ما الذي يحدث لو مشينا وراء جياكومتي؟

معرض هوما بهابها في لندن

© Max Creasy/ Barbican Art Gallery
© Max Creasy/ Barbican Art Gallery
لقاءات، هوما بهابها × ألبرتو جياكوميتي

ما الذي يحدث لو مشينا وراء جياكومتي؟

تكمن أهمية النحات السويسري ألبرتو جياكومتي (1901 ــ 1966) في تحويله الجسد البشري إلى مفهوم تعبيري. فهو من خلال كائناته البرونزية الطويلة والنحيلة والشاردة عما يحدث حولها، استطاع أن ينتقل بالنحت إلى حيز الأسئلة الوجودية التي تشكل الجوهر الغاطس من شخصية الإنسان المعاصر في خضم التغيرات العنيفة التي عصفت بالقرن العشرين. صادم هو أسلوب النحات الذي كان صديقا للفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر ورفيقته سيمون دوبوفوار. معه لم يعد التغني بثراء وترف الجسد البشري ممكنا. كانت هناك صورة للإنسان الذي يقاوم قدرته بعدته الذاتية التي هي جزء من حمولة شقائه.

ومثلما ظهر ذلك الكائن المستلهم لحياته الداخلية، فإنه كان أشبه بالوعد الذي انتهى إليه البشر وهم ينظرون إلى أنفسهم في مرآة حروبهم. "لقد رأيته جالسا على الرصيف وهو يبكي"، ذلك ما كتبته دوبوفوار عن جياكومتي بعد أن غادر مقهى "فلور" في سان جيرمان بباريس. في القرن العشرين هناك نحاتان خلقا أسلوبين مختلفين في معالجة الجسد البشري أعلنا من خلالهما التمرد على المعالجة الكلاسيكية، هما هنري مور وألبرتو جياكومتي. اهتم مور بالإيقاع المترف لنسائه اللواتي صنعن تاريخا مجاورا لحياتهن. أما جياكومتي فلم يهرب من التاريخ بل كان الأكثر تمرسا في استلهام عذاباته. وعلى الرغم من أن مور كان حريصا على رسم ونحت ما رآه وعاشه في الحرب العالمية الثانية، فإن الجسد البشري ظل لديه حريصا على إظهار قوته الخارجية وجماله المقاوم. أما جياكومتي فذهب بتشاؤمه إلى الأقاصي. كانت عزلة الإنسان هي مصيره. جرد جياكومتي الكائن البشري من تأثير العالم الخارجي ليضعه في مواجهة مشكلاته الوجودية. ذلك سبب مقنع لكي تقيم الأميركية من أصل باكستاني هوما بهابها علاقة تحدّ بمنحوتات جياكومتي.

باكستانية بهوية أميركية

"لقاءات. هوما بهابها × ألبرتو جياكوميتي، لا شيء خلفنا"، ذلك هو عنوان المعرض الأول في سلسلة تتكون من ثلاثة معارض متناوبة يقيمها مركز "باربيكان" بلندن، كل واحد منها لفنان معاصر مختلف يعرض عمله في حوار مع أعمال جياكوميتي. لكن قبل الحديث، يهمني التعريف بالفنانة بهابها التي ولدت عام 1961 في كراتشي وانتقلت عام 1980 إلى الولايات المتحدة للدراسة والعيش والعمل. ذلك ما يعني أن مسيرتها الحافلة بالإنجازات لا تشير إلى موهبتها الفذة فحسب بل وأيضا إلى هويتها الأميركية.

جرد جياكومتي الكائن البشري من تأثير العالم الخارجي ليضعه في مواجهة مشكلاته الوجودية

على سبيل المثل، فإنها لو لم تكن أميركية لما كلفها صندوق الفن العام إقامة عمل تركيبي ضخم حمل عنوان "قبل النهاية" في حديقة جسر بروكلين بنيويورك وافتتح في أبريل/ نيسان 2024. وقدم متحف "إم لوفين" ببلجيكا معرضها الفردي "عيش الأشياء". ذلك المعرض انتقل إلى مونبيلييه يفرنسا عام 2023. في المكسيك أقيم معرض فردي لأعمال  بهابها عام 2022. وفي عام 2020، قدم مركز البلطيق للفن المعاصر في إنكلترا معرضها " ضد الزمن". في بوسطن نظم معهد الفن المعاصر معرضا لها بعنوان "إنهم يعيشون" عام 2019، ونشر كتالوغا مصاحبا.

AFP
افتتاح معرض هوما بهابها "They Live" بمعهد الفن المعاصر، بوسطن

ذلك جرد تبسيطي لما قدمته الفنانة في السنوات الأخيرة، وهو في حقيقته يكشف عن اهتمام المؤسسات الفنية الكبرى بنتاجها الفني. لو استعرضنا معارضها الشخصية، لرأينا أن كبرى الصالات والمتاحف الفنية وفي مقدمتها متحف الفن الحديث بنيويورك (موما) قدمتها باعتبارها ممثلة لعصر ما بعد النحت الحديث. وهو عصر الكبار. مور وجياكومتي وبرانكوزي. فهل كان الترويج لأعمال هوما بهابها في حجم ما قدمته الفنانة؟

بهابها ليست استثناء، فإلى جانبها هناك داميان هيرست وتريسي أمين وأنش كابور وكيكي سميث وأي ويوي وجيف كونز وعشرات آخرون.    

كل سؤال يواجهنا في ذلك المجال لا يمكن العثور على جواب تقدمه المؤسسات الفنية. ما الذي نفعله إذا كانت تلك المؤسسات تتولى مهمة خداعنا؟ أقل قسوة أو أكثر، فإن ذلك السؤال لا يعني أنه يجب علينا ان نرتاب في كل ما توليه المؤسسات الفنية اهتماما مبالغا فيه. 

GettyImages
النحات السويسري يعرض ثلاثة تماثيل نصفية في بينالي فينيسيا 1962

غربة جياكومتي تتجدد

ترى ما الذي يهدف إليه منسقو المعارض في مركز "باربيكان" الفني حين يجمعون بين أعمال جياكوميتي وأعمال فنانين معاصرين يسعون بشتى الطرق إلى الإفلات من تأثير النحات السويسري الذي سبق أن قلده آلاف النحاتين عبر العالم؟ يسعد المرء برؤية منحوتات جياكومتي، الصغيرة منها في الأخص، والتي لم أرها شخصيا من قبل، ولكنه يظل حائرا في العثور على إجابة مقنعة للسؤال. على مستوى شخصي كنت أفكر بمنحوتات السورية المقيمة في باريس ليلى مريود وأنا أنظر إلى منحوتات الباكستانية الأميركية هوما بهابها. أعمال مريود أكثر قوة وأشد تأثيرا. ولكن اللعبة لا تقع في ذلك الحيز الضيق. وإذا كانت مؤسسة مثل باربيكان تسعى إلى جذب جمهور أكثر إلى مبناها من خلال اسم جياكوميتي، فإنها في الوقت نفسه تنسق مع المتاحف العالمية للاستمرار في تلميع اسم هوما بهابها. يبدو الأمر أشبه بالارتجال، ذلك لأن ما عرض من أعمال بهابها منفصل تماما عن عالم جياكومتي.

كل الصخب الذي أحدثته الفنانة وهي تسعى إلى أن تحقق اختراقا في خلق نوع من العلاقة، لم ينفع في احتواء الصمت الذي يلف منحوتات جياكومتي

ولكن الأمر ليس كذلك، لأن القصد يتجاوز الذائقة الفنية. هنالك مسعى لإستعمال الأعمال التاريخية من أجل تمرير فن بات تحت السيطرة. وهو فن، أعماله صارت جزءا من مقتنيات كبار الأثرياء في العالم. لا بد لتلك المعادلة أن تترك أثرا سيئا على ما تقدمه المتاحف من عروض، وهي المحتاجة إلى المال، ولكن منسقي تلك المتاحف لن يخذلوها. هناك أفكار جاهزة للإنقاذ. من وجهة نظري، فإن الزج بجياكومتي كان محاولة فاشلة. لقد كانت أعماله غريبة. لم يدرك منسقو المعرض أن الفنان الذي عاش غريبا في عصره لم ينتج إلا أعمالا تعبر عن غربته.

© Max Creasy/ Barbican Art Gallery
لقاءات، هوما بهابها × ألبرتو جياكوميتي

إحياء التواصل بين أزمنة الفن

أي تحفظات عن المعرض، لا تعني الحكم على أعمال هوما بهابها بالرداءة. ما يحسب للفنانة أنها حافظت على أسلوبها ولم تتخل عن عالمها وهي تجد نفسها في مواجهة أعمال نحات لا أبالغ حين أقول إنه كان الأكثر صدقا في التعبير عن الأزمة الوجودية التي عاشها الإنسان في النصف الأول من القرن العشرين، وهو يتلفت هلعا بين حربين مدمرتين.

كان هناك ذكاء في طريقة العرض. أربعة من أعمال بهابها، كبيرة الحجم، عرضت خارج قاعة المعرض المشترك، وهو ما أنقذها من المقارنة. تلك أعمال تمثل عالم الفنانة بكل رؤاه الأسطورية من جهة مفرداته التي هي عبارة عن إشارات سحرية استعيرت من ذاكرة الفنانة البصرية. ذلك معرض منفصل تعرفت من خلاله الى المرجعيات الشعبية التي وهبتها الفنانة طابعا معاصرا. في تلك المنحوتات الأربع أظهرت بهابها ميلا واضحا إلى الحكاية. في كل منحوتة تشتبك العناصر البصرية لتروي بطريقة هذيانية مجنونة. ذلك هو العالم الذي أثثته الفنانة بذكرياتها. 

AFP
النحاتة الباكستانية-الأميركية هوما بهابها في متحف MoMA

أما في داخل قاعة المعرض المشترك، فسعت بهابها إلى مواجهة منحوتات جياكومتي المتقشفة بتقشف عبرت عنه من خلال تفكيك وتمزيق وتهديم أجساد كائناتها. يشعر المرء وهو يتنقل بين أعمال بهابها وجياكومتي، بأن كل الصخب الذي أحدثته الفنانة وهي تسعى إلى أن تحقق اختراقا في خلق نوع من العلاقة، لم ينفع في احتواء الصمت الذي يلف منحوتات جياكومتي.      

من المؤكد أن الهدف من المعرض وهو جزء من سلسلة معارض كما قلت، ليس مواجهة جياكومتي بتجارب نحتية معاصرة، بقدر ما هو محاولة لخلق حياة مشتركة، عنوانها التواصل. تلك فكرة قد لا تصل إلى التجسيد الفعلي بسبب المكانة الاستثنائية التي يحتلها فن جياكومتي في تاريخ الحداثة الفنية، غير أنها تكتسب أهميتها من الرغبة في إحياء الصراع الحيوي بين أزمنة الفن.   

font change