عبود الجابري لـ"المجلة": الحزن نافذة الشعراء على هشاشة الذات والوجود

لا يمكن اللغة أن تتعاظم لتليق بمن فقدناهم

عبود الجابري لـ"المجلة": الحزن نافذة الشعراء على هشاشة الذات والوجود

المتجول في قصائد الشاعر العراقي عبود الجابري لا بد أن يستوقفه غوصها في عالم متشظ ومشحون بقلق المنفي داخل وطنه وخارجه في آن واحد.

الجابري، الذي صدرت له تسعة دواوين وترجم عددا من الدراسات والنصوص الإبداعية عن الإنكليزية، أضفى "هيبة للحزن" على نصوصه التي تسعى لكشف هشاشة الإنسان وسط الخراب، متكئا في تأويله للواقع على حساسية لغوية تستقي من الشعرية العربية الحديثة مع وعي فلسفي يحركه قلق وجودي دائم.

عن الشعر والشجن والغربة كان لـ"المجلة" مع الجابري هذا الحوار.

انتقلت للاستقرار في الأردن عام 1993، وأول دواوينك "فهرس الأخطاء" صدر عام 2007، كيف شكلت البيئة الأولى في العراق ذائقتك ولغتك الشعرية؟ وما الذي غيره فيك الاغتراب؟

البيئة العراقية كانت البذرة الأولى لميولي الشعرية، إذ لم تكن اللغة وحدها هي المؤثر الأبرز، بل ذلك الإيقاع اليومي للحياة، وما يحمله من تفاصيل تربط الحياة بالألم كجزء أصيل من الوعي الجماعي.

في العراق، للكلمات قوة مستمدة من التجربة، حيث تتجاوز حدود المعاني الظاهرة لتصبح امتدادا للمواقف والشعور. الشعر هناك لم يكن مجرد ترف أو زينة لغوية، بل شكل أداة للبقاء، فضاء للصراخ أو وسيلة للتعبير عن التماهي مع واقع يغص بالتناقضات والحروب.

ترعرعت في بيئة غنية بالمفردات المتشابكة بين الحزن والصمود، منشغلة بجمال الفصحى ولهيب العاميات المحلية، بين ما يرويه الشعر الشعبي ويتناقله الناس في المجالس، وما يكتب من الشعر بجميع أجناسه، الصحف جميعها كانت تصدر صفحات ثقافية يومية، والمدارس تقيم مسابقات شعرية وخطابية منذ المرحلة الابتدائية، فتكوّن لديّ حس عميق نحو الكلمة، ومهارة في الإصغاء إليها قبل أن أقدم على صياغتها. هذا التنوع اللغوي والثقافي علمني كيف يمكن النص أن يتمدد ليحمل أكثر من مجرد رسالة.

للمرأة دور خاص داخل حدود القصيدة: قد تكون حلما غائبا يستدعيه قلب الشاعر، أو ملامح عائدة تملأ حزنه بالأثر

وحين غادرت العراق تغيرت المعادلة، فالبعد عن مسقط الرأس كان خليطا من التحرر والتقيد، فقد منحني فرصة لرؤية الأشياء من زوايا جديدة وتجربة فضاءات مختلفة، ومع ذلك، كان الحنين إلى الوطن قيدا دائما يعيدني إلى ما فقدته. في الأردن، انفتحت أمامي عوالم جديدة للكتابة، وصار من السهل عليّ أن أتواصل مع الصحف والمجلات العربية، والحصول على الكتب التي كانت ممنوعة في العراق، وبدأت رحلة تساؤل أعمق حول علاقتي بالقصيدة.

الحزن والشعر

نلمس الشجن في دواوينك مثل "فهرس الأخطاء"، "يتوكأ على عماه"، "متحف النوم"، و"تلوين الأعداء"، فهل بات الحزن عندك مناخا شعريا أكثر منه موضوعا عابرا؟

الحزن لدى الشعراء ليس مجرد عنصر جمالي عابر، بل يصير نافذة تكشف هشاشة الذات والوجود. في ديوان "تلوين الأعداء"، يتجلى الحزن كخلفية ثابتة، مشحونا بكثافة شعورية وألم يصل إلى ذروات أشد قسوة تبعا لما حدث في العراق من منازعات تشبه بشكل أو بآخر الحرب الأهلية بين أبناء جلدتي.

shutterstock
صورة جوية لمدينة بغداد تُظهر المجمعات السكنية ونهر دجلة والجسر، مع حركة مرور كثيفة للسيارات

العناوين مثل، الخواء والجوع والانتحار... تعكس عالما مأزوما كنت أراه بعين جريحة، ولم يكن عليّ أن أكتفي بالرثاء، فسعيت إلى إعادة تشكيل الألم شعريا بمنظور متجدد، وتكرار ما حدث في العراق جعل الحزن جزءا أساسيا من هويتي الشعرية، وأضاف إليها أبعادا جديدة، كان التحدي فيها هو: كيف أصوغ الحزن شعريا دون الوقوع في التكرار؟

المرأة والقصيدة

في هذا السياق أيضا، لا تظهر المرأة في أشعارك موضوعا للحب أو الرغبة، غالبا، بل مرآة لانكسارات الذات والواقع، لماذا وظفتها في هذه الرمزية؟

المرأة ليست مجرد تجسيد للحب أو الجمال كما يتصور عادة، بل هي كيان يتجاوز هذه الحدود ليغوص في أعماق أكثر تعقيدا وتشابكا، وفي هذا السياق، تظهر المرأة كمرآة لحالة الذات المقاومة أو الملتهبة بالتوتر، قد يكون السبب وراء ذلك أن الشعراء يرون فيها تجسيدا بارزا للفريسة التي يمكن الإيقاع بها في رحلة صيد، وعندما يكتب عن المرأة بهذه الطريقة، فإن الحديث يمتد ليشمل فكرة أو رمزا بدل الكتابة عن امرأة بعينها، المرأة في نصوصي تأخذ دورا خاصا داخل حدود القصيدة: قد تكون حلما غائبا يستدعيه قلب الشاعر، أو ملامح عائدة تملأ حزنه بالأثر.

ثمة مشاعر لا يمكن اللغة أن تتعاظم لتكون لائقة بمن نكتب عنهم، لا سيما أولئك الذين فقدناهم في ذروة حاجتنا إليهم

إنها تمثل جمالا منفلتا لا يمكن الإمساك به، وفكرة دائمة البعد رغم السعي المستمر نحوها. يمكن أن تكون حالة نفسية مضمرة أو صورة مثالية تسكن في خيال الشاعر، لا تلامس إلا من خلال الألم والانكسار، وهذه الرمزية تضفي مستويات أعمق على التجربة الشعورية للشاعر ضمن إطار علاقته بالعالم المحيط، بعيدا من أي ارتباط بنموذج تقليدي للحب أو الرغبة المعتادة.

صورة الأب والأم

يحضر الأب بقوة في أشعارك، في حين يقل حضور الأم، ماذا يعني لك كل منهما شعريا؟

لم أتعرف الى أبي، بسبب رحيله المبكر بعد ولادتي بشهور، ووجود الأب في نصوصي غالبا ما يرتبط بتفاصيل الأبوة المفقودة كصورة رمزية للثبات والتوجيه، مما يجعله حاضرا بشكل أكثر وضوحا، هذا الحضور الذي أصوره على هيئة ركيزة تبنى عليها القوة النفسية، اليتم، إن شئت أن أكون أكثر وضوحا.

GettyImages
مشهد لآليات نقل الجنود الأميركية المدرعة M113 أثناء عبورها الصحراء خلال حرب الخليج في العراق، 1991، وتظهر آبار النفط المحترقة في الخلفية

ولا أملك ما أقوله عن أمي، لأني أجد اللغة عاجزة أمام ما أريد قوله عنها، وفي الغالب يكون حضورها في أشعاري أكثر تناغما مع الحنان، والعاطفة، والحب اللامحدود، ربما يكون حضورها أقل لكنه أعمق وألطف، ويبدو أننا نملك الجرأة على وصف ما لم نر بوضوح أكثر مما نكتبه عمن رأيناهم، ثمة مشاعر لا يمكن اللغة أن تتعاظم لتكون لائقة بمن نكتب عنهم، لا سيما أولئك الذين فقدناهم في ذروة حاجتنا إليهم.

جدلية الشكل والمضمون حاضرة دائما في النص الأدبي. كيف تنظر إلى أثر المفاضلة بينهما على جمالية النص الشعري ورسالته؟

الجدلية بين الشكل والمضمون تمثل محورا مركزيا في الدراسات الأدبية، ولا سيما عند تناول النصوص الشعرية، فهما يشكلان وحدة متداخلة لا يمكن فصل عناصرها، كلاهما يتفاعل بشكل ديناميكي بحيث يؤثر أحدهما على الآخر ويحددان معا قيمة النص الأدبي وجمالياته.

العزلة تظهر تأثيرا عميقا في العملية الإبداعية، خصوصا عندما تكون مفروضة وغير اختيارية، مثلما شهد العالم خلال جائحة كوفيد19

ويعد الشكل إطارا يستند إليه المضمون لترسيخ ما يهدف إليه، غير أن هذه الفرضية غير صالحة للقياس في حالة قصيدة النثر، حيث يتولى المضمون قيادة القارئ إلى الشكل المضمر والإيقاع المضمر، بينما يمثل المضمون روح النص التي تمنحه أبعاده الدلالية والعاطفية، بما يشمله من التراكيب اللغوية والبنية والصور الشعرية، وتماسك النص.

تجربة الجائحة

كتبت معظم قصائد ديوانك "في البيت وما حوله" الصادر عام 2022 في عزلة جائحة كوفيد19 الإجبارية حيث نقرأ "حظر تجوال، نقاهة، شرائح مجهرية، في مهب البيت"...، هل للعزلة خصوصية في تشكيل الإبداع؟ وكيف ترى هذا النص الآن بعد زوال الجائحة؟

العزلة تظهر تأثيرا عميقا في العملية الإبداعية، خصوصا عندما تكون مفروضة وغير اختيارية، مثلما شهد العالم خلال جائحة كوفيد19، حيث تضاعف الوقت الذي نقضيه بمفردنا، وهو زمن قد يبدو غير مريح أو مثمرا تبعا لطبيعة كل إنسان، لكنه يمنح فرصة للتفاعل مع طبائع وأفكار كانت غائبة بسبب انشغالاتنا المتواصلة.

shutterstock
مختصون يرتدون بدلات واقية ويعقمون خلايا فيروس كورونا

يمكن النظر إلى العزلة كفرصة ثمينة لتنقية الذهن والإنصات إلى الذات بعمق. كما يمكن أن تؤدي إلى حالة من التباعد عن الواقع اليومي المألوف، فتفتح أمامنا أبوابا لتجارب جديدة وتأملات أكثر انسجاما مع الحياة.

لقد شكلت تلك اللحظات في العزلة، بالنسبة إلي، مساحة لاستقصاء الروابط غير المرئية بيننا وبين العناصر التي تحيط بنا، أشياء اعتدنا رؤيتها دون التوقف لتأمل تأثيرها الحقيقي وسط صخب الحياة. أما النصوص التي انبثقت من تلك التجربة، وبعد انقضاء الجائحة، فقد يبدو أنها أصبحت أكثر اتصالا بالواقع الذي كان سائدا آنذاك.

القصائد التي أنتجت في تلك الفترة ليست مجرد انعكاس لحالة صحية أو اجتماعية، بل تمثل تعبيرا عن المشاعر الإنسانية التي صاحبت الوحدة والانعزال، فحملت تلك النصوص تشريحات دقيقة لهذه الحالات عبر وسائل تعبير مبتكرة أعتبرها أدوات التوثيق الشعري التي تصبح بمثابة مرآة للعلاقات الجديدة التي صيغت بفعل هذا السياق غير الاعتيادي، فكانت مضامين النصوص متفردة نظرا لأنها كتبت بتأثير من عوامل لم يكن في مقدورنا سوى محاولة تجميلها بالشعر وثيقة.

ترجمت العديد من الدراسات الفكرية والنصوص الإبداعية عن اللغة الإنكليزية، كيف أثرت الترجمة في تشكيل صوتك الشعري؟

أترجم ما أجدني متفقا معه ويجذبني إليه من نصوص ودراسات، فالترجمة بالنسبة إليّ ليست مجرد نقل للكلمات من لغة إلى أخرى، بل هي رحلة إلى عالم جديد مليء بالتفاصيل والأساليب المختلفة، وحين أشرع في ترجمة نص ما، أشعر أنني أتبنى صوتا آخر وأكتشف كيفية تدفق الفكر والمشاعر في لغة أخرى.

الكتابة في جزء منها ابتلاء يشبه غناء المرء في الظلام في سبيل أن يطرد العتمة

هذا التفاعل مع التنوع يمنحني فرصة لفهم أعمق لأساليب الكتابة والصور الشعرية بأساليب مختلفة، وأرى أن الترجمة تفتح أمامي أبوابا جديدة بأبعادها الثقافية واللغوية، مما يضيف تنوعا إلى أسلوبي الشعري ويثري آفاقه.

قدمت لديوانك "أثر من ذيل حصان"، الصادر عام 2021، بقولك: "مهنة قاتلة أن تحمل في يدك نقطة وتنفق حياتك باحثا عن آخر السطر"، هل ترى أن صنعة الكلمة ابتلاء لصاحبها؟

لم أكن أعني صنعة الكلمة في هذا النص القصير جدا، والذي تناقله الناس كما لو أنهم عثروا على لقية نادرة، وإنما كنت أصف العناء الإنساني في ممارسة الحياة اليومية، فتخيلت الحياة سطرا ممتدا والموت هو النقطة التي نضعها في آخر السطر حين ينتهي الكلام. على أني أوافقك الرأي أن الكتابة في جزء منها ابتلاء، وإن كان ابتلاء لذيذا، لكنه يشبه غناء المرء في الظلام في سبيل أن يطرد العتمة حين يكون خائفا.

font change