الخطوات، وإن كانت ستترجم هذه الاعترافات فعليا بتحويل قنصليات تلك الدول في القدس الشرقية إلى سفارات رسمية لدولة فلسطين، ورفع مستوى التمثيل الدبلوماسي للسلطة الفلسطينية في عواصم تلك الدول إلى مرتبة السفارات الكاملة.
تمثل الخطوات الإصلاحية التي شرعت فيها السلطة الفلسطينية مؤخرا، خطوات إيجابية ومبشرة باتجاه الإصلاح الداخلي، وتعكس رغبة السلطة الحقيقية في الاستجابة للمطالب الدولية والعربية، على الرغم من اعتبارها شأنا داخليا في المقام الأول، فيما تبقى هذه الجهود رهينة لعقبات جوهرية، يأتي في مقدمتها استمرار الاحتلال الإسرائيلي الذي يهدد إمكانية تطبيق إصلاحات شاملة وذات مصداقية فتنظيم انتخابات دون مشاركة القدس وغزة سيفقدها جزءا كبيرا من الشرعية الشعبية، وقد يزيد من تعميق الانقسام الفلسطيني بدلا من حله، لذلك فإنه من الضروري أن تقوم السلطة الفلسطينية بحشد الدعم الدولي لإلزام إسرائيل بالسماح بإجراء الانتخابات في القدس وضمان ظروف مناسبة لمشاركة غزة، حتى يكون الإصلاح الذي تطالب به دول العالم السلطة الفلسطينية ويحلم به الفلسطينيون إصلاحا حقيقيا.

font change