ماذا يعني أن يكون النفوذ الأميركي أولا في سوريا ولبنان؟

عنوان حصر السلاح بيد الدولة، هو عنوان سياسي أولا وليس عنوانا إجرائيا

أ ف ب
أ ف ب
وصل السفير الأميركي لدى تركيا والمبعوث الخاص لسوريا، توم باراك (وسط الصورة)، إلى بيروت للقاء رئيس الوزراء اللبناني، في 18 أغسطس 2025

ماذا يعني أن يكون النفوذ الأميركي أولا في سوريا ولبنان؟

على الرغم من سخونة الأحداث ودمويتها في غزة التي تواجه جنون اليمين الإسرائيلي، وسوريا التي تنفجر التناقضات داخلها تباعا، ولبنان الذي ينتقل بحذر من حقبة إلى أخرى، فإن قمة ألاسكا بين الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين، طغت على ما عداها من أحداث في العالم، لأن تأثيراتها لن تقتصر على أوكرانيا وروسيا وأوروبا، بل ستشمل العالم بأسره، على اعتبار أن ترمب الذي يغيّر أميركا يغيّر أيضا النظام الدولي الذي كانت الولايات المتحدة راعيته الرئيسة بعد الحرب العالمية الثانية ثم بعد الحرب الباردة.

في ما يخص المنطقة التي تتصرف إسرائيل على أن لها اليد العليا فيها بعد "الإنجازات" العسكرية التي حققتها خلال العامين الماضيين، خصوصا في لبنان وإيران، فإن قمة بوتين-ترمب تطرح أسئلة حول ما إذا كان شمول الصفقة بين الرجلين ضم أراضٍ أوكرانية إلى روسيا سيوفر حافزا إضافيا لإسرائيل لضم أراض داخل الأراضي الفلسطينية أو في سوريا ولبنان.

وقد يكون لبنان الأقل عرضة لمثل هذا السيناريو بالمقارنة مع سوريا وفلسطين حيث يبدو أن إسرائيل ماضية بقوة في مخططاتها الاستيطانية في الضفة الغربية، كما يأخذ طرح احتلال مدينة غزة حيزا أوسع من النقاش في تل أبيب. أما في سوريا فإن الخطط الإسرائيلية لا تقل تعقيدا وخطورة، خصوصا بعد أحداث السويداء، إذ أصبح من الصعب التصور أن إسرائيل يمكن أن تنسحب بسرعة من الأراضي التي احتلتها بعد سقوط نظام بشار الأسد، هذا فضلا عن أن استرجاع الجزء المحتل من الجولان إلى سوريا أصبح أكثر صعوبة، ليس للأسباب الإسرائيلية والدولية وحسب، بل أيضا للأسباب السورية، في ظلّ الأوضاع في الجنوب السوري، والتي لا يبدو أن حلها سهل وسريع أيضا.

قابلية استمرار "حزب الله" سياسيا وعلى نحو إيجابي قائمة أساسا على قدرته على إعادة مقاربة مسألة سلاحه. وهذا بمعزل عن الضغوط الأميركية والإسرائيلية وعنوان حصر السلاح بيد الدولة

وضع كهذا كان يفترض أن يشكل جرس إنذار للمنطقة ككل وأن يجعل السياسة تتمحور حول تأثيرات المتغيرات الدولية على مستقبل المنطقة ووضع إسرائيل فيها، ولكن دول المنطقة أصبحت بعيدة جدا عن تفكير من هذا النوع، سواء على مستوى الدول أو المجتمعات. حتى فكرة "إسرائيل الكبرى" التي أعاد بنيامين نتنياهو طرحها في سياق الإجابة على سؤال صحافي، وأخذت حيزا واسعا من التداول في العالم العربي، لم يتم طرحها بدقة وموضوعية سياسية وتاريخية، بل تمت المبالغة في توصيفها، وهو ما يدل على فقدان المنطقة أكثر فأكثر للحس السياسي الذي يضبط النقاش العام ويمنعه من الانحراف إلى الأوهام والتصورات الخاطئة. هذا فضلا عن أن بعض النخب والدول يؤسس دعاية سياسية على عناوين وهمية مثل "إسرائيل الكبرى".

مركبات تابعة لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة (يونيفيل) تسير على طول شارع في مرجعيون، جنوب لبنان، 20 يناير 2025

لكن تجاوزا لهذا النقاش فإن النقطة الرئيسة أنه لا يمكن أن تقوم شرعية سياسية لأي دولة في المشرق العربي، من دون أن تكون قادرة على بلورة موقف إزاء المتغيرات في العالم، وآخرها ما رشح عن لقاء بوتين-ترمب، والذي يمكن أن تكون له انعكاسات مباشرة في المشرق. ولا يعرف ما إذا كان أي من المسؤولين اللبنانيين الذين التقاهم المبعوث الأميركي توماس باراك قد طرح هذه المسألة أمامه، أي احتمال أن تسعى إسرائيل لضم أراض سورية ولبنانية على غرار احتمال ضم بوتين لأراض أوكرانية. وحتى لو كان هذا الاحتمال ضئيلا لبنانيا فإن معيار الخبرة السياسية للمسؤولين اللبنانيين يفرض عليهم التطرق لهذا الاحتمال فيما يخص سوريا بالنظر إلى التداخل بين الدولتين. وهو تداخل يحتاج إلى نسخة جديدة لم تظهر ملامحها بعد، خصوصا أن أولويات المسؤولين من كلا الجانبين لا تؤشر إلى إمكان حصول خرق إيجابي وعميق في هذا الملف.

لكن أيا يكن من أمر فإنّ ذلك لا يعني أن منطق الممانعة الذي ساد في المنطقة لعقود طويلة هو منطق يمكن الأخذ به الآن أمام التحديات الإسرائيلية الجديدة، بل على العكس تماما فإن الرهان السياسي هو الآن على القدرة على تجاوز هذا المنطق الذي كان منطق هيمنة من أوله إلى آخره تحت ذريعة مقاومة إسرائيل. وفيما يخص "حزب الله" تحديدا، فقابليته للاستمرار سياسيا وعلى نحو إيجابي قائمة أساسا على قدرته على إعادة مقاربة مسألة سلاحه. وهذا بمعزل عن الضغوط الأميركية والإسرائيلية وعنوان حصر السلاح بيد الدولة. وذلك على اعتبار أن تمسك "حزب الله" بسلاحه وبالطريقة التي يحصل بها ذلك، تدل على أن "الحزب" برمته يعادل سلاحه، أي إنه لا وجود سياسيا واجتماعيا له خارج هذا السلاح. وهذه نقطة ضعف وليست نقطة قوة كما يحاول "حزب الله" تصويرها.

ناهيك بأن حجة "حزب الله" للتمسك بسلاحه لمواجهة التحديات الإسرائيلية باتت حجة ضعيفة جدا بل وساقطة بعدما انهارت وظيفة السلاح الردعية، وهذه أصبحت بداهة، وبالتالي فإن معاندتها من قبل "الحزب" تنم عن اختلال كبير في طريقة تفكيره قد يؤدي إلى المزيد من ضعفه وعدم قدرته على مواكبة المرحلة الجديدة والمتغيرات الحاصلة.  

والحال فإن المدخل إلى تقوية موقف الدولة اللبنانية إزاء التحديات الإسرائيلية الجديدة تمر عبر إخراج مسألة السلاح من المعادلة، والبحث عن أدوات دبلوماسية وسياسية مختلفة لمواجهة هذه التحديات. والخروج من منطق الممانعة يقتضي أساسا إعادة الاعتبار للسياسة والدبلوماسية، ولو كان الأمر يحتاج إلى تفكير في عصر ترمب، ولكن الأحداث أثبتت فشل البدائل المطروحة، وبالأخص السلاح.  

كما أن الخروج من منطق الممانعة ليس حكرا على الممانعين بل على خصومهم أيضا، والذين يفترض بهم أن يخلقوا لغة جديدة ومنطقا جديدا في التعامل السياسي مع المسائل المطروحة ومن ضمنها مسألة إسرائيل. وهو ما يبدو متعثرا وبطيئا حتى الآن، وذلك لأن تجاوز منطق "حزب الله" دونه اعتبارات سياسية داخلية ما دام "الحزب" نفسه يتحرك ضمن قواعد جامدة، ويحكم على نفسه بالموت السياسي، جارّا وراءه بلدا بأكمله يحتاج إلى انبعاث سياسي واجتماعي جديد بعد سلسلة الانهيارات التي تعرض لها.

والجدير بالتوقف عنده هنا أن عنوان حصر السلاح بيد الدولة، هو عنوان سياسي أولا وليس عنوانا إجرائيا، بعدما أصبح سلاح "الحزب" لا يشكل خطرا على إسرائيل، وإذا كان "الحزب" يحتفظ ببعض ترسانته "النوعية" فهو غير قادر على استخدامها في الظروف الحالية لأسباب متصلة أساسا بالهواجس الإيرانية من التصعيد، ثم إن انكشافه الاستخباري يعرضها للقصف الإسرائيلي تباعا، وربما بذخائر أميركية نوعية إذا كانت مخزنة في تحصينات قوية. هذا فضلا عن أن إمكانات "الحزب" لإعادة بناء قوته العسكرية تكاد تكون معدومة بعد الحرب الأخيرة ضده وضد إيران وبعد إقفال المعبر السوري إليه.

وبالتالي فإن عنوان حصر السلاح هدفه الأساسي أن يشكل سقفا سياسيا للتحول الكبير على مستوى توجهات الدولة اللبنانية بعدما كان "حزب الله" ومن ورائه إيران يتحكمان بها. وهي توجهات يراد لها أن تواكب أيضا التغير الحاصل في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، وهو تغير يعني أوّلا أن أميركا أصبحت صاحبة النفوذ الأقوى في سوريا لأول مرة، وهذا ينسحب على لبنان أيضا. صحيح أن نظام حافظ الأسد استطاع أن يبني توافقات مع الولايات المتحدة طيلة 30 سنة من حكمه، وهو ما أخفق فيه ابنه بشار إلى حد بعيد، لكن سوريا لم تكن ولا مرّة "أميركية" كما هي اليوم، وهو ما ينطبق على لبنان أيضا.

مبدأ خطوة مقابل خطوة، الذي تحدث عنه باراك في بيروت، يخضع لموازين القوى التي هي لصالح إسرائيل وبما لا يقاس

وغني عن القول إننا أمام انقلاب تام للمعادلة الاستراتيجية في كلا البلدين، بعد انهيار النفوذ الإيراني في كل من بيروت ودمشق، وخصوصا في سوريا، بينما لا يستطيع "حزب الله" أن يقلب هذه المعادلة الجديدة في بيروت ما دامت قائمة في دمشق. لكن هذا لا يعني أن النفوذ الأميركي في لبنان لا يحتمل حصة لإيران عبر "حزب الله"، وهذا ما عبّر عنه توماس باراك خلال زيارته بيروت الاثنين الماضي عندما تحدث عن محادثات مع "الحزب" لتطبيق أهداف الورقة الأميركية القائمة أساسا على حصر السلاح بيد الدولة، ومع "الجارة" إيران أيضا.

وهو ما ينقل المقاربة الأميركية لموضوع سلاح "الحزب" إلى مستوى جديد، بعدما حقق إقرار الحكومة أهداف الورقة الأميركية نزع الشرعية السياسية عن سلاح "حزب الله"، أي إنه كرس اتجاه الدولة بعيدا عن النفوذ المباشر لـ"الحزب". أما كيفية تطبيق عنوان حصر السلاح ومداه فيمكن أن يخضعا لمفاوضات داخلية لبنانية ولبنانية-أميركية عبر رئيس البرلمان نبيه بري وإيرانية-أميركية... وإلا فإنّه يصعب تصور تبدل في السلوك الإسرائيلي إزاء "الحزب" ولبنان، وهنا يمكن التوقف عند التشدد الإسرائيلي إزاء التجديد لقوات "اليونيفيل" في جنوب لبنان للاستدلال على مدى إصرار إسرائيل على تغيير الأوضاع على حدودها الشمالية، وهذا ينسحب حكما على وجود "حزب الله" جنوب الليطاني أو قدرته على إعادة بناء نفسه هناك.

ا ف ب
نائب المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط، مورغان أورتاغوس، تحضر المؤتمر الصحافي عقب اجتماع الرئيس اللبناني جوزيف عون والمبعوث الخاص لسوريا، توم باراك، في القصر الرئاسي ببعبدا، في 18 أغسطس 2025

بالتالي فإن مبدأ خطوة مقابل خطوة، الذي تحدث عنه باراك في بيروت، على اعتبار أن لبنان خطا الخطوة الأولى بإقرار أهداف الورقة الأميركية وأصبح لزاما على إسرائيل أن تخطو خطوة في المقابل، هذا المبدأ يخضع لموازين القوى التي هي لصالح إسرائيل وبما لا يقاس. أي إنه سيجعل إسرائيل تخضع الخطوات اللبنانية لمعاييرها، وهذا مأزق لبناني مفتوح، إلا إذا اقتنع "حزب الله" بأن مسألة سلاحه هي أولا مسألة داخلية، ليس على قاعدة أن حلها يكون بالحوار الداخلي الذي لم ولن يحقق أي نتيجة، بل على قاعدة أن سلاحه أصبح حائلا أمام استمراره كجسم سياسي واجتماعي وحائلا أيضا أمام انتقال لبنان إلى أفق جديد، غير أفق الحرب الأهلية والانهيار الاقتصادي الاجتماعي. لكن شعار "سلاحنا كرامتنا" لا يبشر إلا بأفق كهذا، لأنه شعار تحت فكرة الدولة التي يفترض أن يحفظ دستورها وقوانينها كرامة شعبها. والأدهى أن هكذا شعار يؤشر إلى أن "الحزب" ليس لديه أي مشروع للدولة اللبنانية وللنظام اللبناني، وليس لديه أدنى استعداد أو قابلية للانخراط في فكرة الدولة انطلاقا من رؤية اقتصادية واجتماعية واضحة، فهو أسير منظوره الخاص لنفسه وللبنان، بينما حجمه الاجتماعي وليس سلاحه كان يمكن أن يشكل رافعة للقضية الاقتصادية الاجتماعية في البلد... لكنها في النهاية عوارض الانتقال الصعب بين مرحلتين وبين لبنانين، لكن أي لبنان، فهل الازدهار الذي يبشر به براك سيعيد تعويم المنظومة السياسية والاقتصادية نفسها التي أوصلت البلد إلى الانهيار، أم أنه سيخلق قنوات سياسية واقتصادية جديدة تعيد تشكيل المشهد السياسي والاقتصادي وفق قواعد جديدة؟ إنه السؤال الذي يفترض التفكير فيه لبنانيا وبصوت عال، وهو السؤال الذي لا يمكن لـ"حزب الله" أن يتجاهله أمام تزايد الأعباء الاجتماعية عليه، ومن ضمنها ربما إيجاد عمل بديل لآلاف المقاتلين، فإذا كانت الدولة قد استوعبت بعد الحرب الأهلية عشرات الآلاف من مقاتلي الميليشيات "الموالية"، فهذا سيناريو غير مطروح حاليا أمام مقاتلي "الحزب" في ظل "إفلاس" الدولة، وهو ما قد يرفع معدلات البطالة في لبنان إلى أرقام قياسية!

font change