"مقهى الروضة" البيروتي يروي حكاية مدينة بين البحر والسياسة والثقافة

رافق العاصمة وتحولاتها منذ ثلاثينات القرن الماضي

مقهى الروضة

"مقهى الروضة" البيروتي يروي حكاية مدينة بين البحر والسياسة والثقافة

منذ 90 عاما، يحتل مقهى "الروضة" الواقع غرب العاصمة بيروت، مكانة خاصة في المشهد الاجتماعي والثقافي وحتى السياسي للمدينة، ليكون بديلا من سلسلة المقاهي الشعبية القديمة المندثرة نتيجة التمدد العمراني الحديث في محيط كورنيش المنارة البحري الممتد من منطقة "الزيتونة باي" وعين المريسة حتى المنارة والروشة وصولا الى الرملة البيضاء.

المقهى اليوم، كما في الأمس القريب والبعيد، لا يزال امتدادا للبيت بألفته وحميميته، يمكن الوصول إليه من منعطف جانبي بعيد من ضجيج الطريق العام لكورنيش المنارة. ديكور المقهى بسيط مؤلف من طاولات وكراس خشب موزعة على الطرف الغربي من المكان المحاط بحديقة وسط نافورة قديمة الطابع.

تقصد المقهى عائلات لتناول الطعام وتمضية الوقت، فيما يميل بعض المثقفين والفنانين والإعلاميين الى التردد يوميا عليه لكتابة نص أو مقال أو لمجرد تبادل الأفكار والأخبار بعضهم مع بعض، فضلا عن لعب طاولة الزهر أو تدخين النارجيلة مع الأصدقاء.

صمود المكان

يؤكد الدكتور عصام شبارو، وهو معد سلسلة مؤلفات تاريخية عن بيروت وبعض مناطقها، ومنها عين المريسة، لـ"المجلة"، إن "مقهى الروضة لا يزال الوحيد الصامد مع مقهى ملاصق له هو ’عروس البحر’، وذلك بعد هدم سلسلة مقاه قديمة على طول الطريق المؤدية إليه، ومنها ’مقهى الغلاييني’ الذي تحول إلى منتجع سياحي، و’مقهى دبيبو’ المطل على صخرة الروشة وهو مهمل اليوم، ومقهى ’الحاج داوود’ الذي أزيل لتوسيع خليج "الزيتونة باي" كونها منطقة سياحية بامتياز، ومقهيا "البحري" و"البحرين" اللذان دمرا كليا ليبقيا فقط في ذاكرة بيروت القديمة".

ويشير شبارو إلى أن مقهى الروضة، الذي تمتلكه عائلة شاتيلا البيروتية، "بدأ يتطور من أواخر العهد العثماني وصولا الى الانتداب الفرنسي ليبقى شاهدا على كل أحداث لبنان منذ الاستقلال حتى اليوم، مع التنويه بوعي مالكي العقار، الذين يحرصون على الحفاظ على المقهى نفسه، وقد بات جزءا لا يتجزأ من ذاكرة كثير من اللبنانيين".

ويقول السيد عدنان قباني، أحد مرتادي المقهى القدماء، إن "هذا المكان جزء من ذاكرتي، لأنه عايش بيروت منذ ثلاثينات القرن الماضي"، شارحا أنه يقصد المقهى وهو اليوم في خريف عمره ليتشارك مع أصدقائه ذكريات قديمة عن البحر والمقهى وبعض ذكريات الزمن الجميل.

زاهي وهبه، رفيق علي أحمد وعبيدو باشا

أما محمد شاتيلا، وهو من الجيل الذي ورث مع أنسبائه إدارة المقهى، فيؤكد أن أول صورة موثقة للمقهى تعود إلى العام 1935، "مشيرا إلى أن المكان يعكس الحنين الى مقهى بقي صامدا رغم اندثار المقاهي القديمة في غالبيتها الساحقة في محيطه، وهو يستقبل جميع فئات المجتمع في جو عائلي، مع تسجيل ميل بعض الكتاب والإعلاميين والمسرحيين والمثقفين إلى زيارة المقهى من أجل الاسترخاء أو العمل".

وقد شهد المقهى، بحسب شاتيلا "عصرا ذهبيا ترجم في بعض المحطات بزيارة نجوم كبار مثل عبد حليم الحافظ وفريد شوقي ووردة الجزائرية ونور الشريف وسواهم المكان عند زيارتهم بيروت، إضافة الى معظم الفنانين والمثقفين اللبنانيين والسوريين".

يجيب، ردا على سؤال حول إمكان بيع المقهى، أن "بعض كبار المستثمرين حاولوا شراءه في السابق، للاستفادة من موقعه، نتمنى ألا نضطر إلى بيع هذا العقار، ولكننا لا نعرف كيف يمكن أن تحكمنا الظروف في المستقبل".

غريزة البقاء

هذا التاريخ الغني الذي يتمتع به المكان، دفع بالكاتب زياد كاج إلى تأليف كتابه الجديد "مقهى الروضة" الصادر أخيرا عن "دار نيلسون"، في بيروت، مازجا بين المستويين السردي التخييلي والتوثيقي، في محاولة لوضع تسلسل تاريخي للمقهى وصولا إلى وقتنا هذا: "لم تتغير هوية المكان ونكتهه على امتداد تاريخه، بل حافظ على أصالته وولاء أناسه له، وامتزجت فيه الثقافة الغربية والشرقية من خلال حركة الناس بدءا من طلاب الجامعات، وصولا الى فئات المجتمع من توجهات مختلفة وأمكنة عدة، التي تقصد هذا المكان البسيط، لتكون لغة التخاطب أولوية بينهم هناك"، يقول كاج لـ"المجلة". 

بدأ المقهى يتطور من أواخر العهد العثماني وصولا إلى الانتداب الفرنسي، ليبقى شاهدا على كل أحداث لبنان

وجدت في الكتابة متعة اكتشاف الذات والأنا الجماعية المأزومة، لجأت الى الهروب من هذا الواقع من خلال التوثيق الثقافي للأمكنة وما شهدته من أحداث

وعن سر اهتمامه بالكتابة عن الأمكنة القديمة، سواء في هذا الكتاب أو في أعمال سابقة مثل "ليالي دير القمر- حرب الجبل"(2014)، و"رأس بيروت صندوق في بحر، نار على تلة"(2015)، يقول كاج: "هذه عملية مبنية على اكتشاف الذات وإعادة فهمها، مع ما يرافق ذلك من نضج هو حصيلة تراكمات الحياة، فالتعمق في سرد خصوصية الأصوات والأمكنة، يأتي متوازيا مع سردية الطفولة والمراهقة والشباب، وصولا إلى مرحلة النضج بعد الخمسين".

غلاف الكتاب

يضيف: "وجدت في الكتابة متعة اكتشاف الذات والأنا الجماعية المأزومة والمجردة من الهوية الوطنية الجامعة. بمعنى آخر، لجأت الى الهروب من هذا الواقع من خلال التوثيق الثقافي للأمكنة وما شهدته من أحداث".

يكتب كاج أن مقهى الروضة "ألف بين الريف والمدينة، بين خضرة الأرض ومياه البحر، بين رائحة التراب ونسيم البحر، بين رأس بيروت المحافظة لقديمها وأسواق بيروت اللاهثة وراء كل جديد"، لافتا إلى أن المقهى منذ ثلاثينات القرن الماضي نجا وفاز في لعبة البقاء، واستمر بفضل تفاني وإخلاص أجيال العائلة التي توارثت الاعتناء به، والحفاظ عليه ببساطته وعفويته وجيرته للبحر، فبين آل شاتيلا والبحر علاقة حميمة خاصة، ويرتزقون منه شمسا ونسيما وغروبا قل نظيره، وسمكا وخيرات من الصيادين، الذين كان يسمح لهم ( في الماضي) بعبور أرض المقهى للصيد عند الصخور المقابلة والمواجهة للمسبح العسكري".

يشدد كاج على أن المقهى "لا يوفر  خدمة الإنترنت المجانية المنتظرة، فيجد رواده في ذلك فرصة للانقطاع عن الأخبار و'السوشال ميديا' وكل أشكال التوتر، قد تلمح روادا جالسين أمام كومبيوتر محمول يدخنون النارجيلة، وهذا أحد أشكال المزاوجة بين الكيف والعمل الفكري المنتج".

في هذا المكان المتواري خلف مدينة الملاهي ودولابها الضخم، "تكتسب الثرثرة والدردشة بين الرواد لذة خاصة"، يقول كاج، لافتا إلى أن الجو العام "تسوده سمفونية مدروسة من خليط الأصوات والروائح: أحاديث الجالسين عن الطاولات من كل الأعمار، ضحكات وثرثرات من هنا وهناك، ضجيج أولاد يركضون وراء كرة، صوت طاولات الزهر واعتراضات البعض وحماستهم، خرير مياه النارجيلة منتشرة في كل مكان". 

من المحطات البارزة في تاريخ المقهى زيارة رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري رفقة زوجته له في إحدى أمسيات الانتخابات النيابية عام 1996

يرى كاج أن أهمية المقهى تنبع من كونه وعاء امتص حال السلم والحرب في لبنان، متوقفا خصوصا عند النشاط الثقافي الذي عرفه في مختلف المراحل، فالمخرج اللبناني برهان علويه (1941-2021) صور فيه فيلمه الروائي الأخير "خلص" (2008)، الذي اعتبر رسالة وداع، وقبله صور المخرج مارون بغدادي (1950-1993) فيلمه "همسات" (1980)، وهو ثائقي عن الشاعرة ناديا تويني، التي عاشت صراعا شرسا مع مرض السرطان لثمانية عشر عاما، وصورت المخرجة جوسلين صعب فيلمها "رسالة من بيروت"(1978)، إضافة الى أن "نادي لكل الناس"، بإشراف نجا الأشقر، صور وأنتج الفيلم الوثائقي "مسرح عند ملتقى الرياح" وهو بورتريه لمسيرة المخرج اللبناني كريستيان غازي.

زياد كاج

رفيق الحريري

نادرة هي المناسبات التي أغلق فيها المقهى أبوابه، يؤكد كاج "فحتى خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان في 1982، كان ملجأ للناس. ومن المحطات البارزة في تاريخ المقهى زيارة رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري رفقة زوجته له في إحدى أمسيات الانتخابات النيابية عام 1996، حيث ساد جو من الفرح الشديد والكبرياء بين أبناء بيروت وآل شاتيلا مالكي المقهى وسط استقبال حافل بالضيف الكبير".

يضيف: "أصيب المقهى ماديا ومعنويا بعد اغتيال النائب وليد عيدو ونجله الأكبر خالد ومرافقيه و6 مدنيين في 13 يونيو/ حزيران 2007 بانفجار سيارة مفخخة كانت موضوعة على جانب الطريق العام قرب المقهى. وقد خلدت ذكرى الشهداء في لوحة رخامية على حائط ملعب نادي النجمة، الذي كان يشهد مباراة في وقت وقوع الانفجار، وقتل اثنين من لاعبي الفريق".

رفيق علي أحمد

خص كاج حيزا من كتابه للحديث عن مرتادي المقهى اليوميين من مثقفين وفنانين، ومنهم الممثل المسرحي رفيق علي أحمد، الذي "يأتي مرتين يوميا، في الصباح وفي المساء، الجلسة الأولى للعمل وعقد اللقاءات، والثانية للجلوس مع الأصدقاء ولعب طاولة الزهر".

نذهب مع معارفنا من أهل بيروت إلى الروضة لنتبادل النظرات مع الحضور، علنا نتعرف الى بعض الوجوه لأننا بتنا نعيش نحن البيارتة في غربة كبرت مع الأيام

يقول كاج إن "دوامه ثابت لا يتغير، وحاله كحال المنارة البحرية، ودولاب مدينة الملاهي القريبة، مكتبه الخاص والحميم هو المقهى حيث يعقد اجتماعاته، ويكتب نصوصه، ويلتقي الأصدقاء وأهل الفكر والفن، ويستلم رسائله يوم لم يكن من هاتف خليوي ولا إنترنت"، موضحا أن "له مكانة خاصة لدى آل شاتيلا، وبينهم عشرة طويلة، معظم كتاباته ونصوص مسرحياته استوحاها وكتبها هنا إلى طاولات المقهى، بين الأشجار، وأمام البحر، في أفق حر مفتوح، حيث تتحرر مخيلته القروية من القيود، يكتب ويمزق ويحفظ ويردد".

رفيق علي أحمد

يعتبر رئيس جمعية " تراث بيروت" زياد دندن أن المقهى غير مصنف في خانة مبنى تراثي، "إنه مقهى عائلي بامتياز، يرتاده أهل المدينة خلال الأيام العادية، وزوار المدينة في عطلة الأسبوع بسبب بساطة المكان ونظافته وحديقته التي تفوح منها رائحة القرنفل والياسمين والغاردينيا، مع حرص مجموعة من المبدعين على زيارته لكتابة مقال، أو لاستكمال قصيدة، أو للقاء الزملاء والأصدقاء، كما يشكل فرصة لتنظيم اجتماعات الجمعيات العائلية"

يعز أخيرا عليه أن "نذهب مع معارفنا من أهل بيروت إلى الروضة لنتبادل النظرات مع الحضور، علنا نتعرف الى بعض الوجوه لأننا بتنا نعيش نحن البيارتة في غربة كبرت مع الأيام".    

font change

مقالات ذات صلة