ممدوح حمادة لـ"المجلة": من المبكر الحديث عن رفع سقف الحريات في سوريا

ممدوح حمادة لـ"المجلة": من المبكر الحديث عن رفع سقف الحريات في سوريا

حفر اسمه في الوعي السوري بكتاباته الناقدة الساخرة، حتى بات السوريون يستعيرون من شخصياته كلمات وصورا تختصر إيصال الفكرة. إنه السيناريست والمخرج ممدوح حمادة، ابن مدينة الجولان الذي نزح صغيرا، ليستقر مع عائلته في الجنوب السوري، وليسافر بعدها إلى الاتحاد السوفياتي، ويقضي معظم حياته في بيلاروسيا.

درس الصحافة ودرّسها، ثم أنهى دراسة الإخراج السينمائي عام 2009.

يكتب القصة القصيرة ويصدرها على صيغة دفاتر، منها دفتر الحرب ودفتر العسكرية ودفتر القرية.

أخرج أربعة أفلام قصيرة، أولها "ضمانات للمستقبل"، وفيلم "ما زلت على قيد الحياة" وفيلم "سطو"، وهو من تأليفه وإخراجه، وفاز بجائزة أفضل سيناريو في مهرجان مراكش الدولي للفيلم القصير. هنا حوار "المجلة" معه.

درست الصحافة ودرّستها لما يزيد على عشر سنوات، ومن ثم درست الإخراج السينمائي، وخلال تلك السنوات رسمت الكاريكاتور ونشرت في صحف عديدة، ما الذي دفعك في النهاية نحو كتابة السيناريو؟

الكتابة كانت البداية، هذا عندما نتحدث عن الرسم والكتابة، فقد بدأت كشاعر كما يبدأ معظم الكتاب في بداياتهم، ورسم الكاريكاتور كان في حياتي دائما على شكل هواية حاولت أن أمتهنه في بعض الأحيان، ولكن عدم توافر منابر النشر وتواضع مهاراتي التقنية كرسام، وقفا عائقا أمام ذلك ولكنني أتابع ممارسة هذا الفن كهواية تنشط أحيانا وتخمد أخرى، أما بالنسبة للدارسة والعمل فهي مراحل من حياتي أشبه فيها الكثير من الناس، ولا أعتقد أن الكتابة على تعارض مع ذلك.

"ضيعة ضايعة" و"الخربة"

كتبت "ضيعة ضايعة"، التي أحالها الجمهور على منطقة الساحل السوري، و"الخربة" التي تعكس ثقافة السويداء السورية، وهناك عمل عن منطقة الفرات، وكذلك آخر عن حلب، لم يريا النور بعد، الكتابة عن المدن السورية بهذه التفاصيل، هل هي كتابة بيئية أتت من حكايا الواقع، أم أن الأدب والخيال كانا وراءها؟

"ضيعة ضايعة" و"الخربة" كانا جزءا من مشروع لم يكتب له الاكتمال بسبب الحرب، وهذا المشروع كان يستعير البيئة كحامل لقصصه، لكن قصصه لم تكن بيئية وإنما قصص ذات موضوعات إنسانية، ولو نقلنا أيا من هذه الأعمال إلى بيئة أخرى لما تغير شيء، والكثير من حلقات هذين العملين موجودة كقصص قصيرة وتحدث في بيئات أخرى وأبطالها مختلفون، بعض قصص هذه الأعمال مستقاة نسبيا من الواقع وبعضها من نسج الخيال، ولكن في كل الأحوال عندما نتحدث عن الأدب الواقعي وهذه القصص تنتمي إليه بهذا الشكل أو ذاك، فإن الواقع يشكل فيها الأساس الذي يبنى عليه، حتى لو كانت القصة من نسج الخيال بشكل كامل.

كان هناك هامش حرية يتسع ويضيق وكنا نناور داخله، وكان الأمر أشبه بلعبة كرة قدم، من يتمكن من المناورة أكثر يحرز أهدافا، ومن يهاجم بخط مستقيم لا يصل

هذه الكتابة الناقدة يضاف إليها مسلسل "بقعة ضوء" الذي احتوى على لهجة شديدة بالنقد السياسي وكذلك مسلسل "الواق واق"، جميعها أنتجت في ظل النظام الديكتاتوري، كيف تعاملت مع الرقابة الشديدة والمنع الذي طاول جميع مناحي الإبداع في سوريا؟

في الكتابة الدرامية لا يمكن الحديث عن بطولات، فمعظم الشركات التي أنتجت هذه الأعمال هي شركات مرتبطة بالسلطة إلى درجة ما، كان هناك هامش حرية يتسع ويضيق وكنا نناور داخله، وكان الأمر أشبه بلعبة كرة قدم، من يتمكن من المناورة أكثر يحرز أهدافا، ومن يهاجم بخط مستقيم لا يصل إلى المرمى. هذا بالنسبة للهامش الذي يمكن المناورة داخله، أما من يتجاوز الخطوط الحمراء فقد كان يمنع، ولدي الكثير من اللوحات التي منعت في "بقعة ضوء"، والكثير غيرها التي تم التلاعب بمحتواها، بحيث تصل إلى الشاشة، ولكنها بعد التلاعب بمحتواها كانت تفقد فاعليتها، وبالحديث عن الرقابة في ظل النظام السابق لا يمكن وصفها بالرقابة الصارمة، وربما مقارنة مع الرقابات العربية الأخرى يمكن اعتبارها منفتحة، فلدي نقاط تصادم مع رقابات أخرى لم تكن الرقابة السورية تتوقف عندها. أنا ضد الرقابة بطبيعة الحال، فهي نوع من الوصاية من الأسفل على الأعلى، وهي في غالبيتها لا تعبر عن مصالح المجتمع، بل عن مصالح مؤسسات مختلفة الأنواع كلها تشكل عصا في عجلة التطور.

GettyImages
سلاح الجو الإسرائيلي يقصف مواقع سورية في الجولان خلال حرب الأيام الستة عام 1967

الجولان

لنتحدث عن الجولان، مكان ولادتك، اضطرارك للنزوح طفلا مع عائلتك، واستقراركم في الجنوب السوري، كيف هي علاقتك بذاك المكان وهل مرت هذه العلاقة بمراحل قد تكون قد اختلفت منذ الطفولة حتى الآن؟

عندما خرجنا من هناك كانت بداية مرحلة تشرد، شئنا ذلك أم أبينا، وكان الحنين والشوق إلى ملاعب الطفولة يشدنا كثيرا، خاصة أن أهلنا الذين هناك نعرفهم معرفة شخصية وكنا نعيش معا. مع مرور الزمن بدأت عملية الاستسلام للأمر الواقع، وأصبحنا نتقبل فكرة أن لا عودة للجولان إلى سوريا، وإن حصل ذلك فليس في حياتنا، وتتعاقب الأحداث لتثبت صحة هذا الشعور، ومع مرور الزمن أكثر بدأنا نفقد الذين نعرفهم هناك، ومنذ أيام، وبوفاة خالتي، بالنسبة إلي انقطع آخر خيط يربطنا مع من هناك بشكل مباشر. بقية الخيوط التي تربطنا مع من هناك كلها موصولة إلى الجيل التالي الذي لم نلتق به وجها لوجه، وبالتالي فإن الحميمية تتلاشى شيئا فشيئا، وربما مع أولادنا أو مع جيل تال لأولادنا تتبدد هذه الحميمية نهائيا.

مع مرور الزمن بدأت عملية الاستسلام للأمر الواقع، وأصبحنا نتقبل فكرة أن لا عودة للجولان إلى سوريا، وإن حصل ذلك فليس في حياتنا

تنشر قصصا قصيرة في صيغة دفاتر، مثل دفتر الأباطرة ودفتر العسكرية، وهناك دفتر القرية، التي بمجرد ذكرها يتبادر إلى الذهن قرية أسعد، هذه الشخصية المحملة بالإيجابية والطيبة والصدق، ومسرح أحداث كتاباتك عموما هو الأماكن البسيطة والريفية...

الدفاتر هي مجموعات قصصية يوحدها الموضوع، وكان يمكن أن أنشرها بطريقة أخرى دون أن تحمل هذه التسمية، وربما لديك انطباع غير دقيق حول محتوياتها، فهي في معظمها لا ترتبط بالقرية، وهناك فقط مجموعة واحدة تجري أحداثها في القرية هي "دفتر القرية"، أما بقية الدفاتر، مثل دفتر الحرب، فتجري أحداثه في الحرب، ودفتر الغربة في الغربة ودفتر الدراما في الدراما ودفتر الاجباري في المعسكر إلى آخره، أما القصص الطويلة التي كتبتها، "المحطة الأخيرة" و"جلنار" و"ضمانات للمستقبل"، فتجري أحداثها في المدينة، والكلام نفسه ينطبق على الأعمال الدرامية التي يتجاوز عددها الأربعين، فهي في معظمها تجري أحداثها في أوساط المدينة، وفقط "ضيعة ضايعة" و"الخربة" وبعض اللوحات في "بقعة ضوء" تنتمي إلى البيئات الريفية.

AFP
علم الاستقلال السوري يزين مبنى محافظة حماة في 30 ديسمبر 2024

انفتاح

ماذا بعد الانفتاح على أفق الحرية، النقد الساخر يقوم على التلميحات، الآن غالبا السقف مفتوح للحديث صراحة، ما العنصر الذي يمكن أن تلعب عليه حتى تضيف هذه الروح الساخرة؟

موضوع التلميحات والإسقاطات ليس الدافع إليه دائما رقابيا، أو تقييد حريات، موضوع التلميحات والإسقاطات فيه شيء من التلغيز الذي يدفع المشاهد لاكتشاف القصد بنفسه. وهذه عوامل مهمة في الكوميديا، وإذا انتقلنا الى موضوع رفع سقف الحريات، فبالتأكيد سينعكس ذلك على شكل التعبير الذي سيلجأ إلى الشكل المفتوح أكثر، ولكن من المبكر حتى الآن الحديث عن ارتفاع سقف الحريات، فنحن بعد لم تتشكل لدينا المؤسسات التي عادة ما ترفع أو تخفض السقف، وحتى هذه اللحظة لا يوجد هناك سقوف مرتفعة، من يتكلم بصراحة يفعل ذلك بسبب عدم وجود سلطة راسخة لديها القدرة على المنع، وربما يكون الانفتاح أحيانا رشوة، ريثما تستتب الأمور، وقد كنا نشاهد هذا في بعض المراحل أثناء حكم النظام السابق، ففي بداية الأزمات التي كانت تعصف به، كان يتراخى رقابيا ويرفع السقف قليلا، ولكنه ما إن يتمكن حتى يطبق برقابته على الصدور. في المرحلة الحالية يقوم بهذه المهمة ما يسمى بالذباب الإلكتروني المأجور، فما لا تستطيع المؤسسة القيام به، يتكفل هو بفعله، ولا يتوانى عن محاولة تدمير أي مبدع يبوح بما يحتوي على نقد للسلطة الحالية.

ما لا تستطيع المؤسسة القيام به يتكفل الذباب الإلكتروني بفعله، ولا يتوانى عن محاولة تدمير أي مبدع يبوح بما يحتوي على نقد للسلطة الحالية

هل تؤمن بأن "التاريخ يعيد نفسه إما على شكل مأساة أو على شكل مهزلة"، كما يقول ماركس، وما هي رؤيتك لسوريا؟

أعتقد أن ماركس كان يتحدث عن أوروبا، عندنا يستطيع التاريخ أن يعيد نفسه على شكل مأساة، مائة مرة، أو على شكل مهزلة، مائة مرة، فنحن لا نتعلم من تجاربنا، بالنسبة إلى سوريا لا داعي لذكاء خارق لكي نعرف ما الذي سيحصل، أعتقد ان كل ما يجري هو قصف تمهيدي يسبق خرابا نهائيا، إننا أمام تشكيل شرق أوسط جديد يعقب الفوضى (الخلاقة)، المأساة مستمرة.

شراكتك الإخراجية خاصة مع الليث حجو انعكست نجاحا لافتا على الأعمال التي جمعتكما، لكن ألم يحن الوقت لبدء إخراج أعمالك بنفسك، أم أنك لا تفكر في هذا المنحى؟

لا شك أن التفاهم المتبادل والقدرة لدى الليث على قراءة النص ورؤية ما بين سطوره بشكل جيد لا يتقنه الكثيرون، يشكلان عاملين أساسيين لنجاح أعمالنا المشتركة، وفي الكثير من الأحيان يشكل غياب هذا التفاهم سببا في فشل العمل. بالنسبة للإخراج فقد أنجزت أربعة أفلام قصيرة ولدي النية للقيام بأكثر من ذلك، وبالنسبة إلى المسلسلات هناك رغبة، ولكن ينقصها الدعم حاليا.

font change