في كل حديث للرئيس السوري أحمد الشرع في الأشهر الأخيرة، تتكرر كلمة واحدة: "التنمية". يريد أن يضعها عنوانا وأولوية لحكومته، وبوابة لإعادة وصل سوريا بمحيطها لتصبح حلقة وصل بدلا من ساحة صراع، مقتنعا بأن العصر اليوم هو عصر التنمية، ويريد لبلاده الخارجة من الركام وما سببته سنوات الحرب من جروح عميقة، أن تكون جزءا من هذا العصر، ومن حركة التاريخ.
في الجلسة الخاصة التي جمعتني وشخصيات إعلامية عربية بالرئيس الشرع قبل أيام، غابت الأيديولوجيا والشعارات، وطغت على الحديث الذي استغرق ساعتين، قضايا واقعية واقتصادية. وحول سيرته الشخصية، قال: "لست امتدادا للأحزاب الإسلامية سواء التنظيمات الجهادية أو الإخوان المسلمين، ولست مؤيدا لـ(الربيع العربي)".
قد ترمي هذه العبارة إلى إرسال رسائل طمأنة إلى دول عربية قلقة من ماضيه "الجهادي"، لكن واقع الحال أن باقي حديثه يدل على التحول الكبير. بالنسبة إليه، كل مرحلة تحكم بظروفها ومعاييرها، فقد ذهب إلى العراق قبل الغزو الأميركي في 2003 وسجن في 2005 ثم خرج وعاد إلى سوريا. بعد اندلاع الثورة، ركز كل القتال ضد النظام السوري، كما حاربت قواته "داعش" وحصلت اشتباكات كثيرة قتل فيها حوالي ألفي شخص من قواته، فأصبح هو "المستهدف رقم واحد لـ(داعش)".
كانت هناك معضلة بعد سقوط الأسد نهاية العام الماضي. شاركت في القتال ضده، إلى جانب قوات النظام، ميليشيات عراقية و"حزب الله" اللبناني بدعم من إيران. لم يذهب الشرع إلى التصعيد مع بغداد وبيروت، بل قرر "تصفير المشاكل" مع الجوار بطي صفحة الماضي ومخاطبة المستقبل بالمصالح والبحث عن المشتركات. وعندما سئل عن لبنان، تحدث عن "قهر الجغرافيا" وتجاوز "الجروح" التي فتحها "حزب الله" في سوريا وقرر "فتح صفحة جديدة بيضاء" عبر "دخول البيوت من أبوابها" فتحدث إلى الرئيس جوزيف عون ورئيس الوزراء نواف سلام، وركز على ضرورة استفادة لبنان من "الهبة الاقتصادية الكبيرة" في سوريا.
عندما أراد تقييم السوداني، قال: "أنا أتابع سياسات السوداني، إنه شخص يهتم بالتنمية". واتخذ قرارات كثيرة لتشجيع الاستثمار ودفع الإنتاج بمشاريع جريئة تلفت الأنظار
ينطبق الأمر ذاته على العراق. فرغم تدخل ميليشيات عراقية في سوريا- بل إن بعضها كان يقابل قواته على خطوط التماس شمال سوريا- فإنه قرر تجاوز جروح المعارك وأرسل رسائل طمأنة إلى بغداد بعد تحرير حلب في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. فالتقط رئيس الوزراء محمد شياع السوداني الرسالة، واكتفى بقرار حماية الحدود. اللافت أنه عندما أراد تقييم السوداني، قال: "أنا أتابع سياسات السوداني، إنه شخص يهتم بالتنمية". واتخذ قرارات كثيرة لتشجيع الاستثمار ودفع الإنتاج بمشاريع جريئة تلفت الأنظار. وهو عاكف على بناء الجسور بين البلدين خطوة-خطوة.
اهتمام الشرع بالملف الاقتصادي واضح أيضا في تعاطيه مع الشأن الداخلي. هناك رغبة وقرار لاستثمار موقع سوريا الجغرافي وطاقاتها، لجعلها عقدة ربط إقليمية ودولية. هناك رغبة في خلق مصالح اقتصادية وجيوسياسية لدول كثيرة وربط مصالحها بدعم الاستقرار، لتصبح سوريا نقطة تعاون بدلا من ساحة صراع. تحدث بالتفصيل عن مشاريع ربط مينائي طرطوس واللاذقية بموانئ عربية، وتصدير النفط العراقي عبرهما، ومد سكك حديد وخطوط الغاز من الخليج إلى تركيا، وتحويل سوريا أيضا عقدة ربط لخطوط الإنترنت وتقديم حلول لمشاكل الأزمة في سلاسل التوريد.
هناك قناعة بأن ميزة طبعت كل عصر. هناك عصر السحر وعصر الطب وعصر الأدب. أما عصرنا فهو عصر التنمية والأرقام. والتحدي هو وضع سوريا الجريحة والطموحة في عصر التنمية
كل هذا يقوم تحت مظلة الانتقال من "ثقافة اقتصادية شرقية إلى ثقافة اقتصادية غربية"، أي الاعتماد على القطاع الخاص في "تحقيق النهضة الاقتصادية" وتركيز دور الدولة على التنظيم بدل الملكية.
لا شك أنه في موازاة تلك الرؤية الطموحة هناك حاجة لمعالجة ملفات أخرى لا تقل أهمية، تخص وحدة سوريا ومستقبل المفاوضات مع شرق الفرات حيث الثروات الاستراتيجية وملفي الساحل والسويداء والمفاوضات مع اسرائيل وترتيبات الجنوب.
وفي موازاة المشاريع الكبيرة التي تضمنت مذكرات تفاهم في مجالات الطاقة والإعمار والنقل لمشاريع استراتيجية، هناك حاجة لضمادات وجرعات لمعالجة ملفات داخلية. فبعد 14 سنة هناك 15 مليون مهجر بين لاجئ ونازح، و4 ملايين منزل مهدم وعائلات مليون قتيل و140 ألف مغيّب، ومليونا جريح، ودمار كبير في البنية التحتية. وكما قال أحد الخبراء: "مع المترو نريد الميكرو"، أي بالتوازي مع التفكير في بناء مترو استراتيجي لدمشق نريد توفير إمكانية استخدام الحافلات لعموم الناس.
هناك قناعة بأن ميزة طبعت كل عصر. هناك عصر السحر وعصر الطب وعصر الأدب. أما عصرنا فهو عصر التنمية والأرقام. التحدي هو وضع سوريا الجريحة والطموحة في عصر التنمية.