الواقعية الجريئة في "حكايتان من النهر" لعبد الله ناجي

عن الحكاية التي تسيل

الواقعية الجريئة في "حكايتان من النهر" لعبد الله ناجي

يمتلك الروائي السعودي عبد الله ناجي أسلوبا سرديا محكما يجمع بين الرهافة الحسية والواقعية الجريئة، إذ يتعامل مع الحكاية ككائن حي يتنفس ويتحول، ويتجاوز الحيلة الفنية ليتجه نحو الجوهر. تظهر في أعماله انشغالات بالهوية، والانتماء، والتفكك الأسري، وقلق الفرد في مواجهة مصيره الغامض. يكتب بحساسية من عايش الفقد، ويمنح شخصياته مساحة للتنفس والاعتراف، مبتعدا عن القوالب النمطية الجاهزة في رسم الأبطال والضحايا على حد سواء.

منذ العنوان، يضعنا عبد الله ناجي أمام استدعاء شعري كثيف: "حكايتان من النهر" (دار "رشم"، السعودية). لا يحضر النهر كعنصر جغرافي، إنما يتخذ شكل مجال رمزي، كاستعارة لمرور الزمن، وجريان الجرح، واحتواء الأسرار. في الرواية، يتبدل النهر إلى مجاز للزمن والذاكرة والجسد الذي ينزف ويسعى إلى التطهر.

تعتمد الرواية على بنية مزدوجة الأصوات: صوت إيمان وصوت أحمد. يتنفسان، يتألمان، ويتقاطعان في بعد نفسي وروحي عميق. لا يتقدمان بوصفهما أبطالا نمطيين، وإنما يمثلان شظايا لحياة تتبعثر في الظلمة، حيث يبحث الإنسان عن تفسير لما جرى. إيمان تجسد صدمة الأنثى المقهورة، التي تحاول استعادة ذاتها بعد اغتصابها، وأحمد يمثل صورة الرجل المنكسر المطرود من أسرته، الذي يحاول إعادة بناء وجوده داخل مدينة غريبة.

ما يمنح السرد تفرده أن الحكايتين تسيران متداخلتين، تتقاطعان، ثم تتباعدان كأنهما شظايا مرآة، كل شظية تعكس جرحا مختلفا، لكنهما معا تشكلان صورة الجرح الكلي.

كتابة الألم من الداخل

تكشف الرواية عن واحدة من أعنف المآسي: الاغتصاب. غير أن عبد الله ناجي يكتب هذا الحدث من داخل الجسد المجروح، ومن عمق الروح المنكسرة. يتحول الجسد إلى النص الأول للصدمة. في مشاهد إيمان، يتحول الجسد إلى مساحة للعار، إلى ذاكرة محفورة، إلى يوميات مأهولة بالخزي. تتخذ الأشياء اليومية كالمراحيض والملابس والكرسي معاني ثقيلة ومؤلمة. كل شيء في جسد إيمان يصرخ بهدوء عميق.

ما يمنح السرد تفرده أن الحكايتين تسيران متداخلتين، تتقاطعان، ثم تتباعدان كأنهما شظايا مرآة، كل شظية تعكس جرحا مختلفا، لكنهما معا تشكلان صورة الجرح الكلي

أما أحمد، فينصت، دون أن يتقمص دور المنقذ. في هذا الإنصات تتجلى قوة النص، إذ يتحول الاستماع إلى مشاركة روحية في الألم. الرجل هنا يغدو صدى، ومرآة تتلقى الحقيقة وتشاركها بحضوره الهادئ.

تبدأ الرواية بمشهد شبه أسطوري، نسوي الطابع، نساء مغتصبات يرددن غناء بأعين مغمضة، وتخرج من بينهن صاحبة الصوت الأقوى، التي يتضح لاحقا أنها إيمان. يمنح هذا المشهد النص مفتاحا تأويليا: المرأة لا تمثل بوصفها ضحية فحسب، إنما باعتبارها مصدرا للشفاء، هي التي تضم الجرحى حولها، وتصبح الشجرة التي يتفيأن ظلها.

في هذا المشهد، تستعيد إيمان ذاتها عبر الغناء، حيث يتحول الصوت إلى طقس تطهير وشفاء من الندوب. وعند تقاطع الحكايتين، أحمد لا ينقذ إيمان، بقدر ما يبدو شاهدا هشا، رجلا لم يعرف ألم المرأة التي أحبها، ولم يملك الوسائل لحمايتها، ولم يدرك حجم معاناتها. هشاشته، طرده من المنزل، ارتباطه بجارته أمل، وانفصاله عن عائلته، كلها عناصر تصنع شخصيته المثقلة بالخذلان. حيث تظهر الرواية الجميع كضحايا، لكن بأشكال وتجارب مختلفة.

غلاف رواية عبدالله ناجي "حكايتان من النهر"

تنشأ بينه وبين إيمان، مساحة رمادية من الرغبة والبوح، من الترقب والحنين، من الاحتمالات الضائعة، حيث تتلاشى فكرة الخلاص الكامل، ويبقى فقط الاعتراف الصادق. لذلك، تتجنب الرواية الحلول الجاهزة، وتغوص في تعقيد التجربة الوجودية.

يكتب عبد الله ناجي بلغة ناعمة، لكنها تخفي نصلا حادا في عمقها. يختار الدقة، والانفعال المنضبط، ويوازن بين السرد الواقعي والمجاز العاطفي. حين تكتب إيمان عن لحظة الاغتصاب، تتجنب اللغة المباشرة، وتعتمد تعبيرا صامتا، مكسورا، يجعل القارئ يشهد الألم ببطء ثقيل.

تتخلل النص إشارات إلى كتب أخرى، من بينها "ألف ليلة وليلة"، وشخصية تودد التي تتخذها إيمان مثالا للمقاومة بالمعرفة والثقافة. تتحول تودد إلى استعارة عن قدرة المرأة على تجاوز سطوة الذكورة بالحكمة والفطنة والوعي.

الرواية كملاذ

في لحظة مفصلية، تقول إيمان لأحمد إنها وجدت نفسها في كتاب من تأليفه. هنا تصل الرواية إلى "ميتاسرد" واضح، وتطرح سؤال الكتابة وجدوى الحكاية. تبدأ الرواية من لحظة اعتراف، من لحظة كتابة، ومن هنا تستمد قوتها. يظهر الاعتراف كحركة مزدوجة: إيمان تبوح بجراحها، وأحمد يكشف عن عجزه. الكتابة تتحول إلى وسيلة لترميم ما يصعب ترميمه، للعبور نحو ضفة النهر الأخرى، حيث لا ينتظر أحد، غير أن المحاولة تظل ضرورية.

يكتب عبد الله ناجي بلغة ناعمة، لكنها تخفي نصلا حادا في عمقها. يختار الدقة، والانفعال المنضبط، ويوازن بين السرد الواقعي والمجاز العاطفي

تتناول الرواية قصتين متجاورتين في الألم والبحث عن النجاة، تجمع بين إيمان، الطالبة الجامعية التي تتعرض لاغتصاب عنيف في مستهل الرواية، وأحمد، الشاب الذي يعيش اغترابا عائليا ونفسيا بعد طرده من منزل أسرته في مكة، فينتقل للعيش وحيدا في جدة،.يتمثل الحدث المركزي في لقائهما بعد سنوات من التبعثر، حيث تروي إيمان قصتها لأحمد"، ليكتشف أنها بطلة روايته من دون أن يعلم.

تتوزع الشخصيات المحورية بين إيمان، وأحمد، وقاسم الضبع، سائق النقل اليمني الذي يحمل خلفه حكاية نجاة قاسية من الحدود، وأمل، المرأة التي كانت سببا في طرد أحمد من بيت العائلة، وهيفاء، صديقة إيمان التي تمثل نقطة توازن وأمل.

الرواية لا تقتصر على حدث واحد، إنما تنسج من الانكسار المتراكم، والصمت، ومحاولة استعادة المعنى وسط حياة منهكة بالندوب. تروي صراع الإنسان مع ذاته، مع جسده، وتاريخه، وتظهر كيف يمكن حكاية أن تنقذ أخرى.

يحمل عنوان الرواية "حكايتان من النهر" أبعادا رمزية متعددة. الحكايتان تنبعان من مجرى سردي واحد، هو النهر، الذي يمثل الزمن والذاكرة والجرح. إيمان وأحمد، يصدران عن نهر الحياة ذاته، وتبقى حكايتاهما متداخلتين، تصنعان معا صورة عن العطب الإنساني، وعن اعتراف يتأخر، ونجاة قد لا تحدث. النهر يظهر شاهدا، وحاملا، كأن الحكايات تستخرج من العمق وتقدم إلينا.

تعتمد الرواية على كسر التسلسل الزمن التقليدي، فلا وجود لبداية واضحة أو نهاية حاسمة. السرد يتحرك بين الحاضر والماضي، بين الاسترجاع والاعتراف، يتشظى كما تشظي الذات. يبدأ صوت إيمان من لحظة الانفجار الجسدي، ثم يعود إلى الطفولة والدراسة، فيما ينسج أحمد حكايته من طرده من العائلة إلى انهيار الأب ثم لقائه بإيمان. هذا البناء يحاكي بدقة بنية الذاكرة المجروحة، التي تتبع ترتيبا وجدانيا لا زمنيا، وتصوغ المشهد حسب وطأة الألم وحده.

بين الغنائية والاعتراف

تحمل الرواية إيقاعا لغويا داخليا يتراوح بين الشاعرية المرهفة والانكسار الباطني. في مشهد الغناء النسائي، تقول إيمان: "كنت من الفريق الأول، وصعدت مع سلم غنائي هذه العبارة: أنا أطير، كنت أغنيها وأترنم بها وأرتلها وأنشدها، وأمد بها صوتي، أنا أطير". يكشف هذا الاقتباس عن البعد الغنائي للغة، حيث يستخدم الفعل الصوتي (أغني، أترنم، أرتل، أنشد) كوسيلة للتحليق فوق الجرح. يتحول الإيقاع إلى طقس شعائري للشفاء.

تضع الرواية قارئها في مواجهة مأساة مجردة، دون بطولات مزعومة أو حلول سحرية، وتقدم له سردا صادقا من وجع الاعتراف

في لحظة اعتراف أخرى، تقول: "لقد تنجس جسدي، وجسداهما طاهران... كنت أشعر بالاشمئزاز كلما جلست على كرسي المرحاض، كأنه ملعون"، هنا ينكسر الإيقاع ليصبح نبرة خافتة، متخلية عن الزخرفة، ومنسجمة مع صوت الانكسار. يتحكم عبد الله ناجي بهذا الإيقاع الداخلي بدقة، ليخلق لغة تقرأ وتسمع وتحس في آن.

"حكايتان من النهر" ليست عن حكايتين فحسب، إنما عن الحكي بوصفه خلاصا. عن قدرة السرد على أن تنقذ، ولو رمزيا، أولئك الذين لم ينقذهم أحد. يكتب عبد الله ناجي نصا روحيا، يتوغل في الجرح الإنساني، ويعيد مساءلة مفاهيم الذكورة والأنوثة، العار والبوح، النجاة والانكسار.

تضع الرواية قارئها في مواجهة مأساة مجردة، دون بطولات مزعومة أو حلول سحرية، وتقدم له سردا صادقا من وجع الاعتراف. في هذا العمل، يذهب عبد الله ناجي نحو رواية ناضجة، محكمة، ذات بعد إنساني عميق، تجعل من الحكي فعل مقاومة، ومن الألم وعيا، ومن الذاكرة جسدا حيا، يتجدد ولا يمحى بسهولة. رواية تقرأ وتحس، وتبقى مفتوحة كنهر لا قرار له، ومع ذلك يستمر في الجريان.

font change

مقالات ذات صلة